عدد رقم 6 لسنة 2017
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
كنيسة لاودكية (2)  

(رؤ3: 18 – 22)

الدور السابع والأخير قبل مجيء الرب للاختطاف

(تابع ما قبله)

   رأينا في المرة السابقة حالة لاودكية كما وصفها الروح القدس، وكيف تميزت بالفتور وعدم الاكتراث، وادعت أنها غنية ولا حاجة لها إلى شيء.  لقد استبعدت المسيح واستغنت عنه ولم تشعر بالخسارة.  تحولت إلى ما يروق للإنسان ويؤول إلى تعظيمه.  اهتمت بالأنشطة الاجتماعية والأعمال الخيرية أكثر كثيرًا من رسالة الإنجيل.  انقادوا إلى كنيسة عالمية عصرية متحررة، ورغبوا في إعادة صياغة حقائق الكتاب المقدس بطريقة جديدة تناسب عقول الشباب وتوجهاتهم.  اكتفوا بمظهر دون جوهر، وكان هدفهم الأساسي هو إرضاء الناس وليس تعظيم المسيح.  ومن هنا جاء التقرير الإلهي عنها: «ولست تعلم أنك أنت الشقي والبئس وفقير وأعمى وعريان».  لكن الرب في نعمته وصبره يستطرد قائلاً: 

   «أشير عليك أن تشتري مني ذهبًا مصفى بالنار لكي تستغني، وثيابًا بيضًا لكي تلبس، فلا يظهر خزي عريتك.  وكحل عينيك بكحل لكي تبصر.  إني كل من أحبه أوبخه وأؤدبه، فكن غيورًا وتب» (رؤ3: 18، 19).

   لا شيء يمكن أن يظهر نعمة الرب وحنانه وطول أناته أكثر من المشورة التي يقدمها للاودكية تحت هذه الظروف، فهو يجتذب قلبها إلى شخصه كالمصدر الوحيد لشفائها.

   إنه يقدم لها ثلاثة أشياء: «ذهبًا مُصفى بالنار»، وهو رمز معروف للبر الإلهي الذي في المسيح.  وهذا هو الغنى الحقيقي الذي يقابل فقره.  ثم «ثيابًا بيضًا لكي تلبس»، وهي كما نفهم من (رؤ19: 8) أن «البز» الأبيض البهي الذي تلبسه العروس يرمز إلى تبررات القديسين، أو حياة البر العملية، وهذا ما يقابل عريه الذي لا يكسوه البر الذاتي.  ثم الكحل الذي يجلو البصيرة ويعطي التمييز والفهم الروحي الصحيح، أو ما يسميه الرسول يوحنا «مسحة من القدوس» (1يو2: 20)، وهي تشير إلى الروح القدس.  وهذا ما يقابل عماه الروحي.  إنه بدون عمل الروح القدس لن يرى نفسه بشكل صحيح، ولن يرى الله بشكل صحيح، ولن يرى المسيح وصليبه بشكل صحيح.  ولكن عندما يبصر سيقرع صدره تائبًا.  أما التحريض بأن يشتري من المسيح هذه الأشياء فيمكن أن نفهمه من فصول أخرى في الكتاب مثل (إش55: 1؛ مت25: 9، 10).  إنها صورة للنعمة التي تعطي بلا فضة وبلا ثمن، لأن الثمن دُفع على الصليب.

   إنها العطايا الإلهية التي تقدمها النعمة للإنسان، بالمباينة مع ما يمتلكه ويفتخر به، أو بلغة بولس «ما كان لي ربحًا» (في3: 7)، فهذا يعطي أهمية وقيمة للإنسان في نظر نفسه.  لقد كان ينقصه ما هو إلهي، ولكي يحصل عليه يجب أن يرفض نفسه نهائيًا، ويحسب كل الأشياء نفاية من أجل فضل وسمو معرفة المسيح يسوع كالرب (في3: 8)، ومن أجله يخسر كل الأشياء لكي يربح المسيح ويوجد فيه.  فالمسألة ليست مجرد تحسين الإنسان في الجسد، وإنما إدانة ورفض هذا الكيان الفاسد، وقبول عطايا الله بالنعمة دون أدنى استحقاق.

   حتى (ع18) يخاطب الرب ملاك الكنيسة في لاودكية، أما في (ع19) فبالنظر إلى إمكانية وجود مؤمنين أفراد داخل هذه الجماعة الفاسدة، فهو يعلن مبدءًا عامًا في معاملاته مع شعبه.  «إني كل من أحبه أوبخه وأؤدبه.  فكن غيورًا وتب».  هذا المبدأ واضح جدًا في الكتاب عن معاملات الرب التأديبية مع المؤمنين، فعلى سبيل المثال: «طوبى لرجل يؤدبه الله، فلا ترفض تأديب القدير» (أي5: 17)، وأيضًا «يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولا تكره توبيخه، لأن الذي يحبه الرب يؤدبه، وكأب بابن يُسر به» (أم3: 11، 12).  وأيضًا «إن كنتم تحتملون التأديب يعاملكم الله كالبنين.  فأي ابن لا يؤدبه أبوه؟» (عب12: 7).  ولأن حالة لاودكية تميزت بالفتور وعدم الاكتراث، فإن التجاوب مع نداء النعمة سيظهر في صورة غيرة وتوبة.  هذا ما نجده في كنيسة كورنثوس.  لقد أرسل لهم الرسول الرسالة الأولى بلهجة شديدة وعاصفة فأحزنتهم، وهذا الحزن قادهم للتوبة، فالحزن الذي بحسب مشيئة الله ينشئ توبة لخلاص بلا ندامة.  وهذا الحزن كم أنشأ فيهم من الاجتهاد، بل من الاحتجاج، بل من الغيظ، بل من الخوف، بل من الشوق، بل من الغيرة، بل من الانتقام (2كو7: 9 – 11).  إن الغرض من كل المعاملات التأديبية هو أن نشترك في قداسته.  وهذا ما نراه هنا في التحريض: «كن غيورًا وتب».

   وهكذا فإن الرب بهذا يحذر أي واحد من شعبه، أن عصاه قد رُفعتْ الآن، وأنه إذا لم تكن هناك توبة حقيقية، فلا بد أن يدع عصاه تنزل لأجل التوبيخ والتأديب.  وهذا أيضًا ما نراه في التأديب المرتبط بالتهاون في عشاء الرب: «من أجل هذا فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى وكثيرون يرقدون.  لأننا لو كنا حكمنا على أنفسنا لما حُكم علينا.  ولكن إذ قد حُكم علينا، نؤدب من الرب لكي لا ندان مع العالم» (1كو11: 30 – 32).  والتأديب ليس دون سبب فينا، وليس دون محبة في قلب الرب. 

   «هنذا واقف على الباب وأقرع.  إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي» (رؤ3: 20).

   هذا يرينا كيف أن الرب أخذ مكانه خارجًا بسبب حالة الخراب في هذه الكنيسة التي أجبرته على ذلك.  لقد أغلقت الباب عليه في الخارج وتركته يقرع.  كم كان مجروحًا ومُهانًا وهو مطرود من بيته.  ومع ذلك في نعمته لم يرحل بل ظل واقفًا يقرع ملتمسًا من أي فرد، وليس من لاودكية ككل، أن يسمع صوته ويفتح له.  ربما هذا الشخص لم يُميز أن الرب قد رحل عن هذه الجماعة، وهو بقي في داخلها.  لهذا يوجه نداءه إلى من يسمع ويدرك ويفتح له حتى لو كان واحدًا فقط.  إن هذا المنظر يذكرنا بحالة العروس في سفر النشيد ص5، والتي تقول: «أنا نائمة وقلبي مستيقظ.  صوت حبيبي قارعًا: افتحي لي يا أختي، يا حبيبتي، يا حمامتي، يا كاملتي».  لقد كانت في حالة من الكسل وتبلد المشاعر فلم تعبأ بوقوفه في الخارج ولا بقرعات نعمته وكلمات محبته.  

   «إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي».  كثيرون يسمعون لكن الأهم أن يتجاوبوا ويفتحوا له.  وكم من بركات غنية تنتظر الشخص الذي يفتح.  يقول: «أدخل إليه، وأتعشى معه وهو معي».  ويا لها من شركة حبية سعيدة حُرم منها من كان في وسط لاودكية.  وسيكون الرب مسرورًا بما يقدمه المؤمن له، حتى لو كان قليلاً جدًا من المحبة والتقدير والولاء والتكريس، وحتى لو اقترنت بالهموم والمشاكل والاحتياجات.  لكن الرب في الحال سيمتعه بما له شخصيًا من بركات ثمينة ويشركه فيها.  على سبيل المثال: «سلامي .. كلامي» (يو14)، «محبتي .. فرحي» (يو15)، «نعمتي .. قوتي» (2كو12)، «مجدي» (يو17).  كلها أمور تخصه وهو يُسر بأن يشركنا ويسعدنا معه فيها.  ويكفينا أننا نجلس معه ونتعشى معه.  إنه يدخلنا إلى دائرة أفكاره وعواطفه من نحو كنيسته الغالية.  وبالطبع هذا لن يقود إلى الانعزالية والاستقلالية عن بقية المؤمنين بل إلى الارتباط بكل أعضاء الجسد.

   «من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي، كما غلبت أنا وجلست مع أبي في عرشه» (رؤ3: 21).  هذا هو الوعد للغالب هنا كما في كل الكنائس.  ولكن من هو الغالب؟ وما هو العمل البطولي الذي قام به؟ لقد سمع صوت الرب يقرع، وميَّز هذا الصوت وتجاوب معه وفتح الباب.  لقد أدرك الحالة التعيسة التي كان فيها مخدوعًا، استفاد من التوبيخ والتأديب، وغار غيرة مقدسة رافضًا هذه الحالة من الفتور، وتاب وانفصل عن حالة لاودكية البغيضة.  والمكافأة أنه سيجلس مع الرب في عرشه ويشاركه في مجده العلني يوم يملك على الأرض.  والرب يعلن ذاته للغالب كمن غلب هو قبلاً هذا العالم ورئيس هذا العالم، وجلس مع أبيه في عرشه.  فلقد قال له الآب: «اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك» (مز110: 1).  إنه هناك في أعلى مكان، حائزًا أسمى مقام، وله الأجناد تشدو بوقار واحترام، في مكان القوة والإعزاز والكرامة التي تليق به للأبد.

   «من له أذن فليسمع ما يقوله الروح للكنائس» (رؤ3: 22).  كما في الرسائل الثلاث السابقة، تُختم رسالة الرب إلى الجماعة في لاودكية بالدعوة إلى سماع رسالة الروح القدس للكنائس.  إنها ليست فقط موجهة إلى لاودكية بل لجميع الكنائس، ليس في أيام الرسول يوحنا فقط، بل في كل عصور الكنيسة.  لقد كُتبت وحُفظت ككل الكتاب، باعتباره أقوال الله الحية، لفائدة كل الكنيسة حتى في يومنا هذا.  ويلفت النظر أن الرب قال لملاك كنيسة لاودكية: «أنت الشقي والبئس وفقير وأعمى وعريان»، لكنه لم يقل إنك أصم لا تسمع.  وكم هي بركة أن الإنسان يظل قادرًا أن يسمع صوت الرب وقرعاته ونداءاته.  هذا هو طريق الخلاص الصحيح.  «من يسمع كلامي، ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة» (يو5: 24).

   لذلك فإننا نفعل حسنًا إن انتبهنا إلى رسالة الروح وشعرنا أنها لنا، لكي نصبح غالبين في هذا اليوم الشرير، يوم الفتور وعدم المبالاة بشخص المسيح ومجده في وسط الكنيسة.

****

الدور السابع يقابل المثل السابع من أمثال ملكوت السماوات:

   إنه يتكلم عن «شبكة مطروحة في البحر وجامعة من كل نوع.  فلما امتلأت أصعدوها على الشاطئ، وجلسوا وجمعوا الجياد إلى أوعية، وأما الأردياء فطرحوها خارجًا.  هكذا يكون في انقضاء العالم.  يخرج الملائكة ويفرزون الأشرار من بين الأبرار» (مت13: 47 – 49).  والمرحلة الأخيرة من الاعتراف المسيحي مُشبهة من الرب بهذه الشبكة الجامعة للجيد والرديء.  وهذا يطابق حالة لاودكية (الكنيسة الاسمية) حيث تبذل كل الجهد لجذب الجماهير من كل نوع.  هؤلاء يدخلون في شبكة المذاهب المختلفة والأنشطة الكنسية، بغض النظر عن إذا كانوا مؤمنين حقيقيين أم لا.  وعندما يأتي الرب سيأخذ المؤمنين الحقيقيين إلى السماء، ثم يتقيأ المسيحية الاسمية من فمه.  وفي يوم الدينونة سيُطرحون بواسطة الملائكة في أتون النار.

****

   المشابهة مع رحلة بولس في السفينة (أع27: 38 – 44):

   هذا الجزء الأخير من رحلة بولس في السفينة يتطابق مع الدور السابع والأخير لتاريخ الكنيسة النبوي في رحلتها على الأرض والتي تمثله لاودكية.  في هذا الجزء تحطمت السفينة ونجا المسافرون.  وفي لاودكية نرى فشل الإنسان النهائي، وفشل الشهادة الكنسية.  لكننا نرى أمانة الله المطلقة التي لا تتوقف على الإنسان.  ويمكننا أن نتتبع المشابهات على النحو التالي:

1-  «لما شبعوا من الطعام» (أع27: 38).  هذا يذكرنا بما يقوله ملاك كنيسة اللاودكيين «أنا غني وقد استغنيت ولا حاجة لي إلى شيء» (رؤ3: 17).

2-  «طفقوا يخففون السفينة» (أع27: 38).  هذا هو طابع الأيام الأخيرة حيث الناس لا يحتملون التعليم الصحيح، فيجمعون لهم معلمين كذبة يصرفون مسامعهم عن الحق وينحرفون إلى الخرافات.  إنهم يغشون كلمة الله ويخلطونها بالفلسفة وعلم النفس والمشورة والأنشطة الاجتماعية والرياضية.  إنهم يقدمون أقل قدر من الحق مع أكبر قدر من التسليات.  وهذا واضح في مادة الترانيم الحديثة والموضوعات التي تناقش في المؤتمرات والاجتماعات الخاصة، ذلك لأنهم يستثقلون الحق ويريدون أن يخففوا السفينة.

3-  «طارحين الحنطة في البحر» (أع27: 38).  بعد أن شبعوا من الطعام احتقروا الحنطة وطرحوها في البحر.  والحنطة ترمز إلى المسيح «حبة الحنطة» (يو12: 24).  لقد استغنوا عن المسيح واستبعدوه وما عاد مُرحبًا به، لهذا نراه في لاودكية واقفًا على الباب خارجًا يقرع (رؤ3: 20)، ولا أحد يشعر بالخسارة.  والحنطة ترمز أيضًا إلى كلمة الله.  لقد احتقروا التعاليم السامية والعميقة في كلمة الله ومنها التعليم الرمزي والتدبيري والحق الخاص بكنيسة الله ومجيء الرب والحوادث المرتبطة به، وكل هذا ما عاد له قيمة.

4-  «لما صار النهار لم يكونوا يعرفون الأرض» (أع27: 39).  هذا يقابل قول الرب للاودكية: «ولست تعلم أنك أنت ...».

5-  «أبصروا خليجًا له شاطئ، فأجمعوا أن يدفعوا إليه السفينة إن أمكنهم» (أع27: 39).  وهذا أيضًا يسير مع روح لاودكية التي تسير برأي الأغلبية وما يريده الناس بإجماع الآراء، بغض النظر عما يقوله الكتاب.  ونلاحظ أن المؤرخ الإلهي لا يقول «فأجمعنا»، بل «فأجمعوا».  لم يكن هذا الإجماع على رأي بولس الذي يمثل أقوال الله، بل على آراء الناس، وهذه هي الديمقراطية المسيحية المتضمنة في معنى اسم ”لاودكية“ أي ”حقوق الشعب“.

6-  «نزعوا المراسي تاركين إياها في البحر» (أع27: 40).  لم يرموا الحنطة فقط بل طرحوا المراسي في البحر.  وفي الدور السابق رأينا كيف أن الأمناء بذلوا كل الجهد للحفاظ على سلامة السفينة وتأمينها، فرموا من المؤخر أربعة مراسي.  وفهمنا مدلول هذه المراسي التي يمكن أن نرى فيها صورة لكلمة الله والصلاة ومحبة الله والرجاء المبارك، بحسب ما جاء في رسالة يهوذا (ع20).  وكيف كان لهذه الأمور العظيمة دور فعال في زمن فيلادلفيا للحفاظ على الشهادة الكنسية.  ولا شك أنهم فعلوا ذلك بجهد كبير ومشقة بالغة.  لكن بالأسف جاء بعدهم جيل آخر لم يقدر هذه الأمور، وبسهولة تامة نزعوا المراسي وتركوها تسقط في البحر.  لقد تحولوا عن الحق الذي تمسك به الأولون، وكأنهم نقلوا التخم الذي نصبه الأولون.

7-  «رفعوا قلعًا للريح الهابة» (أع27: 40).  إن الروح التي تتحكم في اتجاهات البشر، وهي روح العالم المستقل عن الله، وروح التمركز حول الذات، وروح التعظم وارتفاع القلب، وروح إشباع وإمتاع شهوات الجسد؛ هذه الروح قد دخلت إلى الكنيسة بقوة.  ومرة أخرى هذه هي لاودكية التي تسير برأي أغلبية الناس لأجل إرضاء الناس دون اعتبار لسلطان الرب في كنيسته، واحترام مبادئه المعلنة في كلمته.  وكما قال الرب قديمًا عن شعبه قبل السبي: «الأنبياء تنبأوا بالكذب، والكهنة تحكم على أيديهم، وشعبي هكذا أحب» (إر5: 31).  هكذا الحال في الأيام الأخيرة للمسيحية.

   الموجهين لسير السفينة «رفعوا قلعًا للريح الهابة» أي أرادوا الاستفادة من الريح العالمية، وهي مصدرها الشيطان رئيس سلطان الهواء، فقد تصالحوا مع العالم وسياسته، وبدأت الكنيسة تلعب دورًا في سياسات العالم، ونسيت دعوتها السماوية وأنها شاهدة للمسيح الذي رفضه العالم.

8-  «أقبلوا إلى شاطئ» (أع27: 40).  أي شاطئ هذا؟! أيمكن أن قوى العالم ورئيس هذا العالم تساعد المسافرين مع بولس لكي يبلغوا مقصدهم؟ كلا البتة.  بل إنهم «وقعوا على موضع بين بحرين» (أع27: 41).  هذان البحران يمكن أن نرى فيهما قوتين متضادتين تهددان الشهادة وتؤديان إلى دمارها.  إنهما التقليد الجامد أو النظام الطقسي المتحجر من جانب، واللاهوت الليبرالي والحركات الكارزماتية من جانب آخر، لتفادي الاتجاهات الإلحادية التي تنتشر بسرعة في هذه الأيام.  إن العدو يشدد الهجوم على الشهادة للمسيح بكل وسيلة من الخارج أو من الداخل لكي يحطمها، وهذا ما سيحدث بعد الاختطاف.  لكن المشهد الأخير يعكس الصعوبات البالغة في مواجهة كل القوى المضادة، ليس من الخارج فقط بل من الداخل أيضًا.

9-  «شططوا السفينة، فارتكز المقدم ولبث لا يتحرك.  وأما المؤخر فكان ينحل من عنف الأمواج» (أع27: 41).  وهذا يرينا خطورة المواقف العنيدة والمتشددة من جانب بعض القادة الجسديين، من أجل الزعامة والمراكز في الأوساط الكنسية، وليس من أجل الدفاع عن حق الله وعن مجد المسيح في كنيسته وعن سلطان كلمة الله والخضوع لها.  إنهم لا يبالون بالدمار الذي يحدث في المؤخر الذي ينحل من عنف الأمواج بسبب هذه الصراعات والانقسامات والتحزبات.  إن الذين في مؤخر السفينة هم هؤلاء البسطاء من المؤمنين الذين يتعثرون بسبب سوء القدوة والتشدد غير المبرر من القادة في مواقف معينة.  وعلينا أن نتحذر جميعًا فلا نتشبث بأفكارنا ونفرضها في أمور ليست جوهرية، إذا كانت ستسبب عثرة للصغار، وأن نتمثل بأليشع رجل الله الذي أظهر المرونة والصلابة حسب الموقف.  فمرة ألح عليه بنو الأنبياء حتى خجل (2مل2)، ومرة أخرى ألح عليه نعمان فأبى (2مل5).

10-        «كان رأي العسكر أن يقتلوا الأسرى لئلا يسبح أحد منهم فيهرب.  لكن قائد المئة، إذ كان يريد أن يخلص بولس، منعهم من هذا الرأي، وأمر أن القادرين على السباحة يرمون أنفسهم أولاً ... والباقين بعضهم على ألواح وبعضهم على قطع من السفينة.  فهكذا حدث أن الجميع نجوا إلى البر» (أع27: 42 – 44).  لقد تحطمت السفينة في النهاية كما قال بولس: «لا تكون خسارة نفس واحدة منكم إلا السفينة» (أع27: 22)، وهذا يكلمنا عن انهيار الشهادة للكنيسة على الأرض، وهو ما سيُنهي المشهد، حيث سيجيء الرب ليأخذ عروسه إلى المجد بسلام، وينقذها من الغضب الآتي، ثم يتقيأ المسيحية الاسمية من فمه ويرفضها إلى الأبد، ولن يعود يقبلها بأي شكل.  وهذا يرينا أنه لا رجاء لمسيحي بالاسم بعد اختطاف الكنيسة.  لكن الشيء المعزي أن «الجميع نجوا إلى البر».  البعض فرادى والباقون على قطع وألواح من السفينة، أي في صورة مجموعات صغيرة.  ففي النهاية ما أقل من يتمسكون بحقيقة الجسد الواحد ويجتهدون أن يحفظوا وحدانية الروح.  ولكن على أي حال إن جميع المؤمنين الحقيقيين سيصلون بسلام إلى شاطئ الأمان رغم الضعف والفشل الذريع الذي أحاط بهم.  فهذه أمانة الله ونعمته، ولن يُفقد واحد منهم على الإطلاق.  ليس فقط جميع المسافرين مع بولس نجوا لكن بولس نفسه نجا، رغم محاولة العسكر أن يقتلوه.  وهذا يرينا أن الحق الذي نادي به بولس سيظل مع الكنيسة إلى النهاية.  وعلى الجانب الآخر نرى المشهد الأخير يسوده الضعف المتناهي وليس القوة، وهذا يرد على من ينادي بنهضة قادمة ستعم العالم وأن العالم سيرجع للمسيح.  وفي منظر مشابه نرى بطرس عندما خرج من السفينة مستجيبًا لنداء الرب، ومشى على الماء بالإيمان ناظرًا إلى المسيح، لكنه لما رأى الريح شديدة خاف، وإذ ابتدأ يغرق، صرخ قائلاً: «يا رب نجني».  ففي الحال مد يسوع يده وأمسك به قائلاً: يا قليل الإيمان لماذا شككت؟! (مت14).  فرغم الضعف والفشل كانت النجاة بالنعمة، كما حدث هنا أن «الجميع نجوا إلى البر» (أع27: 44).                   

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com