عدد رقم 1 لسنة 2005
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
يعقوب بين لابان وعيسو   من سلسلة: مؤمنون في أماكن خاطئه

لا ينبغي أن نخجل أو نخاف عندما نشعر برداءتنا.  فالشيء الذي يطمئن هو أن لنا إلهًا عظيمًا محبًا صالحًا لا يتغيَّر.  إنه صاحب السلطان الذي يُخرج من الشر خيرًا ومن الخطأ بركًة ومن الأعداء دواءً.  في آرام ظهر ليعقوب دون أن يوبّخه أو يعاتبه بل قال له: «لأني قد رأيت كل ما يصنع بك لابان. أنا إله بيت إيل .. الآن قم .. وارجع إلى أرض ميلادك» (تك 12:31، 13).  كان يعقوب يواجه الذل والضيق عند لابان.  كان بالنهار يأكله الحر وبالليل الجليد وطار نومه من عينيه.  وقد غيَّر لابان أجرته عشر مرات.  لكن هذا لا يعني إطلاقًا أن الله قد تركه أو تخلَّى عنه.  كانت عصا التأديب عليه، وكانت اليد الإلهية الصالحة هي التي تُمسك بهذه العصا.  العين الطبيعية ترى العصا، لكن عين الإيمان ترى اليد.  ودائمًا الله له قصد في حياتنا وهو أن نتغيّر ونُصبح مشابهين صورة ابنه، وهذا هو الخير الحقيقي.  وهذا تطلَّب 20 سنة من الذل عند لابان، كانت بكل تفاصيلها تحت الإشراف الإلهي.

تدخَّل الله وأخرج يعقوب من حاران، وأنقذه من يد لابان، بعد مقابلة ساخنة، لم تَعْبُرْ بسلاسة، بل كانت ضغطًا ثقيلاً على نفس يعقوب، أضافت إلى مرائر العشرين سنة السالفة. في النهاية قبَّل لابان بنيه وبناته ومضى ورجع إلى مكانه (تك 55:31)، ولا نقرأ أنه قبَّل يعقوب.  فالذي استقبله بالترحيب والقبلات في البداية، وَدَّعَه بدون قبلات في النهاية.

«وأما يعقوب فمضى في طريقه ولاقاه ملائكة الله.  وقال يعقوب إذ رآهم: هذا جيش الله!  فدعا اسم ذلك المكان محنايم» (تك 1:32، 2).

بنفسٍ مُثقَلة، مضى يعقوب في طريقه عائدًا بعد اغتراب طويل، فلاقاه ملائكة الله.  ولم يقل الكتاب: "ظهرت له ملائكة الله"، بل «لاقته» أي استقبلته بالترحيب والتحية والتشجيع حيث لم يجد مَنْ يستقبله ويرحب بعودته.  وكان هذا تشجيعًا إلهيًا له بعد الصراع الطويل مع لابان، وقبل أن يواجه عيسو.

في رحلة الذهاب إلى أرام رأى ملائكة الله صاعدة ونازلة على السلم ورأى الرب على رأس السلم في حلم الليل. هنا رآهم في الحقيقة وليس في الحلم.  وقال يعقوب إذ رآهم: «هذا جيش الله! فدعا اسم ذلك المكان محنايم».  وهذه الكلمة تعني صفين أو معسكرين.  أي أن هذا الجيش كان مقسمًا إلى فرقتين.  جيش من الخلف يحميه من لابان، وجيش من الأمام يحميه من عيسو.

لقد أرسل الله ملاكًا في أيام حزقيا قتل من جيش سنحاريب ملك أشور 185 ألف جندي محارب.  وأرسل ملاكًا سد أفواه الأسود فلم تضر دانيال.  وأرسل ملاكين أنقذا لوطًا ورَمَّدا مدن الدائرة.  وأرسل جيشًا من الملائكة لحماية أليشع من جيش أرام.  لكنه هنا أرسل جيشين من الملائكة ليعقوب.  ويقول الكتاب: «أليس جميعهم أرواحًا خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص!» (عب 14:1).

أول إشارة لمحنايم هنا، ونقرأ مرة أخرى عن هذا المكان في صموئيل الثاني 17 عندما كان داود هاربًا من وجه أبشالوم ونفسه مرة فيه لأن ابنه يطلب نفسه.  وخرج شمعي بن جيرا يسب داود ويرشقه بالحجارة.  بعد ذلك أرسل الله معونة لداود من خلال ثلاثة رجال أفاضل هم شوبي وماكير وبرزلاي الجلعادي الذين استقبلوه في محنايم ومعهم تقدمات كثيرة.  فالله عنده معونات ملائكية ومعونات بشرية، معونات غير منظورة ومعونات منظورة لأشخاص كانوا تحت التأديب ويحصدون ما زرعوه.  فيا لأمانة إله كل نعمة.

وخلافًا للفكر الطبيعي فإن ملائكة الله التي حولنا تحيط بنا وتنجينا، لا تعطي للنفس الراحة والسلام.  لقد رأى يعقوب جيشين من الملائكة والتجأ إلى عرش النعمة مصليًا، وكان عنده المواعيد الإلهية المشجعة، لكنه مع كل ذلك لم يكن متمتعًا بالراحة والسلام، وكل هذا لم ينزع خوفه.  فليست أعمال العناية والسياجات الإلهية هي التي تعطي النفس الأمان إذا كان الضمير متعبًا بسبب خطية غير معترف بها ومحكوم عليها.  وفي هذه الحالة لا بد من التوبة والاعتراف لكي يستريح الضمير.

«وأرسل يعقوب رُسلاً قدامه إلى عيسو أخيه إلى أرض سعير بلاد أدوم، وأمرهم قائلاً: هكذا تقولون لسيدي عيسو: هكذا قال عبدك يعقوب: تغرَّبت عند لابان ولبثت إلى الآن.  وقد صار لي بقر وحمير وغنم وعبيد وإماء.  وأرسلت لأخبر سيدي لكي أجد نعمة في عينيك» (ع 3-5).

لم يكن يعقوب قد سمع شيئًا عن عيسو طوال هذه السنين سوى أنه سكن في أرض سعير.  لكنه لم ينس غضبه وتهديده ووعيده.  لهذا كان خائفًا ومضطربًا من مقابلته.  لهذا قرر أن يرسل الرُسُل إليه، وكأنه أرسل جواسيس لكي يستكشف الموقف ويتحقق النوايا.  وكان هذا ضعف إيمان منه بعد أن رأى جيشين من الملائكة وبعد أن أنقذه الرب من لابان.  وهذا الموقف يشبه ما فعله بنو إسرائيل في يوم لاحق عندا أرسلوا الجواسيس إلى أرض كنعان (عد 13)، ولم يثقوا في مواعيد الله.

أخذ يعقوب موقفًا متضعًا أمام عيسو.  فقال عنه: «سيدي» 8 مرات وقال عن نفسه «عبدك» 5 مرات، وكان خائفًا ومرتعبًا منه، ويحاول أن يسترضيه طالبًا المصالحة معه.

لم يكن يعقوب متمسكًا بالبركة التي باركه بها إسحاق أبوه عندما قال له: «كن سيدًا لإخوتك، وليسجد لك بنو أمك» (تك 29:27).  ولم يأخذ موقف التميز والأفضلية عن عيسو.  ولم يُشر إلى سبب هروبه إلى أرام، بل قال: «تغربت عند لابان».  مُعبِّرًا عن معاناته هناك وكيف أنه لم يجد راحة أو استقرارًا في حاران.  كما نلاحظ أنه لم يطلب نصيب البكر (نصيب اثنين)، مع أنه احتال وأخذ منه البكورية قبل ذلك بسنوات.  ولم يطلب حتى أن يقاسم عيسو في ميراث أبيه.  لم يكن مُحتاجًا لأي شيء بعد أن أغناه الرب وأعطاه الكثير من الممتلكات العالمية.  وكان كل ما يرجوه هو أن يجد نعمة في عيني أخيه.

«فرجع الرُسُل إلى يعقوب قائلين: أتينا إلى أخيك، إلى عيسو، وهو أيضًا قادم للقائك، وأربع مئة رجل معه.  فخاف يعقوب جدًا وضاق به الأمر، فقَسَمَ القوم الذين معه والغنم والبقر والجمال إلى جيشين.  وقال: إن جاء عيسو إلى الجيش الواحد وضربه، يكون الجيش الباقي ناجيًا» (ع 6-8).

يقول الكتاب: «ليتك أصغيتَ لوصاياي، فكان كنهر سلامك وبرُّك كلُجج البحر» (إش 18:48).  خاف يعقوب وضاق به الأمر بسبب الضمير المُتعَب والملوم.  وهناك فارق بين مؤمن يواجه التجارب بضمير مستريح، وآخر يواجه نفس التجارب بضمير ملوم.  لقد دخل يوسف السجن بضمير هادئ ومستريح (تك 39)، ودخل شمشون السجن وكان يشعر بالذنب واللوم في الضمير (قض 16).  مات الابن الوحيد  لأرملة صرفة صيدون وكانت تشعر بالذنب عندما استيقظ الضمير، فقالت لرجل الله إيليا: «هل جئت إليَّ لتذكير إثمي وإماتة ابني؟» (1مل 17).  ومات الابن الوحيد للمرأة الشونمية، ولم يكن هناك شيء يُثقِّل الضمير، فقالت لرجلها ولرجل الله: «سلامٌ» (2مل 4).  ودائمًا الضمير الملوم يُسبِّب عذابًا لصاحبه.

خاف يعقوب جدًا وقسم القوم الذين معه والممتلكات إلى جيشين.  كانت المشكلة أن قلب يعقوب منقسم.  وكلنا نحتاج أن نصلي ونقول: «وَحِّد قلبي لخوف اسمك» (مز 11:86).  والذي يخاف الرب لن يخاف من إنسان يموت.  كان يعقوب يتميز بالذكاء الطبيعي وسرعة البديهة، وكان هذا ما يتكل عليه.  إنه بالأسف لم يتعوَّد الاتكال على الله ملجأه، ولم يثق فيه الثقة المطلقة وحده.  بل كان دائمًا يتكل على الجسد وعلى حكمته البشرية.  أو اتكل على الرب بنصف قلبه وعلى خططه بالنصف الآخر.  يقول داود: «في يوم خوفي أنا عليك أتكل» (مز 3:56).  وهذا هو التصرف الصحيح.  وعندما جاء على يهوشافاط جمهور كثير من عبر البحر من أرام وبني عمون وموآب وسعير، خاف وجعل وجهه ليطلب الرب ونادى بصوم في كل يهوذا.  وقال مقولته الشهيرة: «ليس فينا قوة أمام هذا الجمهور الكثير الآتي علينا ونحن لا نعلم ماذا نعمل ولكن نحوك أعيننا» (2أخ 3:20، 12).  ليس عيبًا أن نخاف، فهذا جزء من الضعف الإنساني.  لكن في ضعفنا ماذا نفعل؟

رجع الرسل إلى يعقوب، وواضح أنهم لم يبلغوا الرسالة إلى عيسو.  لقد تملكهم الذعر إذ رأوه قادمًا ومعه أربعمائة رجل، وتوقعوا منه نوايا انتقامية.  وكان ذلك بمثابة صدمة كبيرة ليعقوب أن يعلم أن أخاه يراقب تحركاته، حيث لم يكن قد مضى على هروبه من أرام أكثر من أسبوعين فقط.  وكانت تحركاته محاطة بالسرية التامة.  فكيف علم عيسو بذلك؟ وهل لا زال متعطشًا للانتقام منه بعد أن مضت عشرون سنة؟ خاف يعقوب جدًا، وتوقع كارثة قادمة، ولم يستفد من اختبارات الماضي ومعاملات الرب الطيبة السابقة، ولم يتشجع بظهور ملائكة الله له.  لم يكن هناك وقت ليضيع، فوضع خطة سريعة ليقلِّل بها الخسائر.  حتى إذا جاء عيسو إلى الجيش الواحد وضربه يكون الجيش الثاني باقيًا.  لقد قسم القوم إلى فرقتين وبعد ذلك مضى لكي يصلي. 

وقبل أن ندين يعقوب هنا، دعونا نفحص قلوبنا ونراجع طرقنا.  كم مرة نأتي إلى الله كآخر الحلول بعد أن نُخطِّط ونُرتِّب ونضع كل الاحتياطات بحسب حكمتنا البشرية.  وعندما نذهب لنصلي كأننا نطلب فقط مصادقته على ما فعلناه وما قررناه.  إننا نحتاج أن نتكل على الرب بكل قلوبنا وعلى فهمنا لا نعتمد، ونسلِّم للرب طريقنا ونتكل عليه وهو يُجري. 


شذرة
الله يكتب بقلم لا يشطب كلمة مما يكتب، ويتكلم بلسان لا يزل في كلمة مما يقول،
 ويعمل بذراع لا تكل.

 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com