عدد رقم 6 لسنة 2017
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
المفهوم الصحيح لتبعية المسيح (8)  


   سنناقش بنعمة الرب في هذا المقال مسألة علاقة المسيحي بالقضايا المتعلقة بأحوال العالم سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، والحقيقة إن هذه القضية تقع في صُلب كلامنا عن تصحيح المفاهيم التي انتشرت عن معنى تبعية المسيح، ذلك لأن الشيطان لم ولن يكف عن تقديم خروف الفصح الحقيقي ربنا يسوع المسيح، ليس مشويًّا بالنار ولا حتى مطبوخًا عليها بل نيئًا، فالكثيرون من المسيحيين يتفاخرون بأن تعاليم المسيح هي تعاليم المحبة وفعل الخير وصُنع السلام، فيرون فيه المعلم الذي يستطيع أن يزرع في تابعيه بذور التعايش السلمي في المجتمع، ومبادئ قبول الآخر واحترام حريته بغض النظر عن الاختلافات المتعددة بين الناس، ومن ثَمَّ تأسيس عالم صحي سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، ومن هنا كان يجب علينا التوقف بعض الشيء أمام علاقة المسيح بالعالم في ثلاث مراحل متعاقبة، في مجيئه الأول، ثم في الوقت الحاضر، وأخيرًا في مجيئه الثاني لإقامة المُلك.

علاقة المسيح بالعالم

أولاً: في مجيئه الأول

   في مطلع إنجيل يوحنا نستطيع أن نقرأ كلامًا أوجز فيه الروح القدس علاقة المسيح بالعالم في مجيئه الأول عندما قال على فم يوحنا الرسول: كان في العالم، وكُوِّن العالم به، ولم يعرفه العالم (يو1: 10) نعم هو قد جاء بالجسد في العالم المادي كما أنه كان في الوقت ذاته الله خالق هذا العالم المادي بما فيه البشر، إلا أن النظام العالمي بكل أركانه لم يعطِه حق قدره لأنه لم يعرف حقيقته، والسبب أن هذا النظام العالمي يرأسه الشيطان (يو14: 30)، لم يختلط المسيح أبدًا بهذا النظام بدعوى أنه سيعمل على إصلاحه، لقد كان الدين هو أحد أهم أركان هذا النظام، وكان الفريسيون هم من أخذوا على عاتقهم مسؤولية حفظه (مت23: 2،1).  لم ينضم المسيح إلى هذا الكيان، بل بالعكس أدانه وفضح رياءه، فكان من المستحيل أن يتقبله النظام الديني.  على أني لن أستطيع التوقف عند هذه النقطة أكثر من ذلك حيث قد سبقت الإشارة إليها في مقالات سابقة، لكن مسؤولية إدارة شؤون العالم على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي كانت موكلة إلى الأمم، وعلى ذات القياس لم يسعَ المسيح لتعليم تلاميذه الأسس التي عليها يقيمون دولة تتلافى عيوب أنظمة الحكم القائمة آنذاك.  هذا بالطبع ليس لأنه لا ينوي فعل ذلك، أو أن ليس له حقوق في السيادة على العالم، لكن لأنه لم يكن ليفعل ذلك لا في هذا الوقت ولا بهذه الطريقة.  لقد احتفظ بنفسه في وضع إنسان الله الذي وإن كان يحيا في العالم لكنه منفصل عن مبادئه بكل أشكالها سواء الدينية أو المدنية، وقد كان هو – كما في كل الأمور – مثالنا الأعظم (يو17: 16).  لقد أعلن مرارًا كثيرة أنه أتى ليفصل جزءًا من الأمة الإسرائيلية تتكون منه البقية الخاصة بالله، ثم لا بد له أن يدعو الأمم أيضًا (لو14: 21-23 و يو10: 1- 16).

ثانيًا: في الوقت الحاضر

   بدأت الدعوة للأمم بعد صعود المسيح للمجد، لكن هؤلاء الأمم عندما أتوا إليه وجدوا أنفسهم متحدين بتلك البقية التي فصلها الله عن مجموع الأمة الإسرائيلية، تلك البقية التي رأت بعينيها كيف أن بغضة العالم للمسيح وصلت إلى حد الصليب، فصار الصليب عند الكنيسة المتكونة من اليهود والأمم ليس رمزًا دينيًّا بل حقيقة وضعت حدًّا فاصلاً بينها وبين النظام العالمي على المستوى الأدبي والفكري، بل إن اتحادهم بالمسيح جعلهم يدركون أنه وإن كان لله سياسة ومقاصد وحقوق مرتبطة بالعالم، إلا أن تنفيذ هذه السياسة وتتميم هذه المقاصد وأخْذ هذه الحقوق لم يأتِ أوانه بعد، والسبب الوحيد في ذلك أن الرب يسوع نفسه لم يأخذ هذا التوجه حتى الآن، وأن ما قام به من كشْف لخراب النظام العالمي صار يقوم به الروح القدس الآن (يو16: 8 - 11).  والكنيسة إن أرادت أن تكون خاضعة لروح الله الساكن فيها وللمسيح رأسها عليها أن تتحلى بهذا الطابع الأدبي والفكري وهو الانفصال التام عن النظام العالمي بكل أركانه (غلا4: 3 و كو2: 8)، فلا تتطلع إلى إصلاح العالم بل تسعى لأن تكون منارة الله الحقيقية الشاهدة ضد خراب النظام العالمي كما كان يفعل ربها عندما كان على الأرض، وكما يفعل روحه الآن، ومتى كان سلوك أفرادها تقويًّا يراعي اعتبارات قداسة الله الحاضر وسطها، تصبح شهادتها ضد العالم مؤيدة بقوة الروح القدس، فتكون النتيجة ليس إصلاح العالم بل انفصال من يتجاوب مع شهادة الروح القدس فيها عن ذلك النظام، ويرتبط بالكنيسة باعتبارها الكيان الوحيد على الأرض الذي يحظى باعتراف الله به (1كو14: 25،24).  ياللخسارة عندما نسعى كمسيحيين لاعتلاء المناصب السياسية رغبةً في إرساء القيم الأخلاقية في النظام العالمي لإصلاحه، ونُشغل أنفسنا بدعم التيارات السياسية والاقتصادية التي نرى فيها بصيصًا من الأمل بأنها سوف تعمل على الإصلاح.

   ليس عندي ما يمنع أن طبيبًا مسيحيًّا يعمل في مؤسسة تعمل على مساعدة المدمنين مثلاً من خلال وسائل علمية، لكن ما يوجد عندي اعتراض عليه هو أن يُنظر إلى هذا العمل أنه خدمة روحية، فالنتيجة المباشرة هي خلط المفاهيم والأوراق ببعضها، لقد رأيت في البعض أن مثل تلك النظرة أدت لتشوه مفهوم الخلاص المسيحي عندهم، حيث صار في نظرهم أن الخطية مجرد مرض، وبالتالي رُفضت مفاهيم دينونة الخطية، حيث لا دينونة على المريض، كما وتم رفض حقيقة فساد الإنسان الكلِّي، حيث صار الإنسان في نظرهم مريضًا روحيًّا وليس ميِّتًا روحيًّا.  وهكذا تعاليم كثيرة لو بحثنا عن جذورها لوجدنا أنها ناشئة عن اتجاهات أخذت شكلاً مسيحيًّا ومسميات مسيحية، لكنها – وللأسف الشديد – لا تخدم أبدًا ما كانت المسيحية مسؤولة عن الشهادة عنه، وهو صليب المسيح، الذي صار شاهدًا لعدم إمكانية إصلاح العالم.  وأن ما تحتاجه النفوس هو شخص المسيح وعمله فقط، وليس ما يمكن أن يفعله العالم.  صحيح أنهم يحتاجون لخدمات طبية وإنسانية، لكن أن يشارك فيها المسيحي، فينبغي أن تكون مشاركته فيها ليس بصفته كمسيحي أو كمن يخدم المسيح في هذا المجال، لكن باعتباره كمن يعمل عمل زمني مثل أي نوع آخر من الأعمال الزمنية، ويقدم خدمة إنسانية لنفوس محطمة، بضمير صالح نحو الله، مدركًا أن هذه الخدمة تختلف تمامًا عن الرسالة الأعظم التي تخص الخلاص الأبدي للنفوس الهالكة.

   لقد كان في أيام الرسول بولس نظام تجارة العبيد، وهو نظام اجتماعي تم رفضه والتنديد به بعد ذلك بزمنٍ طويل، وحسنًا كان هذا.  لكن هل سعى الرسول بولس في أيامه للثورة على هذا النظام القائم وقتها أو على الأقل إدانته وشجبه أو وصفه بأنه مخالف للقيم والأخلاق المسيحية؟ لا لم يحدث، بل قال: الدعوة التي دُعيَ فيها كل واحد فليلبث فيها.  دُعيت وأنت عبد فلا يهمُّك.  بل وإن استطعت أن تصير حرًّا فاستعملها بالحري. (1كو7: 21،20)، واكتفى في عدة مواضع في رسائله بتوجيه التحريض للعبيد أن يخضعوا لسادتهم.  وهذا كان ليكون للمسيحيين نور في الكتاب كيف يسلكون في جميع الأحوال، سواء بقي هذا النظام أو تم إلغاؤه.  لو أن الرسول أضاع حياته من أجل هذه القضية لخسر خدمته وإكليله.  على أن ليس السبب هو أن الرب لم يكلفه بها بل كلَّف آخر بها، لكن لأنها ليست عملاً روحيًّا يؤيده الروح القدس بالأساس، فالروح القدس ليس فقط لا يؤيد أعمال الشر، لكنه لا يؤيد الأعمال التي لا تتوافق مع ما يريد توصيله للعالم من حق.  فقد جاء ليبكت العالم وليس ليصلح حال العالم.  لذا فإن أي عمل أخذ طابعًا روحيًّا ومسيحيًّا ولم يقدم للعالم شهادة الله بفساد نظامه الأدبي والفكري والديني هو ليس عملاً يوافق عليه روح الله مهما سمت عظمته ونتائجه.

ثالثًا: في مجيئه الثاني للمُلك

   صرَّح الرب يسوع في حديثه مع بيلاطس أن مملكته ليست من هذا العالم (يو18: 36).  إن دساتير الدول المتقدمة تقول غالبًا: الشعب مصدر السلطات، ولهذا على كل من يرغب في أن يكون له سلطة في العالم يجب أن يحظى بدعم أكثرية الشعب له.  لكن المسيح لن يأخذ مُلكه بهذه الطريقة، لأن السلطة التي ستكون للمسيح أثناء مُلكه على الأرض أخذها من الله أبيه مباشرةً (مز2: 8،7).  إذًا ليس كما يظن البعض أن امتداد الكرازة بالإنجيل لبقاع مختلفة من العالم، ومن ثَمَّ قبول الكثيرين للمسيح مخلصًّا شخصيًّا، سوف يؤدي بالتبعية لتنصيب المسيح ملكًا من قِبل الناس.  أو أن مُلك المسيح سوف يحدث بشكل تلقائي وطبيعي في هذا الوقت، أو أن مُلك المسيح قد حدث عندما انتصرت المسيحية على الوثنية حينما أعلن الإمبراطور قسطنطين أن المسيحية هي الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية التي كانت تحكم العالم آنذاك، وهو انتصار وهمي كما يعرف دارسو تاريخ الكنيسة. 

   في النقطة السابقة رأينا كيف أن الحية القديمة أفسدت مفهوم الإنجيل من خلال خلطه بالمفاهيم العالمية، وفي هذه النقطة رأينا كيف أنها إذ لم تنجح في إفساد مفهومه فهي تحاول أن تنجح في إفساد هدفه في نظر من ينشرونه، ليشوهوا الطابع الذي – كما أشرنا – يجب أن تتحلى به المسيحية، وهو الشهادة ضد النظام العالمي وإعلان حكم المسيح عليه وعلى رئيسه بأنه قد دينَ.

   بنهاية هذا المقال نكون قد انتهينا من سلسلة "المفهوم الصحيح لتبعية المسيح"، وإنني أصلي من كل قلبي أن يستخدم الرب هذه المقالات لتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة والتي ترسخت في أذهان الكثيرين لفترات طويلة، ولنعِش بالانفصال عن النظام العالمي في كل صوَرِهِ ونلتصق بالرب وبكلمته المقدسة التي تُنقِّي أذهاننا وقلوبنا من كل ما لا يتفق مع إلهنا القدوس.

 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com