عدد رقم 6 لسنة 2016
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
طيب يفوح في شونم  


   قصد الله من وجودنا كمؤمنين في العالم أن  يرى نماذج من التكريس الحقيقي الذي يشبع قلبه.  رغبة قلب الآب أن نكون مشابهين صورة ابنه الحبيب عمليًا أثناء حياتنا هنا على الأرض.  هذا هو الغرض  السامي من تكريس الحياة، والذي ليس قاصرًا بالطبع على أصحاب المواهب الفذة أو القائمين بخدمات متميزة وظاهرة داخل الاجتماعات الروحية فحسب، بل يظهر في كل مجالات الحياة المختلفة.  مثلاً ربات البيوت أو الموظفين؛ فرصتهم للتكريس المشبع لقلب الرب ليست أقل مما لإخوتهم العاملين في حقول الخدمة.  قد نجد فرقًا في حجم الشهادة العلنية لكن تكريس القلب بالتمام للرب أمر متاح لكل المؤمنين.   

   في سفر ملوك الثاني والأصحاح الرابع، نرى نموذجًا جيدًا لذلك.  أليشع "رجل الله"، من ناحية نجده رمزًا جميلاً للرب يسوع الذي جاء مملوءًا نعمة وقلبه فائض بالرحمة والعطاء الجزيل، ومن ناحية أخرى نراه نموذجًا للخادم الأمين المجتهد في عمل الرب.  كما نرى في نفس الأصحاح امرأة من شونم وصفها الوحي بأنها عظيمة، مع أنه لم يذكر لنا اسمها، لكنه ركز بالأكثر على ما فعلته إكرامًا لله.   

استراحة مزدوجة

   في "شونم" وجد الرب راحته كذلك وجد أليشع راحته.  إنها تشبه بيت عنيا قرية مريم ومرثا أختها.  وهي قد تعني "استراحة مزدوجة".  من تلك القرية الصغيرة التي تتبع سبط يساكر وليس لها اشتهار، فاحت أطياب التكريس وأنعشت قلب الله.  لذا دعونا نتأمل بنعمة الرب في بعض المشاهد والشهادات الجميلة التي نرى فيها أن إشباع قلب الرب لا يقتصر على أداء خدمة أو ممارسة موهبة داخل الفرص الروحية فحسب، بل في  شتى مجالات الحياة، كما أن العظمة الحقيقية ليست في إنجاز خدمات مبهرة أو ملفتة للأنظار بل في سلوك تقوي وعطاء سخي وإيمان قوي.  ربما يظن القارئ أن موضوعنا  سيدور كله حول ما فعلته المرأة الشونمية لكن في الحقيقة سأركز أيضًا على ما فعله أليشع باعتباره خادمًا للرب.

طيب يفوح من سلوك رجل الله

إن أول خيوط القصة الجميلة تبدأ بأليشع رجل الله وليس بالشونمية.  يبدو أن المرأة الشونمية كانت ميسورة الحال وتتميز بكرم الضيافة فألزمت النبي أن يأكل شيئًا في بيتها، لكن مع تكرار الضيافة اكتشفت إكتشافًا، ترك أثرًا عميقًا في قلبها.  على الأرجح أن هذه البصيرة المميزة لما هو ثمين في نظر الله، أحد الدواعي لوصفها أنها إمرأة عظيمة.  ماذا لاحَظَت يا ترى؟ هل لفت انتباهها أناقة مظهره أو لباقته وفصاحة لسانه؟ هل انجذبت له بسبب مواهبه الفذة وصيته الذائع؟ لا شيء من ذلك!  إنما بررت استعدادها لإكرامه وعمل علية له في بيتها، لكونها تأكدت بأدلة متنوعة ومواقف عديدة أنه "رجل الله، مقدس".  الشهادة هنا لا ترتبط بأداء خدمته إنما بشخصه.  أول عمود من البخور العطر، نراه يتصاعد من شونم هو استقامة أليشع.  الطيب الذي فاح من سيرة هذا الخادم الأمين، أشبع قلب الله أولاً، قبل أن يلفت انتباه هذه المرأة ذات البصيرة الروحية الثاقبة.  لم تكتشف ذلك وهي تراه يعلَّم مرة عن القداسة أو أظهرها بموقف معين، لكن تأكدت أنه كذلك من خلال ملاحظتها لتفاصيل حياته.  سلوك أليشع كان يعكس صفات الله الأدبية أمام الناس، إذ كان بالفعل منفصلاً للرب، ولا يشترك في خطايا الآخرين، وكل ما فيه ولديه كان مخصصًا لسيده.  أعتقد أن هذه الملاحظة المباركة أنشأت في قلبها غيرة مقدسة أن تخصص حياتها: نفسها وكل نفيس عندها، آمالها وكل أموالها للرب، الذي رأت نموذجًا مشجعًا للتكريس له في حياة خادمه التقي.

القداسة شرط للخدمة المؤثرة

   قبل أن يوصي بولس ابنه تيموثاوس أن يضرم موهبة الله التي فيه، أوصاه أن يروض نفسه للتقوى، ويحفظ نفسه طاهرًا، ويلاحظ نفسه والتعليم. عندما ضرب الفساد في دائرة الاعتراف المسيحي وصارت الكنيسة بيتًا كبيرًا فيه أواني للكرامة وأواني للهوان، نصحه أن ينفصل للرب ليكون إناء للكرامة مقدسًا نافعًا للسيد مستعدًا لكل عمل صالح.

   وقبل أن يحثه لكي يُفصِّل كلمة الحق بالاستقامة، شجعه أن يسلك هو أولاً بالاستقامة مجتهدًا أن يقيم نفسه لله مزكى، عاملاً لا يخزى.  

 يارب، ذكرنا أن حياتنا كالسفر المطبوع، تقرأه الجموع، وأعنا كي نعيش في رضاك فيرونك فينا مصورًا وطيب جمالك وكمالك يفوح في بيوتنا وشوارعنا وأعمالنا وعلاقاتنا.

في سيركَ في ذي الحياةْ سوف تراك الجموعْ

عش طاهرًا روحًا جسدْ حتى يروا فيكَ يسوعْ

 

طيب يفوح من سلوك الشونمية:

   يعتقد البعض أنها امرأة عظيمة بسبب مركزها أو غناها، لكني أرى أن الروح القدس عندما يعطي كرامة لأي شخص فذلك لأسباب أخرى أكثر أهمية وقيمة في نظر الله.  مقاييس العظمة بتقدير السماء مختلفة عن دواعي العظمة في منطق البشر.  مثلاً، نجد الروح القدس شرَّف أشخاص مثل يعبيص ومؤمني بيرية وأكرمهم عن غيرهم لأسباب متعلقة بموقفهم من شخص الرب وكلمته.  وعلى الأرجح، دعيت هذه المرأة عظيمة لأنها أكرمت إلهًا عظيمًا.  أكرمته أولاً بتمييزها وتقديرها للأمور الثمينة في عيني الله.  أتصور الرب فرحًا بها، قائلاً لها: « عيناك حمامتان».  هنا فاح طيب البصيرة الروحية الثاقبة.

   لم يتوقف الأمر عند مجرد قناعة فكرية أو وجهة نظر، لكن رؤيتها الصحيحة قادتها إلى عطاء سخي وعمل تاعب إكرامًا للرب الذي رأته ممثلاً في أليشع رجل الله. هنا فاح طيب العطاء و المحبة التاعبة.

   عندما عرض أليشع عليها مكافأة لتعبها أظهرت اكتفاءها ورضاها بامتياز وجودها وسط شعبها المحبوب. هنا فاح طيب قناعتها وإخلاص دوافعها.  بعد أن مات ابنها، أضجعته على سرير رجل الله، ولم تزعج زوجها في هذا الظرف العصيب وجرت إلى رجل الله.  وحين سؤلت عن أحوالها قالت سلام. هنا فاح طيب الإيمان العظيم والثقة الغالبة.

  عند هذا النوع من الطيب أتوقف قليلاً لأقول "كما أن قلب الرب ينتعش بتعب المحبة، فقلبه ينتعش أيضًا بصبر الرجاء والشكر في التجارب والآلام والثقة في صلاح الرب".  نعرف أحباء أتقياء، من الرجال والنساء، شاء الرب في حكمته أن يقضوا سنوات طويلة من حياتهم على فراش المرض متألمين لكن شاكرين ولم تُتح لهم الفرصة أن يتجولوا في الخدمة أو يتعبوا في عمل الرب.  فهل يمكن أن يشتم الرب رائحة سرور من تكريس قلوبهم له حتى لو اعتلت أجسادهم؟ نعم، بكل تأكيد.  إنهم يشبهون أشجار البلسان الذي حين يُجرح يسيل منه المر القاطر ذو الرائحة العطرة، وبقدر ما تكون التجربة أكثر ألمًا، بقدر ما تفوح منهم أطياب الحمد للرب، التي تنعش قلبه كما ينتشر نسيم رائحتها الذكية بين إخوتهم.

****

   هنيئًا لكم يا من تكرمون الرب بتقديركم لمبادئ التقوى الحقيقية وحياة القداسة.  طوبى لكم يا من تخدمون الرب في الخفاء وتسرون بالعطاء وتفتحون بيوتكم إكرامًا للرب في قديسيه.  هنيئًا لكم أيها الأبطال الذين مجدتم الرب في تجاربكم المحرقة وتشجعتم به في قلب معصرة الألم، إيمانكم بصلاحه وتسليمكم بحكمته أقوى وأبلغ أثرًا من خدمات كثيرة.

   محدودية نشاط أجسادكم العليلة لن يقلل من تكريس قلوبكم المخلصة وتأثير شهادتكم يفوق تصورات عقولكم. هل أصواتكم خافتة ونبراتكم مرتجفة؟! مهلاً يا أحبائي وصبرًا، فقوة هتافكم في ترانيم الصباح ستفوق زفرات الألم وبكاء المساء، ومن فوق منصة المجد سيمتدحكم رب المجد، ستتأكدوا حينها أن صبركم وشكركم في آلامكم المتنوعة لم يكن أبدًا إتلافًا بل إستثمارًا كريمًا ستكافئون عنه أضعافًا.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com