في بلدة قروية
صغيرة تُدعى ”الناصرة“، تكتنفها جبال الجليل، وفي إحدى طرقات القرية، يقع النظر
على دكان نجار ريفي، يعمل أمام منضدته بالمنشار والقادوم والإزميل، ويصنع المناضد
والمقاعد والمحاريث والأنيّرة،
لعملائه في تلك النواحي؛ يعمل بجد ونشاط، وفي غبطة وهناء، وقلبه مفعم بأفكار
خطوبته، والبيت الذي ينوي إعداده للحياة الزوجية، بالرغم من أنه كان يعلم أنه جاء
من نسل سليمان الملك ابن داود، وأنه الوريث الشرعي لعرش داود، وأن الأيام قد دارت
به وببيته العظيم، حتى وصل إلى ما وصل إليه من ضيق وضنك وفاقة وفقر، فعوضًا أن
يكون ملكًا، كان نجارًا، مُحتقرًا، غير معروف، حتى لم يكن هيرودس المُختلس لكرسي
داود يسمع به.
وعلى مقربة منه في القرية، تقطن خطيبته: ”مريم بنت هالي“، هي
أيضًا فتاة قروية، ولو أنها – مثل خطيبها ”يوسف بن يعقوب بن مَتَّان“ –
من دم ملكي، إذ أنها جاءت من نسل ناثان بن داود الملك. وهي تعمل في بيتها في الغزل وإعداد الخبز،
واستقاء الماء من البئر، عند المساء، مع الفتيات الأخريات في القرية. وإنني دائمًا أتخيَّلها فتاة قد اكتست بالجلال
والوداعة والتواضع والرقة، وأصوّرها لنفسي بوجه جميل هادئ، يتفق مع جمال نفسها
وصفاتها، ويحلو لي دائمًا أن أصفها بأنها: ”فتاة حسب قلب الله“.
ومَن ذا الذي كان يحلم يومًا ما، أن تُجرى معجزة الأجيال في هذا الوسط
البسيط الفقير؟! ففي ذات يوم (أو ذات
ليلة)، اضطربت تلك الفتاة الوديعة المُتضعة، وهي تُصلي، واكتنفتها رهبة عظيمة، إذ قد
ظهر لها ملاك من السماء، لتسمع آذانها صوت من العالم غير المنظور: «سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ
عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ».
وفي تلك الساعة، وهي تحني هامتها في هيبة ودهشة، يأتيها الإعلان الهائل،
ويُنبئها ذلك الصوت الملائكي، بأن رجاء إسرائيل، ورجاء كل الأجيال الطويلة، سيكمل
أخيرًا:
«لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ
اللهِ. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ
وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ.
هَذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ
الإِلَهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى
الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ ... اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ
عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذَلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ
الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ» (لو1: 26-38).
لقد حمل كلام الملاك إلى مريم شرفًا عظيمًا جدًا، لم تنعم بمثله امرأة
أخرى، لكنه أيضًا كان يحمل في طياته مخاطر غير قليلة لسمعتها، وتجارب ليست هينة
لإيمانها.
ماذا تقول للعالم؟ وماذا تقول
لخطيبها؟ ومَن سيُصدِّق هذه القصة
المُقدَّسة التي لم تأتِ إلا عن طريق مريم نفسها؟!
كانت مريم تعرف المصدر الإلهي للجنين الذي في بطنها. لكن كيف تُبرهن ذلك للآخرين؟
لقد نالت أعظم شرف وامتياز ممكن أن تناله امرأة في العالم، لكنها تعرضت لأسوأ
ما يمكن أن توصف به المرأة. ما أشد فرحتها بأن تكون أم المسيا المنتظر،
والمخلِّص الموعود به. لكن ما أقسى آلامها،
وقد بدأت تفطن إلى الريبة والشك القاتل في نظرات الناس من حولها، لا الناس فحسب،
بل حتى خطيبها ذلك الرجل البَار، الذي كادت تمزقه الوساوس والشكوك.
ودعونا الآن نتحوَّل لنتأمل في صفات هذا الرجل البَار، وفي الصراع الرهيب
الذي اجتازت نفسه فيه، وفي تصرفه ونبله الإنساني الرفيع، وكيف ترفق به الله، وهدأ
مخاوفه، وأراحه من جهة امرأته مريم:
أولاً: يوسف الفقير البَار:
من الواضح أن الرجل كان فقيرًا جدًا، وفقره العميق كان ظاهرًا في التقدمة
التي قدَّمتها امرأته بعد ميلاد الرب يسوع، فقد قدَّمت تقدمة الفقراء: «زَوْجَ
يَمَامٍ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ» (لو2: 24).
ويا للوضع المُحزن عندما يُصبح الوريث لعرش داود، نجارًا فقيرًا!
ولنلاحظ أيضًا أن الأمَّة اليهودية احتقرت المسيح لأنه من الجليل (يو7: 52)،
والجليل احتقرته لأنه من الناصرة؛ المدينة المُحتقرة في هذا الإقليم المُحتقر
(يو1: 45، 46)، والناصرة احتقرته لأنه ابن يُوسف النَّجَّار (لو4: 16، 22؛ يو1:
45؛ 6: 42).
ولكن لنتحوَّل عن الإنسان، لنقرأ ما وصف به الوحي المقدس يوسف: «يُوسُفُ ... كَانَ بَارًّا» (مت1: 19).
ومن المهم جدًا اعتبار الزمان الذي يحيا فيه الإنسان، والمكان والظروف
والمؤثرات التي تُحيط به. ففي أيام
الصلاح، عندما تنتشر التقوى ومخافة الله، لا يكون عجيبًا أن يحيا الإنسان
بالبر. ولكن عندما تمتلئ الأيام بالشر،
وتكون الروح السائدة هي روح العالم والخطية، فإن الحياة المُقدَّسة البارة؛ حياة
التكريس والتقوى، تلمع بلمعان نادر، مثل سراج منير وسط الظلمة الحالكة.
هكذا كانت الأيام التي عاش فيها “يوسف النَّجَّار“. وفي وسط نجاسة وشراسة الهرادسة،
ووسط الفساد المستشري للكهنوت وخراب الهيكل، ووسط رياء الفريسيين، وعبودية وقسوة
الرومان، عاش ”يوسف“ بَارًا؛ بمعنى أنه كان يحيا في التقوى وفي مخافة الله،
مُطيعًا لوصاياه، بلا لوم، وله ضمير بلا عثرة من نحو الله والناس.
والدرس هنا: إنه لا يليق بنا أن نُشابه الآخرين، إذا كان هؤلاء لا يعيشون
العيشة الواجبة المرضية. إن المستوى
السائد للمعيشة والأخلاقيات والأدبيات، يجب ألا يُرضينا إذا كان المستوى
منخفضًا. فمهما كانت الأيام مليئة
بالفساد، يجب علينا أن نُجاهد لنحيا حياة تقوية بارة. وهذا ليس بالمستحيل، فالله قادر، بل ويرغب، أن
يُعطينا كل ما نحتاج إليه من نعمة، لنحيا حياة حقيقية ومُقدَّسة، في وسط أردأ
الظروف وأصعبها (2بط1: 3، 4). وهو يعمل
هذا إن كان هو الذي حقًا قد وضعنا في هذه الظروف.
لذلك فمهما كانت ظروفنا، فإنه من الميسور لنا أن نحيا حياة التقوى
والصلاح. وبقدر ما يزداد ليل الخطية حولنا
ظلامًا، بقدر ما ينبغي أن تنبعث من حياتنا أشعة النور الواضحة المستمرة.
وهكذا عاش ”يُوسف النَّجَّار“ في أحلك الظروف، وفي أسوأ الأوقات، وفي أكثر
الأماكن احتقارًا، ولكنه عاش مرتفعًا منتصرًا على التجارب والمآسي التي اعترضت
طريقه، ولم ينحرف قَطّ عن السبيل المستقيم الذي أراد الرب له أن يسلك فيه. كان رجلاً ذا أخلاق فاضلة وعزيمة قلبية
ثابتة. كان شجاعًا، وامتاز بالأمانة
الصحيحة في حياته الخاصة والعلنية، بالرغم من أنه كان يعيش فقيرًا في قرية مُحتقرة،
وفي أيام أقل ما توصف به أنها ”أيام شريرة“.
ثانيًا: يوسف ورفضه للإشهار:
ولنتأمل في تصرف يوسف ونبله
الإنساني الرفيع، عندما برزت
الأزمة الخطيرة، وعلِم أن خطيبته حُبْلَى!
لقد كان عقل يوسف يتمزق! فإذا كانت المُطوَّبة مريم تقول للملاك: «كَيْفَ
يَكُونُ هَذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟» (لو1: 34)، فماذا يمكن أن يقول
الرَّجل الذي لم يرَ الرؤيا، ولم يسمع صوت الملاك؟!
إن الخِطبة عند اليهودي كان لها أبعاد أكثر اتساعًا من مفهوم الخِطبة في
وقتنا الحاضر، إذ كان عهد الخِطبة هو أشبه بالزواج الذي ينتظر الممارسة الفعلية في
يوم الزفاف. ومنذ أن يدخل الخطيبان في عهد
الخِطبة، يُصبحان – أمام الله والناس – زوجين، أجلا تنفيذ الزواج، إلى أن يتم
الاحتفال العلني به. ولهذا فإن أية مخالفة
لهذا العهد، تحكمه قواعد الحياة الزوجية سواء بسواء. والفتاة التي تخون عهد الزوجية كانت تُعامل في
الشريعة اليهودية دون أدنى رحمة أو تساهل، إلى حد الموت رجمًا!
وعندما ثارت الشكوك والريبة حول مصدر حَبَل المُطوَّبة مريم، كان أمام
يوسف خطيبها سبيلان للتخلص منها:
السبيل الأول: وهو السبيل العلني والإشهار، إذ يتهمها بالزّنا، وهكذا يتخلَّص منها كلية، مع ما في هذا من تشهير
رهيب بسمعتها ومركزها، فيُعطيها كتاب طلاق لِعِلَّةِ الزِّنَى، ولكن هذا السبيل قد
يؤدي إلى رجمها.
السبيل الثاني: وهو السبيل السري، إذ يُخليها من الرابطة الزوجية سرًا، أمام اثنين من الشهود. وهو لا يتهمها في هذه الحالة بنفس التهمة التي
يُمكن أن تكون في الإخلاء العلني، بل هو إخلاء مبني على الكراهية، ولكن ثمرة
الحَمْل التي لا بد وأن تأتي، تُحسَب في هذه الحالة منه، وتنسَب له! وهو ما سيجعل الكل يتهمونه بما لم يفعله، مِن
أنه لم ينتظر إشهار الزواج أمام الشهود، ليعرف خطيبته، ويُتمّم العلاقة
الجسدية. وهذا ما سيجعل كل مَن حوله يُشكك
ويطعن في أخلاقياته وأدبياته، وخاصة وها هو يتخلى عن خطيبته بعدما فعل ما فعل،
بحسب الظنون في هذه الحالة.
ولقد قرَّر يوسف أن يسلك السبيل السري، بالرغم من كل ما يمكن أن يتعرَّض
له شخصيًا «فَيُوسُفُ رَجُلُهَا إِذْ كَانَ بَارًّا،
وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يُشْهِرَهَا، أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرًّا» (مت1: 19).
فيا للمحبة! ويا للعطف! ويا
للطف! ويا للسماحة! ويا للرقة!
ويا للحنان! ويا للإيثار! ويا للتضحية!
عند هذه اللحظة بالذات، وليوسف النجار، الرجل البار المحتار، أتت رسالة
السماء لتُنقذه من حيرته: «فِيمَا
هُوَ مُتَفَكِّرٌ فِي هَذِهِ الأُمُورِ، إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لَهُ
فِي حُلْمٍ قَائِلاً: يَا يُوسُفُ ابْنَ دَاوُدَ، لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ
مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ، لأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ
الْقُدُسِ». ولقد
كان هذا كافيًا تمامًا لإزالة الشك والريبة من قلب يوسف وفكره «فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ يُوسُفُ مِنَ النَّوْمِ
فَعَلَ كَمَا أَمَرَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ، وَأَخَذَ امْرَأَتَهُ. وَلَمْ يَعْرِفْهَا حَتَّى وَلَدَتِ ابْنَهَا
الْبِكْرَ. وَدَعَا اسْمَهُ يَسُوعَ» (مت1: 18-25).
ونحن لا نعلم كم من السنوات عاشها يوسف مع الرب يسوع، إذ لا نسمع عنه بعد
الاثنتي عشرة سنة الأولى من حياة الرب (لو2: 41-52). لقد أوحي إليه بالذهاب إلى مصر مع الصَّبي
ومريم أُمِّهِ، هربًا من سيف هيرودس، وبقي هناك حتى عاد إلى الناصرة، بعد موت
هيرودس (مت2: 13-23). ونحن نعلم أن الرب
أخذ حرفة النجارة عنه، وأنه كان خاضعًا له ولأُمِّهِ، في كل شيء. ولقد شاطر يوسف، الرب يسوع ، الحياة في بيت
واحد. فيا لعظم المسؤولية! ويا لروعة الامتياز!