عدد رقم 6 لسنة 2016
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
كنيسة ثياتيرا (2)  

(تابع ما قبله)

(رؤ2: 18 – 29)

(من سنة 600م حتى نهضة الإصلاح في القرن الخامس والسادس عشر)

   في الرسائل السابقة كانت الدعوة للتوبة توجه إلى كل الكنيسة، فقد كان هناك أمل للتوبة والرجوع إلى الحق.  لكن هنا يقول الرب: «أعطيتها زمانًا لكي تتوب ولم تتب.  ها أنا ألقيها في فراش والذين يزنون معها في ضيقة عظيمة، إن كانوا لا يتوبون عن أعمالهم» (رؤ2: 21، 22).  ويا لطول أناته! 

   على أن الرب أقام في هذه الفترة من تاريخ الكنيسة شهودًا أمناء وقفوا ضد الشر وهاجموه ببسالة.  ففي القرن الرابع عشر وقف جون ويكليف بشجاعة في إنجلترا ضد شرور روما مؤكدًا سلطان كلمة الله، وترجم الكتاب إلى الإنجليزية، معطيًا لهم أول كتاب مقدس كامل بلغتهم.  وجيروم سافونا رولا بشر بأمانة في إيطاليا في القرن الخامس عشر، ولكنه شُنق وأُحرق بأمر البابا.  وجون نوكس في اسكتلاندا، ومارتن لوثر في ألمانيا في القرن السادس عشر، وزوينجلي وكلفن في سويسرا، وكثيرون آخرون كانوا مصلحين وقد استخدمهم الرب لكي يدعوا روما إلى التوبة، لكنها اضطهدت عبيد الرب وقتلتهم، وكانت بالمرصاد لكل من ينشق عليها.  هؤلاء أنار الرب أذهانهم وعرفوا أن الغفران والتبرير والقبول أمام الله هو فقط بالإيمان بعمل المسيح الكفاري، وأن «البار بالإيمان يحيا» (حب2: 4)، وتصدوا لجبروت روما، وكشفوا بطلان وزيف وخرافات هذا النظام البابوي الفاسد وادعاءاته.  وفي تلك الفترة تطورت صناعة الورق، واخترعت الطباعة بواسطة يوحنا جوتنبرج في ألمانيا، وكان أول كتاب طُبع في التاريخ هو الكتاب المقدس سنة 1456م، وكانت يد الرب وراء هذا العمل العظيم لنشر كلمته.  وفي سنة 1517م علق مارتن لوثر عريضة على باب كنيسة وتمبرج، تضمنت 95 بندًا يحتج فيها على البابا وتعاليم الكنيسة الكاثوليكية، وقُدِّم للمحاكمة وسط مشاعر غضب عارمة تطالب بحرقه، وقد وصل إلى المحكمة وسط حراسة مشددة.  وأُعطي فرصة أخيرة للتراجع عن كل ما قال وكتب، لكنه رفض بكل إباء وأصر على موقفه، وكان على استعداد أن يدفع حياته ثمنًا لإخلاصه للحق الكتابي الذي وصل إليه.  وفي سنة 1520م أحرق أمر البابا بحرمانه، وكسر نير روما وسطوتها معلنًا الحرب على هذا النظام كله، وفي سنة 1521 نُقل وسط حراسة مشددة وحماية من النبلاء في ألمانيا الذين وقفوا معه وساندوه، إلى قلعة فارتبورج، حيث حُفظ في أمان لمدة عام، ظل خلاله مُعتكفًا على دراسة الكتاب المقدس، وقد ترجمه إلى الألمانية لأول مرة، وأخرجه إلى النور بعد أن احتُجب عن أعين الناس لقرون طويلة.  وكانت الترجمة الوحيدة المتاحة هي فقط باللغة اللاتينية التي لا يفهمها معظم الناس.  وكان الرب مع هؤلاء الأتقياء المصلحين الذين قاموا بنهضة عظيمة في تاريخ الكنيسة عمت كل أوربا وامتدت إلى العالم أجمع، وتبعتها ثورات في كل المجالات.  وانتشر حق الإنجيل والكرازة به، ورجع الآلاف إلى الرب بإيمان حقيقي، وكانوا يسمعون كلمة الله بشغف لمدة 4 – 5 ساعات يوميًا.  وكان شعار هذه الحركة المباركة هو "الكتاب وحده، والكتاب كله".

   كان النور الذي أشرق في قلوب هؤلاء الرجال المصلحين الأفاضل يتركز أساسًا في الحقائق الخلاصية التي ترتبط بالغفران والتبرير والقبول أمام الله والوصول إلى السماء، على أساس كفارة المسيح وذبيحته الواحدة في الجلجثة، وأن الحصول على هذه البركات هو فقط بالإيمان بالمسيح وعمل صليبه ودمه المُطهر، وليس بالأعمال أو الأموال التي تُدفع للبابا للتكفير، ولا بأية ممارسات كنسية.  وبالطبع فإن الإيمان الحقيقي سينشئ أعمالاً صالحة وتغييرًا أخلاقيًا في الإنسان.  فالنعمة المخلصة هي النعمة المعلمة أن ننكر الفجور والشهوات العالمية، ونعيش بالتعقل والبر والتقوى في العالم الحاضر (تي2: 11، 12).  كان هذا إنجازًا عظيمًا في يومهم، لكنهم لم يصلوا إلى كل الحق.  وظلت بعض الأمور والحقائق (خاصة الممارسات الكنسية في العبادة والخدمة وكسر الخبز) مشوشة في أذهانهم إلى أن افتقد الرب الكنيسة بالنهضة الفيلادلفية في أوائل الربع الثاني من القرن التاسع عشر، وأنار أذهانهم من جهة الحقائق الخاصة بكنيسة الله وارتباطها بالمسيح رأس الجسد، والاجتماع إلى اسم الرب، ورئاسة الرب للاجتماع، وقيادة الروح القدس، وكهنوت جميع المؤمنين، والسجود بالروح والحق، وكسر الخبز، والشهادة والخدمة الصحيحة بالروح القدس، والانفصال عن شرور البيت الكبير في المسيحية، ورجاء مجيء المسيح للاختطاف، وظهوره إلى العالم للدينونة، والملك الألفي، والفرق بين إسرائيل والكنيسة، وكل النبوات وأحداث سفر الرؤيا ... ألخ.      

   حاولت روما استئصال رجال الإصلاح بالسيف والحرق سنة 1529م، لكن أمراء ونبلاء ألمانيا اتحدوا وقدموا منشورًا وإعلانًا شريفًا، واحتجاجًا رسميًا ضد روما، وسموا أنفسهم "المحتجين أو المعارضين"، ومن هنا بدأت البروتستانتية في العالم.        

   وقد استمرت البابوية إلى يومنا هذا دون توبة، وستستمر إلى دينونتها النهائية كما هي مبينة في (رؤ17)، وستكون أشد ظلامًا وسوادًا من الماضي لأنها رفضت التوبة، ولم تستفد من طول أناة الله وصبره، «أعطيتها زمانًا لكي تتوب، ولم تتب»، وستتحالف مع الوحش الروماني في أسوأ صور الارتداد.  إن الدينونة لا بد أن تقع على هذا النظام وكل من ارتبط به ولم ينفصل عنه، وكل ثمرة هذا النظام الفاسد.  ولهذا يقول: «أولادها أقتلهم بالموت».  والإشارة هنا إلى الضيقة العظيمة تطبق على معاملات الرب القضائية والدينونة المستقبلة التي ستأتي على العالم بعد اختطاف الكنيسة الحقيقية، والدينونة النهائية أمام العرش العظيم الأبيض.  «وستعرف جميع الكنائس إني أنا الرب الفاحص الكلى والقلوب، وسأعطي كل واحد منكم بحسب أعماله» (رؤ2: 23).  بالطبع هذا سيحدث من وقوع الدينونة في الزمان قبل الاختطاف حيث لا تزال الكنيسة على الأرض، وعبارة «كل واحد» ترينا المسؤولية الفردية الخطيرة، وليس فقط مسؤولية الكنيسة بوجه عام.

   «ولكني أقول لكم أيها الباقون في ثياتيرا، كل الذين ليس لهم هذا التعليم، والذين لم يعرفوا أعماق الشيطان كما يقولون، إني لا ألقي عليكم ثقلاً آخر.  وإنما الذي عندكم تمسكوا به حتى أجيء» (ع24، 25).  هنا يخاطب الرب البقية بلغة الحنان والرحمة.  هؤلاء لم يكن لهم تعليم إيزابل الشرير، وكانوا أبرياء من الاتهام الذي وجه لهم كمن يعرفون أعماق الشيطان وينقادون بواسطته.  لقد احتملوا اضطهاد هذا النظام الفاسد، لكن الرب وقف في صفهم وبررهم.  كان التمسك بالحق والوقوف ضد هذا التيار الجارف يحتاج إلى شجاعة كبيرة وتضحية، ولهذا يقول لهم: «إني لا ألقي عليكم ثقلاً آخر».  والشيء الوحيد الذي طلبه هو أن يتمسكوا بما عندهم، ثم يشجعهم برجاء مجيئه القريب، وهو أقوى مشجع للمؤمنين في هذه الظروف الحرجة.  ولا شيء يبهج الجندي في الحرب مثل نظرة القائد له، ووعده بأن الحرب قصيرة وأنه سيُكلل عندما تنتهي الحرب.  لم يعد هناك أمل في شفاء الكنيسة ككل، ولهذا تحول الرب إلى البقية المنفصلة بهذا التشجيع.

   الوعد للغالب: «من يغلب ويحفظ أعمالي إلى النهاية فسأعطيه سلطانًا على الأمم، فيرعاهم بقضيب من حديد ... كما أخذت أنا أيضًا من عند أبي.  وسأعطيه كوكب الصبح» (ع26 – 28).  بهذه المواعيد يشجع الرب الغالبين في اليوم الشرير في ثياتيرا.  كان عليهم أن يتمسكوا بما عندهم، محافظين على انفصالهم عن شر نظام إيزابل، وسائرين بخضوع لكلمة الله وماذا يقول الكتاب، وأن يحفظوا أعماله إلى النهاية، تلك الأعمال التي يمدحها الرب في (ع19)، أي المحبة والإيمان والخدمة والصبر والاجتهاد والتكريس المتزايد.  بالإجمال أن يحاضروا بالصبر ويواصلوا الجهاد ضد الشر والفساد المحيط، وكل اضطهاد أو غواية من هذا النظام.  والوعد للغالب يتضمن أولاً: أنه في مُلك المسيح مستقبلاً سيكون له نصيب معه في سلطانه على هذه الشعوب ودينونتها العادلة.  والغالب سيشترك مع المسيح في مُلكه وسيأخذ منه القوة للحكم، كما أخذ هو من عند أبيه (مز2: 8، 9).  ثانيًا: «وسأعطيه كوكب الصبح»، هذا هو الجزء الثاني من الوعد، وهذه البركة أخص وأجمل لأنها تعني المسيح نفسه وليس الحُكم، المسيح كرجاء الكنيسة وعريسها السماوي (رؤ22: 16).  إن كوكب الصبح يضيء في آخر ساعات الليل، وهم كانوا في أشد الأوقات ظلامًا، ولهذا فإن كوكب الصبح له بريق خاص ومبهج بالنسبة لهم.  وهو يظهر قبل شروق الشمس.  كذلك سيأتي المسيح للاختطاف ”ككوكب الصبح المنير“ قبل أن يظهر للعالم وللبقية التقية من اليهود ”كشمس البر والشفاء في أجنحتها“ (ملا4: 2)، عندما يأتي ليملك على الأرض.

   «من له أذن فليسمع ما يقوله الروح للكنائس» (ع29).  كما في كل الرسائل هناك الدعوة للأذن السامعة لتصغي إلى صوت الروح.  وبداية من هذه الكنيسة نجد تغييرًا في الترتيب.  ففي الكنائس السابقة كانت الدعوة إلى السمع  تسبق الوعد للغالب، لكن من هنا فصاعدًا يأتي الوعد للغالب أولاً ثم الدعوة إلى السمع.  لأن الذي سيسمع هو الغالب فقط وليس مجموع الكنيسة.  فالمجموع فسد وأصبح الروح القدس يتعامل مع البقية.  وليت كل قارئ يكون ضمن هذه البقية التي تسمع وتتجاوب مع نداء الروح القدس.

***

   وعندما نعود إلى رحلة بولس في السفينة (أع27: 14 - 20)، هذا الجزء الذي يقابل الدور الرابع من تاريخ الكنيسة النبوي (ثياتيرا) في العصور المظلمة، كما ورد في كتاب "رحلة الكنيسة"، سنجده يتميز بما يلي:

1-  ظلمة الوثنية التي تغزو المسيحية وتنتشر.  فلقد هاجت على السفينة ريح زوبعية يقال لها ”أوروكليدون“ أي شرقية شمالية.  والشرق يتكلم عن البعد عن الله والوثنية، والشمال يتكلم عن شدة وهياج الشيطان وأعوانه ضد من يعترض على تعاليم النظام البابوي.  «ولما لم يمكنها أن تقابل الريح سلمنا فصرنا نُحمل» (ع14، 15).  وهذا لا يعني الخضوع والتسليم للرب، بل الاستسلام وعدم القدرة على المواجهة.  فكان من يرفض السجود للتماثيل يُعتبر كافرًا، وقد قتلت الامبراطورة ثيودورا، التي اعتبرتها الكنيسة قديسة، مئة ألف شخص في فترة وجيزة، لأنهم رفضوا السجود للتماثيل.

2-  ضياع محتويات الحق المسيحي.  «إذ كنا في نوء جعلوا يفرغون في الغد.  وفي اليوم الثالث رمينا بأيدينا أثاث السفينة» (ع18، 19).  هذا يعني تفريغ المسيحية من محتوياتها العظيمة مثل كمال وكفاية عمل المسيح وعدم تكراره، كمال وكفاية الكتاب المقدس، كهنوت جميع المؤمنين، السجود في الأقداس السماوية بالروح والحق، اعتبار الخلاص الأبدي والتبرير بالإيمان فقط بدعة.  «وإذ لم تكن الشمس ولا النجوم تظهر أيامًا كثيرة» (ع20)، هذا يرينا كم كانت هذه الفترة مظلمة وكئيبة.  إن احتجاب السماء عن ركاب السفينة يشير إلى أن الدعوة السماوية قد غابت عن الكنيسة، وفقدت المسيحية طابعها السماوي ورجاءها، وصارت واحدة من ديانات العالم.  «ولما حصل صوم كثير» (ع21)، هذا يعني أنهم لم يُحرموا من النور فقط بل من الطعام أيضًا.  ولهذا يقول لوقا: «جرينا تحت جزيرة يقال لها كلودي» وهي تعني صوت النواح.  فقد فقدت المسيحية طابع الفرح والترنم، وحل محلها الزهد والتقشف وقهر الجسد.

3-  ضياع الأمل.  «انتُزع أخيرًا كل رجاء في نجاتنا» (ع20).  مع شدة الريح سلموا فصاروا يُحمَلون، وقارب النجاة كاد أن يُفقد، والسفينة كادت تنكسر، وفقدوا السيطرة على السفينة فأنزلوا القلوع، ثم أفرغوا محتويات السفينة، وساد الظلام الحالك أيامًا كثيرة، لا يجدون إرشادًا من خلال الشمس أو النجوم، وبذلك تملكهم اليأس القاتل.  كان هذا هو الحال حتى ظهور فجر الإصلاح.          

                                                                      

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com