عدد رقم 1 لسنة 2005
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الحمامة   من سلسلة: من طيور الكتاب المقدس

تأملنا حتى الآن في أربع صفات جميلة للحمام ظهرت بالارتباط بنوح، أنه: رسول أمين، ودود وحلو العشرة، طاهر لا يتلامس مع النجاسة، يعرف مكانه ولا يُخطئه. والآن نستكمل باقي هذه الصفات:

5- سهولة استئناسه

عرفنا من مستهل المقال الأول أن الحمام هو من أول الطيور التي استطاع الإنسان أن يستأنسها، إذ أنه حلو العشرة، ودود، مسالم، يثق في صاحبه، طالما وجد فيه الأمان والسلام. فلا غرابة أن نقرأ عن نوح أنه مد يده لتقف الحمامة عليها، ومن ثم يُدخلها إلى الفلك. 

ونحن كأولاد الله، ألا تأنس وتهدأ نفوسنا أمام إلهنا وسيدنا؟ ألا نجد فيه وحده كل الأمان والسلام والسكينة؟ لقد قال أحدهم قولته الشهيرة: "يا الله أنت خلقتنا لذاتك، ونفوسنا لا تجد عزاها وشبعها إلا فيك".  وهذا حق ويقين، فما من مؤمن حقيقي إلا واختبر صلاح الله، واجدًا فيه كل الراحة والطمان.  مهما تبدَّلت الظروف أو تغيَّرت.

وإني أتخيل الحمامة عندما أرسلها نوح، ولم تجد مقرًا لرجلها، وإذ تعبت كثيرًا في البحث عن موضع لها، عادت إلى الفلك، وكم كانت يد نوح الممتدة لها الظاهرة من الكوة، تحمل لها الكثير من التشجيع والتعزية، ففي كل ما يُحيط بها لم تجد ما تقف عليه لتلتقط أنفاسها وتستريح، سوى هذه اليد الأمينة والوفية، المرفوعة إليها؟! إنها وجدت أخيرًا مقرًا لرجلها، وكان ذلك المقر ليس سوى يد نوح نفسه!!

وكم نجد في بطرس صورة جميلة لذلك، فبعد أن سار على الماء بأمواجه المزبدة والهائجة، حسب قول الرب له، نجده عندما رأى الريح شديدة خاف، وإذ ابتدأ يغرق، صرخ قائلاً: «يا رب نجني«. وفي الحال نجد يد الرب الأمينة تمتد إليه في كل سرعة لكي يُمسك به وهكذا نجده يستسلم ويستأمن نفسه وروحه بكل ثقة ويقين بين يدي سيده القدير والعظيم.

وإن كانت الحمامة تعرف جيدًا صاحبها وتميزه من الغريب، فبينما تنجذب بسهولة مستأمنة نفسها بين يدي صاحبها، فهي تنفر تمامًا من أي يد غريبة، ولكن العجيب أن فطنة الحمامة هنا لا نجدها في كثير من أولاد الله الأعزاء، إذ نجدهم بكل جهل وعدم تمييز ينجذبون وراء الغريب، إذا لوَّح أمامهم بأي شيء مُبهج أو مُسر، إن الحمامة تعرف أن تُميز بين صاحبها وعدوها، بين اليد الأمينة التي تُطعمها وتصونها، وبين الشرك المنصوب لاصطيادها ‍‍وإهلاكها.

وقد نجد في شمشون عبرة صارخة، تُحذِّر كل مخدوع، قد يأنس ويميل وراء الغريب أيًا كان! لقد ظن شمشون أنه قد يجد شيئًا من الفرح والسرور، لكن بكل أسف ليس على ركبتي الرب، حيث المحبة النقية الطاهرة (إش66: 12)، بل على ركبتي دليلة، حيث التملق والنجاسة والخداع! أيمكن أن تُستبدل الركبتان الطاهرتان، بركبتين دنستين؟! أيمكن أن تأنس نفس نذير للرب من بطن أمه، لامرأة شريرة مخادعة كاذبة؟

ماذا وجد شمشون فيها حتى يأنس إليها؟ ألم يستشعر فيها الخطر والغدر أكثر من مرة؟ ألم تستيقظ حواسه ليدرك إلى أي هوة سحيقة تريد أن تهوي به، فهي لا ترضى بأقل من إذلاله (قض16: 6)؟ لقد انطبقت عليه بكل أسف كلمات الحكيم «أغوته بكثرة فنونها، بمَلث شفتيها طوحته.  ذهب وراءها لوقته، كثور يذهب إلى الذبح، أو كالغبي إلى قيد القصاص، حتى يشق سهم كبده.  كطير يُسرع إلى الفخ ولا يدري أنَّه لنفسه» (أم7 : 21-23).

وما أجمل أن نتذكر أيوب في هذا الصدد، وهو ليس محاطًا بالتنعمات والملذَّات، بل بالكرب والألم، لقد خسر كل شيء، حتى جسده لم يسلم من القروح الرديئة، الأمر الذي أهاج سَخط زوجته، فقالت له «أنت متمسك بعد بكمالك؟ بارك الله (أي العن الله) ومت!» (أي 9:2).  غير أن أيوب، ذلك الحمامة الصحيحة، والتي لا تخطئ يد صاحبها، رغم أنه لم يرَ في هذه اليد سوى الألم فقط، لكن ثقته في إلهه لم تتغير، وإن لم يعرف لماذا يحدث له كل ذلك، فنراه يُوبِّخ زوجته قائلاً: «تتكلمين كلامًا كإحدى الجاهلات! أالْخير نقبل من عند الله، والشر لا نقبل؟ في كل هذا لم يُخطئ أيوب بشفتيه «(أي 2 : 10).
       
وكم هو رائع موقف داود حينما أخطأ وأمر بأن يُحصي الشعب، فأرسل الرب له جاد النبي قائلاً له: «اختر لنفسك واحدًا .. إما ثلاث سنين جوع، أو ثلاثة أشهر هلاك أمام مضايقيك وسيف أعدائك يُدركك، أو ثلاثة أيام يكون فيها سيف الرب ووبأ في الأرض«، وهنا يبرز حس داود وتمييزه الروحي، إذ أدرك أن مراحم الأشرار قاسية (أم12: 10)، لذلك نسمعه يقول: «دعني أسقط في يد الرب لأن مراحمه كثيرة ولا أسقط في يد إنسان» (1أخ21: 9-13).  لقد أيقن داود ما فاه به الحكيم: «أمينة هي جروح المحب، وغاشة هي قبلات العدو» (أم27 : 6).  واختبر ما قاله أليفاز: «لأنه هو يجرح ويعصب يسحق، ويداه تشفيان» (أي5 : 18).

نعم ليس لنا في عالم الشر والخداع، عالم الإثم والفجور، سوى أن نستأمن أنفسنا بين يدي إلهنا الأمين، وحسنًا فعل الرسول بولس وهو يستودع أخوته في أفسس، مُدركًا هول الصعوبات التي ستلحق بهم، فبعد أن يُؤكد لهم أنه سيدخل بينهم ذئاب خاطفة لا تُشفق على الرعية، وبعد أن يحثهم على أن يسهروا، يقول لهم أخيرًا «والآن أستودعكم يا إخوتي لله، ولكلمة نعمته، القادرة أن تبنيكم وتعطيكم ميراثًا مع جميع المقدسين»  (أع 20 : 32).  (يتبع)    

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com