عدد رقم 6 لسنة 2017
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
النهضة الحقيقية وتأثيرها  

ماذا تعني كلمة ”نهضة“؟

هل النهضة في الكنيسة المحلية تحدث عندما تمتلئ قاعات الكنيسة بالمستمعين الذين لبوا الدعوة التي نظمتها الكنيسة أو فريق الخدمة بها، بعد إعداد برنامج كرازي أو تعليمي لبضعة أيام، حيث يُقدِّم كلمة الله أحد المُعلِّمين أو الكارزين الموهوبين، وحيث تتاح الفرصة أن تصل رسالة الإنجيل إلى كثيرين، ليرجعوا إلى الرب ويولدوا من الله، ثم يقوم بعض الخدام بمتابعتهم من أجل بنيانهم ونموهم في الإيمان؟ وقد تتكرر تلك البرامج العظيمة والمباركة عدة مرات خلال العام.  لكن يبقى السؤال: هل النهضة هي امتلاء الكنائس بالمؤمنين العابدين والشاهدين، أو بالخطاة التائبين، أو بتعدد المواهب وكثرة مجالات الخدمة بشكل غير مسبوق؟

بالطبع إن هذه الأمور رائعة ومشجعة، لكن يبقى السؤال هل هذه هي النهضة؟

دعونا نبحث معًا ليس بغرض دراسة الموضوع بشكل نظري أو أكاديمي بحت، بل بروح الصلاة ورغبة مقدسة ملحة أن نختبر تغييرًا حقيقيًا، ليس مراده أن نرتقي نحن، بل أن يُكرم سيدنا الحبيب في حياتنا الشخصية وشهادتنا الجماعية، لكي نكون في الحال الذي يتوافق مع مسرة مشيئة ربنا المعبود، ليُتمِّم خطته العظيمة التي قصد أن تتم في جيلنا.

إن كلمة نهضة في لغتنا العربية مصدرها الفعل ”نهض“ أي ”الاستيقاظ والنهوض، بعد نوم وسبات“.  الكلمة في الإنجليزية Revival تعني إعادة الحياة من جديد لكيان ذبل وجف، وظهرت عليه علامات الجفاف والموت.  والنهضة هنا معناها أن مظاهر الحياة قد بدت من جديد، ففاحت رائحتها وعادت نضارتها. 

ويمكن ببساطة أن نقول أن النهضة تبدأ عندما يستيقظ الفرد من غفلة الجهل وبلادة الكسل وبرودة الموت؛ عندما يشرق نور كلمة الله المحيية، فتفضح ظلمة الخطية وتدين السلوك المشين.  نعم، عندما نستيقظ من النوم الروحي «نَخْلَعْ أَعْمَالَ الظُّلْمَةِ وَنَلْبَسْ أَسْلِحَةَ النُّورِ.  لِنَسْلُكْ بِلِيَاقَةٍ كَمَا فِي النَّهَارِ».  وقد صاغها الروح القدس في كلمات وجيزة لكن بصورة حية وبليغة: «الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ، وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيرًا لِلْجَسَدِ لأَجْلِ الشَّهَوَاتِ» (رو13: 11-14).

 

متى تحدث نهضة في حياة مؤمن؟

النهضة الروحية ليست شيئًا يُصنع، بل شخصًا يلمع.  ليس أمرًا جيدًا نُتمّمه، بل سَيِّدًا نُكرمه.  النهضة تحدث عندما تنتج وتظهر حياة المسيح المجيدة في كيان المؤمن.  وتظهر بشائر النهضة فينا كجماعة عندما تمتلئ بيوتنا – قبل كنائسنا - من مخافة الرب، وتمتلئ اجتماعاتنا من مجده وروعة حضوره المجيد، وتتعطر مجتمعاتنا - أوساط عملنا وأماكن إقامتنا - برائحة المسيح الطيبة التي تجذب القريب والبعيد. 

النهضة تحدث عندما يتلألأ مجد المسيح في كل مجالات الحياة؛ عندما يستأسر كل فكر لطاعة المسيح.  تحدث النهضة وسط الجماعة عندما ترجع إلى الرب وليس إلى الخدمة في حد ذاتها أو إلى الأنشطة الكنسية.  حينئذ سيكون كل واحد تحت رايته يُتمّم مشيئته، لنُعطي الروح القدس أن يأخذ حريته كي يحقق بنا مقاصده، وليس من أجل تنمية قدراتنا أو تشغيل مواهبنا وإظهار مهاراتنا وإبداعاتنا.

نعم، النهضة ليست في استعراض المواهب الروحية، بل في انتشار رائحة المسيح الزكية.

النهضة وصيحتها:

تعبير ”صيحة النهوض“ تعبير مألوف في تاريخ الشعوب، نظرًا لأن كل نهضة يسبقها نداء بل صيحة أو صرخة توقظ الأفراد والشعوب.

إننا نرى هذا أيضًا من خلال دراستنا للتاريخ المقدس المدون على صفحات الوحي الإلهي، سواء في تاريخ الشعب القديم، كما هو مذكور في أسفار العهد القديم، أو في تاريخ الكنيسة كما نقرأه من كتابات القديسين.

في كليهما قد حدثت نهضات لا يمكن إنكارها.  تتفق كلها في أن النهضة بدأت بأفراد أوقفوا حياتهم للرب، والتهبت قلوبهم بغيرة مقدسة على مجد الرب، فخرجت من تلك القلوب النقية صرخة مدوية، قد أيقظت شعوبهم في أجيالهم.

تلك الصرخات التي سبقت النهضات لم تكن شعارات فارغة، وراءها أجندة أغراض شخصية، ومُغلفة في لفافة الدين، كما يفعل الكثيرون من المُغرضين المتربحين بهذا الربح القبيح في هذه الأيام.

إن الصيحات التي نحن بصددها هنا هي صرخات صادقة انطلقت من قلوب لم تبتغِ صيتًا أو مغنمًا، بل من قلوب منكسرة، وفي ذات الوقت عامرة بغيرة مقدسة مخلصة، تراعي مجد الرب فوق أي اعتبار آخر، لم تُطفئها سيول المقاومة العاتية، ولم يحبطها برودة ردود الأفعال، أو موجات الانتقادات اللاذعة. 

 

 

نهضات سبقتها صرخات:

إنها الصرخات التي أيقظت أفرادًا وشعوبًا غافلة في سبات، وأحيت شهادة فاضلة بعد ممات.

-       جاء صوت الرب ليعقوب وهو في محنته في شكيم: «قم اصعد إلى بيت إيل وأقم هناك.  فقال يعقوب لبيته ولكل من كان معه: اعزلوا الآلهة الغريبة، وتطهروا وأبدلوا ثيابكم، ولنقم ونصعد إلى بيت إيل فأصنع هناك مذبحًا لله» (تك35: 1 - 3)، وتجاوب الكل معه وصعدوا إلى بيت إيل. 

-          وفي أيام صموئيل دوت صرخته: «لاَ تَخَافُوا. إِنَّكُمْ قَدْ فَعَلْتُمْ كُلَّ هَذَا الشَّرِّ، وَلَكِنْ لاَ تَحِيدُوا عَنِ الرَّبِّ، بَلِ اعْبُدُوا الرَّبَّ بِكُلِّ قُلُوبِكُمْ» (1صم12: 20)، لمراعاة مخافة الرب.

-          وفي أيام إيليا دوت صرخته: «حَتَّى مَتَى تَعْرُجُونَ بَيْنَ الْفِرْقَتَيْنِ؟» (1مل18: 21)، داعيًا الشعب للرجوع إلى الرب.

-          وفي أيام يوشيا دوت صرخته: «اعْمَلُوا حَسَبَ كُلِّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي هَذَا السِّفْرِ» (2أخ34: 21، 30، 31)، للرجوع إلى شريعة الرب.

-          وفي أيام عزرا دوت صرخته: «اعْمَلُوا مَرْضَاتَهُ، وَانْفَصِلُوا عَنْ شُعُوبِ الأَرْضِ وَعَنِ النِّسَاءِ الْغَرِيبَةِ» (عز10: 11)، لكسر النير الذي ربطهم بالعالم الشرير.

-          وفي أيام نحميا دوت صرخته «هَلُمَّ فَنَبْنِيَ سُورَ أُورُشَلِيمَ وَلاَ نَكُونُ بَعْدُ عَارًا» (نح2: 17)، للبناء والترميم.

-          وفي أيام يوحنا المعمدان دوت صرخته  مناديًا بالتوبة: «تُوبُوا، لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ» (مت3: 2)، إلى أن كلَّل نداءه الصارخ بإشارته للمخلص الذي جاء ليعد له الطريق بقوله: «هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ!» (يو1: 29، 36).

وتاريخ الكنيسة يسجل لنا أيضًا نهضات حقيقية دوت فيها صرخات كان لها وقعها وتأثيرها العميق على المؤمنين في كل واحدة من هذه النهضات التاريخية.

-          كانت الكنيسة نائمة وغارقة في وثنية الدين، وقد ابتعدت جدًا عن المكتوب، واختفى المسيح من حياة المدعوين مسيحيين، مستبدلين إياه بأقنعة دينية ومتع دنيوية، فصرخ مارتن لوثر صرخته المعروفة: “الكتاب، والكتاب وحده”، فرجعت شعوب كثيرة، لتجد إعلان الخلاص والتبرير بالإيمان، الذي غاب لسنين بل قرون طويلة وعصور مظلمة.  

-          ثم صرخ جون داربي في القرن التاسع عشر “اخرجوا الثمين من المرذول”، ليرد القلوب إلى المكتوب وإعلانات الروح القدس الذي يفسر الحق باستقامة.  فحين يأخذ الرب مركزه الصحيح، والكلمة تقوم بالتصحيح، تستقيم حياة الإيمان.

-          في أيام سبرجن رأى أن سلال العظات قد زاد فيها التبن عن الحنطة ولمعت فيها الإنجازات الشخصية وأمجاد الذات، بينما غاب المسيح من المشهد فصرخ صرخته “املئوا الأجران ماء، املئوا سلالكم حنطة، املئوا عظاتكم بالمسيح”.

 

كيف تنطلق شرارة النهضة الحقيقية؟

النهضة الروحية ليست انسكابًا لقوة خارقة تنطلق فتكتسح، ولا تُولد في قلوب الجبابرة ذوي القدرات الفائقة.  كلا، بل النهضة تُولد من رحم التذلل والانكسار، والشعور بالحاجة الشديدة للرجوع إلى الله وكلمته بكل القلب.

النهضة هي انتصار يسبقه انكسار واتضاع، هي ابتهاج يسبقه صراخ ودموع. 

النهضة هي فيضان يسبقه شعور مؤكد بالفراغ والجدوبة والجفاف الشديد.

 النهضة هي استنفار من وحل الخطايا، ورفض زيف الادعاء وطرح أقنعة الرياء.

النهضة هي انتفاضة من حالة البلادة والرخاوة والكسل، واعتياد الضعف والانهزامية.

النهضة هي إحياء يتم بعمل الروح القدس، الذي يُحيي روح المتضعين، كما يفعل ندى السماء في نبات السوسن الصغير.

النهضة تحدث عندما تنتشر رائحة المسيح في البيوت والكنائس، وكل مجالات الحياة.

النهضة تبتغي إكرام ومجد ولمعان اسم واحد وحيد؛ اسم ربنا المجيد.

قارئي الكريم: لا تشغل نفسك بفكرة أن تكون بطلاً يحكي التاريخ عنه كأحد ”رواد النهضة“، كما يُلقب المؤرخون أولئك الذين بدأ الرب بهم عملاً عظيمًا له.  نعم إنهم يستحقون أن يُكرَّموا من الرب كما أكرمُوه، رغم أنهم لم يسعوا لذلك في أيامهم، ولم يُفكروا لحظة أن يكونوا نجومًا لامعة في سماء التاريخ.  إن أكثرهم حملوا عار المسيح، وكانوا مشهورين بالألم والرفض، ومعروفين بمعاناتهم ومقاومة الناس لهم.  صلي كثيرًا، واشغل قلبك وفكرك بأن تكون في ملء مشيئة الله حتى يستخدمك كما يحسن في عينيه، ليحقق بك ما قصد حسب مسرة مشيئته، ليتعظم اسمه وحده في كل ما تقوله وتفعله من أجله.


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com