عدد رقم 1 لسنة 2019
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
ما بين دِينَة وٱلسَّامِرِية  

«وَكَانَ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَجْتَازَ ٱلسَّامِرَةَ. فَأَتَى إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ ٱلسَّامِرَةِ يُقَالُ لَهَا سُوخَارُ، بِقُرْبِ ٱلضَّيْعَةِ ٱلَّتِي وَهَبَهَا يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ ٱبْنِهِ.  وَكَانَتْ هُنَاكَ بِئْرُ يَعْقُوبَ» (يو4: 4-6).

مِن ذات البقعة تقريبًا:

«خَرَجَتْ دِينَةُ ... لِتَنْظُرَ بَنَاتِ الأَرْضِ» (تك٣٤: 1)

«وٱلْعَيْنُ لَا تَشْبَعُ مِنَ ٱلنَّظَرِ» (جا١: ٨).

«وعَيْنَا ٱلْإِنْسَانِ لَا تَشْبَعَانِ» (أم27: 20).

وخرجت أيضًا السَّامِرِية لتشرب ...

«كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضًا» (يو٤: ١٣).

وهكذا كانت هذه المرأة ”كَأَرْضٌ لاَ تَشْبَعُ مَاءً“ (أم30: 16).

وكان لا بد له أن يجتاز الضيعة التي ضاعت فيها مَن خرجت وحدها لتنظر، ليسترد منها مَن خرجت وحدها أيضًا لتشرب!

هل أشفق يومها عليها وهي تشير إلى بئر يعقوب قائلة: «أَبِينَا يَعْقُوبَ ... أَعْطَانَا الْبِئْرَ، وَشَرِبَ مِنْهَا هُوَ وَبَنُوهُ وَمَوَاشِيهِ» (يو4: 12)؟

هل أراد أن يقول لها: وماذا بعد أن شربت أختك دِينَةُ من هذه البئر؟  لقد شربت ثم خرجت لتنظر بنات الأرض، فرآها رئيس الأرض وأذلها ونجَّسها وجعلها نظير زانية.  ولما سمع أبوها بما جرى لها، سكت!  فلم يستطع يعقوب أبوها أن يُخلِّصها.  كما لم تستطع بئره أن ترويها.

لم تستفد دِينَةُ من كون يعقوب أبيها، ولم تستفد السامرية من قولها: «أَبِينَا يَعْقُوبَ»، كما لم يستفد الغني من نداءه: «يَا أَبِي إِبْرَاهِيمُ» (لو16: 24)!!

لكن إن كان يعقوب يومها سكت عن ابنته، فيسوع المسيح المخلص لم يسكت ... بل أتى خصيصًا ليُنقِذ ابنة يعقوب ... لقد جاءها ماشيًا حتى التعب «فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ السَّفَرِ، جَلَسَ هَكَذَا عَلَى الْبِئْرِ».

وكما نهض موسى من على البئر، وأنجد بنات يثرون من أيدي الرعاة، نهض المُخلِّص وأنجد السَّامرية من أيدي الرعاع الستة الذين ربما استغلوا عطشها واحتياجها واحدًا تلو الآخر.

وهذا هو العالم الذي يَعِد بأنه يعطي ... ولكنه يظل يأخذ، يأخذ الأملاك، أولاً ثم النفوس (تك14: 21).  كــ”شِيشَقُ مَلِكُ مِصْرَ“، ومعنى اسمه ”اللامع“، أو ”مَنْ يُعطي شرابًا“، وكأنه يَعِد بالارتواء، وما لمعته إلا لمعة السراب في الصحراء!  وما شرابه سوى الخمر الدون التي تُسكر الإنسان فتغيّب عقله، ليصبح فريسة سهلة الانقياد.  لقد كانت هذه هي حالة المرأة التي سكنت في سُوخَار، والتي يحمل اسمها نفس المعنى أيضًا: ”سكرى“!  وبالفعل لم يعطِ ”شِيشَقُ“ أي شيء، بل أخذ كل شيء!  «أَخَذَ خَزَائِنَ بَيْتِ الرَّبِّ وَخَزَائِنَ بَيْتِ الْمَلِكِ (الغِنى)، وَأَخَذَ كُلَّ شَيْءٍ.  وَأَخَذَ جَمِيعَ أَتْرَاسِ الذَّهَبِ (القوة)» (١مل١٤: ٢٥).

وبدل أن يتضع ”رَحُبْعَامُ“ ويرجع إلي الرب، فيرد له ما سُلب منه، نجده بالأسف يبدل مجده بما لا ينفع!  فاستبدل أتراس الذهب بأتراس نحاس، مُحافظًا بذلك على المظهر الخارجي، لكن بجوهر فارغ، وكأن شيئًا لم يكن! (1مل14: 27).

وبالمثل فتحت السَّامرية حوارها مع الرب عن السجود، فربما أرادت هي أيضًا تغطية جوهرها الفارغ بمظهر روحي.  وهي في ذلك تُشبه المرأة التي غطت فم بئرها مخبئةً ضيوفها بأعماقه!  «فَأَخَذَتِ ٱلْمَرْأَةُ وَفَرَشَتْ سَجْفًا عَلَى فَمِ ٱلْبِئْرِ، وَسَطَحَتْ عَلَيْهِ سَمِيذًا، فَلَمْ يُعْلَمِ ٱلْأَمْرُ» (٢صم١٧: ١٩).

ولكن هناك - بقرب الضيعة التي وهبها يعقوب ليوسف ابنه - كُشفت الحقيقة، فنفس الإنسان سراج الرب، يفتش كل مخادع البطن.  رأى الرب ما وراء هذا الحوار كله، وكشف بنوره الفاحص حتى أبعد نقطة في بئرها المُغطى.

بدأت القصة بذكر يوسف الحقيقي، صفنات فعنيح، كاشف الأسرار، ومُخلِّص العالم (تك41: 45).  بدأت ”بِإِنْسَان قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ» (يو4: 29).  بدأت بمعرفتها مَن هي على حقيقتها، لكنها انتهت بمعرفة مَن هو على حقيقته: «وَنَعْلَمُ أَنَّ هَذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ الْمَسِيحُ مُخَلِّصُ الْعَالَمِ» (42).

لقد كُشِفَ الداء، لأنه كاشف الأسرار.  وقدَّم الدواء لأنه هو الطبيب المُخلِّص، الذي لا يكشف إلا ليُعالِج.  تُرى ماذا عنا؟  ماذا عن ردة فعلنا عندما نكتشف أننا قد سُلبنا كل غالٍ ونفيس؟  هل نصرخ معترفين تائبين: «أَيُّهَا ٱلرَّبُّ إِلَهُنَا، قَدِ ٱسْتَوْلَى عَلَيْنَا سَادَةٌ سِوَاكَ» (إش٢٦: ١٣)، «وَيُوجَدُ مِنْ بَنَاتِنَا مُسْتَعْبَدَاتٌ» (نح٥: ٥)؟

ترى ماذا عني؟  ابنة من أنا؟  وبأية هوية أخرج لمواجهة العالم كل صباح؟

كيف أخرج؟  وبأي وجه أخرج؟  هل أخرج كابنة يعقوب المُختالة التي تحوز إعجاب العالم، وتستعذب ملاطفات رئيس هذا العالم، ومن ثم يجرّها ليذلها؟

ولِمَ أخرج؟  وبأي تَوَّجه أخرج؟  هل أخرج لأنظر بنات الأرض، أم لأشرب من ماء كل مَن يشربه يعطش أيضًا؟

ومع مَن أخرج؟  هل لازلت أخرج بمفردي؟  أم أدعوه: «تَعَالَ يَا حَبِيبِي لِنَخْرُجْ (سويًا) إِلَى ٱلْحَقْلِ» (نش٧: ١١)؟  هل أُرَى الآن بصُحبة مَن تُحبُّه نفسي ... «مَنْ هَذِهِ ٱلطَّالِعَةُ مِنَ ٱلْبَرِّيَّةِ مُسْتَنِدَةً عَلَى حَبِيبِهَا؟» (نش8: 5)؟  هل عرفت ضعفي وصرت أخمع، ومن ثَم أسعي ضعيفًا مستندًا عليه، حتي كل المجد يرجعن إليه؟

وأخيرًا:

مَن قال يومًا فوق الصليب: «أَنَا عَطْشَانُ» (يو19: 28)

هو نفسه مَن قالها للسامرية: «أَعْطِينِي لِأَشْرَبَ» (يو4: 7).

فهل نرد له جواب العذراء العفيفة: «ٱشْرَبْ يَا سَيِّدِي» (تك٢٤: ١8)؟

اشرب خضوعًا من قلبٍ أدار ظهره لرئيس الأرض، ولبنات الأرض.

واشرب رجوعًا عن الآبار المشققة والجرار الفارغة.

واشرب صدقًا من قلب قد تخلى عن السجف والسميذ وأوراق التين.

اشرب يا سيدي من أيدٍ طاهرة، كفت عن حمل أتراس النحاس، وعن غسل الأباريق والطسوس والآنية.

اشرب يا سيدي وارتوِ، وأروني من ماء كل مَن يشربه لا يعطش أيضًا، ولا يعود لآباره القديمة ليستقي!

مريم وهيب







 

 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com