عدد رقم 6 لسنة 2016
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
المفهوم الصحيح لتبعية المسيح (2)  


   فهمنا من المقال السابق أن مفهوم بولس عن تبعية المسيح يختلف عن مفهوم كلٍّ من بطرس ويوحنا، وفهمنا أن الاختلاف منشأه اختلاف الوضع الذي كان عليه المسيح يوم أن أعطى تكليفًا لكل واحد منهم وأرسله.  فبطرس ويوحنا أخذا إرساليتهما من المسيح وهو على الأرض، بينما بولس أخذ إرساليته من المسيح في المجد.  والواقع أن هذا الاختلاف ليس مجرد اختلاف في المكان، لكن يقينًا له أبعاد أكبر من ذلك، لأننا ببساطة يمكننا القول أن المسيح قبل الصعود - أي وقت إرساله لبطرس ويوحنا - لم يكن رأس الكنيسة، أما بعد الصعود فقد أخذ هذا المركز مرسِلاً الروح القدس ليُكوِّن الكنيسة، ثم ظهر لبولس ليكلفه بإرساليته.  من هذا المنطلق يمكننا أن نجيب على السؤال الذي ختمنا به مقالنا السابق، وهو: ما معنى أن نتمثل ببولس؟ والإجابة تتلخص في أنه إذا اكتفينا بتبعية المسيح في سلوكياته التي عاش بها على أرضنا وظننا أن هذا هو جوهر المسيحية سنبتعد عن المسار الصحيح الذي هو بحسب مشيئة الله لنا، فالمسيح هو الحق، وهذا صحيح تمامًا، لكن المسيح ليس فقط الإنسان الذي عاش على الأرض، إن هذا مجرد جزء من الحق، فهو صعد إلى بيت الآب وغاب عن أعيننا، ولم يكن لنا أن نعرف ما هو عليه الآن وما الذي يريد منا أن نفعله، خاصة وأنه قد صرَّح بنفسه أنه لم يقل لتلاميذه كل الحق معلنًا أن الروح القدس هو الذي سيكمل المسير معنا ويرشدنا إلى جميع الحق (يو16: 13،12).  لذا كان لا بد له أن يعلن لنا عن مركزه الذي يشغله الآن بالنسبة لنا وعن تعاليمه المكملة لتعاليمه التي قالها وهو على الأرض، حتى تكتمل أمامنا الصورة، لقد أعلن هذا كله لإنسان، ثم بالروح القدس نقل هذا الإنسان ما سبق وأُعلِن له من المسيح كتابةً، ثم طبع الروح القدس في حياة هذا الإنسان الصورة التي يجب على كل مؤمن أن يتمثل بها حتى يتمكن من تبعية المسيح بعد أن غاب عن أعين أولئك الذين عاينوه لما كان هنا على الأرض.  إن هذا الإنسان هو: بولس الرسول، فكما كان المسيح هو صورة الله المعبرة تمامًا عن كل ما هو الله في ذاته حيث كان الله يكلمنا فيه (عب1: 2،1)، كان بولس هو الإناء المُعَد من الله ليعلن فيه عن مركز ابنه بعد صعوده، هذا الإعلان تضمن في كُتبه بالوحي بل وفي منهجية حياته، فلقد كان هذا هو المعنى المقصود من الآية: "ولكن لما سرَّ الله الذي أفرزني من بطن أمي ودعاني بنعمته أن يعلن ابنه فيَّ لأبشر به بين الأمم للوقت لم أستشر لحمًا ودمًا" (غل1: 16،15).  كانت حياته صورة تحققت في كثير من تفاصيلها – وليس كلها طبعًا – الحياة التي ينبغي أن يحياها كل مؤمن يريد أن يتبع المسيح، ليس فقط في حياته بالجسد، لكن أيضًا بعد صعوده، بعد أن طُويت آخر صفحات الأناجيل الأربعة.  فها هو تيموثاوس المُحبَط من ارتداد الكثيرين عن تعليم بولس في أيامٍ تشبه كثيرًا أيامنا، وزاد على ذلك شعوره بأن بولس وهو قدوته الوحيدة كاد أن يفارق الحياة، نجد بولس يحرضه على التمسك بتلك الصورة، أي الصورة التي انطبعت في حياة بولس والتي رأى فيها بوضوح كيف يسلك من يريد أن يسلك وفق الحق الكامل (2تي1: 13).

الجانب الأول:

  هذا ينقلنا إلى الجانب الأول من المفهوم الصحيح لتبعية المسيح، وهو الجانب المتعلق بكوننا خليقة جديدة في المسيح.  هذا الجانب قد أهمله الكثيرون لدى كلامهم عن تبعية المسيح، بل إنني لا أشك أن البعض قد يرى أن لا علاقة بين تشبع أذهاننا وقلوبنا بالحق المختص بكوننا خليقة جديدة في المسيح (الممجد)، وبين فهم معنى تبعية المسيح، والبعض الآخر قد يقتصر فهمه لمسألة كوننا خليقة جديدة على تغير سلوكياتنا أدبيًّا لتصبح أكثر شبهًا بالمسيح، وإن كان هذا الفهم ليس خاطئًا إلا أنه ليس هو المقصود من الآية الشهيرة: "إذًا إن كان أحدٌ في المسيح فهو (أو " فها ") خليقة جديدة، الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديدًا" (2كو5: 17).  

   وسنبدأ بمعونة الرب مناقشة هذا الجانب في هذا المقال، وإنني أرى أن أكثر الآيات تلامسًا مع هذا الجانب هي واحدة من الآيات الأربعة التي أشرت إليها في المقال السابق وهي: "كونوا متمثلين بي معًا أيها الإخوة" (في3: 17).  نعم فالتعليم المختص بالخليقة الجديدة والمركز الجديد الذي فيه المسيحي إنما هو في صميم تعليم بولس الذي قدَّمه تحديدًا في رسالة رومية.

   إن المسيح بقيامته صار رأس الخليقة الجديدة، تلك الخليقة المزمعة أن تتكون بعد الملك الألفي ودينونة الأموات، يوم أن يصنع الله كل شيءٍ جديدًا (رؤ21: 5) وذلك في الحالة الأبدية.  والحقيقة هي أنه إلى أن يأتي هذا اليوم لن يكون هناك كيانًا يمكن أن تظهر فيه ولو بعض ملامح الخليقة الجديدة سوى الكنيسة، والسبب البسيط هو أنها الكيان الوحيد المتحد بالمسيح بواسطة استقرار روح المسيح نفسه فيه منذ يوم الخمسين (1كو12: 13).  والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: إن كان المسيح قد صار رأس الخليقة الجديدة بالقيامة، فما هو الوضع الذي كان عليه قبل الموت والقيامة؟ والإجابة أنه كان ضمن الخليقة الأولى.  بالطبع المسيح غير مخلوق لكنه الخالق، إلا أنه بالتجسد صار ضمن الخليقة الأولى، مشابهًا لها في كل شيء فيما عدا أن الخطية مستحيل أن تقترب منه على خلاف الوضع الطبيعي للخليقة الأولى.  ولكي أدخل إلى موضوعي دون المرور على تفاصيل كثيرة، أقول أن المسيح وُلد تحت الناموس، وعاش تحت أحكام تدبير الناموس، لكونه جاء ليس فقط في جسد الخليقة الأولى (خاليًا من الخطية)، لكن أيضًا جاء من ذات النسل الموضوع تحت هذا التدبير، أعني "نسل إبراهيم" (غل4: 4)، وبالتالي يمكننا القول ببساطة أننا نعيش تحت تدبير يختلف تمامًا عن التدبير الذي عاش تحته المسيح، فهو عاش تحت الناموس بينما نعيش نحن الآن تحت النعمة (رو6: 14).  صحيح أنه أتى مملوءًا نعمةً وحقًّا، لكن ما ظهر من النعمة فيه تمثل في ارتضائه أن يتجسد ويتضع ويفتقر، ويتلامس مع المحتاجين والمساكين ويخدمهم، ويَقبل الخطاة ويقدم لهم محبته الغافرة والساترة، ثم في ختام رحلته يُرفع على الصليب ويموت، لكن ما كان لنا أن نتمتع بتدبير النعمة إلا بعد قيامته.

   وعلى هذا فإن كثيرًا من الاعتبارات يتوجب علينا أن نضعها في بالنا ونحن ننظر إلى حياة المسيح بغرض تبعيته.  بالطبع إن ثمة اختلافات بيننا وبينه ناتجة عن تغير التدبير قد سبق وتنبه لها الجميع، مثل استحالة أن تكون نظرتنا للأمم مثل نظرته للمرأة الكنعانية تلك النظرة المحكومة بمعطيات تدبير الناموس (مت15: 26)، لكن لأني – كما سبق التوضيح – لا أريد شرح المفهوم الصحيح لتبعية المسيح من كل جوانبه وأكتفي فقط بالإشارة للمفاهيم التي أرى أنها غابت عن الكثيرين، فإنني هنا أركز على مسألة تغير المكان الذي عاش فيه المسيح ونادى بتعاليمه عن ذلك المكان الذي فيه هو الآن.  وكما يجب علينا تبعيته في التشبه بحياته التي عاشها على الأرض، إلا أننا يجب على ذات القياس فهم الوجه الآخر لتبعيته حتى نستطيع أن نتبعه تبعية حقَّة.  وكما ذكرت أن ليس ما أقصده من تغير المكان هو أنه كان على الأرض بينما هو في السماء الآن.  والسؤال الذي يطرح نفسه: أين المسيح الآن إن كانت الإجابة الصحيحة ليست هي أنه في السماء؟   

  إن ما أقصده ببساطة مما سبق يتلخص في أن المسيح قال ذات مرة: "إن كان أحدٌ يخدمني فليتبعني، وحيث أكون أنا هناك أيضًا يكون خادمي.  وإن كان أحدٌ يخدمني يكرمه الآب" (يو12: 26).  ولكي أصل إلى مقصدي من أقصر طريق، فإننا يجب أن نفهم هذه الآية في ضوء مفهوم الخروج الوارد في كلامه عن نفسه كالراعي في يوحنا10 حيث كان مزمعًا أن يُخرج خرافه الخاصة من الحظيرة اليهودية،  ولقد تم هذا بخروجه أولاً من ذات الحظيرة، ثم بسلطان صوته المحيي جعل خرافه تتبعه فخرجت وراءه من تلك الحظيرة.  وإذ كانوا قد آمنوا به وانفصلوا رسميًا عنها، دون أن يخرجوا بأذهانهم وقلوبهم وضمائرهم عن عوائد الديانة اليهودية، لزم تحريضهم في الرسالة إلى العبرانيين على خروجهم إليه خارج المحلة حاملين عاره (عب13: 13).  كانت المحلة هي منطقة خيام بني إسرائيل حيث أُقيمت خيمة الاجتماع في وسطها شهادة على أن كل أركان الديانة اليهودية هي الحاكمة لهذا الشعب (عد1: 52-54).  تلك الأركان التي اشتملت على الشريعة والنظام الكهنوتي والفرائض الطقسية، ولما كانت الشريعة تلزمهم بحفظ السبت، وهو أمر متعلق بالخليقة الأولى الخاضعة للنورين العظيمين اللذان كانا لحكم الليل والنهار كما أنهما كانا لأيام وأوقات وسنين (تك1: 14-19)، والنظام الكهنوتي كان استحقاقًا خاصًّا لنسل هارون فقط، فالتناسل الجسدي كقانون طبيعي في الخليقة الأولى صار يحكم الاستحقاق الكهنوتي، كما أن ممارسات الجسد الذي هو جزء من الخليقة الأولى صارت شيئًا أساسيًّا في العبادة اليهودية، فإننا يمكننا القول أن هذا النظام الذي قد رسمه الله بنفسه كان مناسبًا للتعامل مع الإنسان من منطلق انتمائه للخليقة الأولى، ولذا كان لازمًا على المسيح وقد جاء في جسد الخليقة الأولى أن يوضع تحت هذا النظام بكامل أركانه، أما وقد صار بعد قيامته رأسًا لخليقة جديدة فلا يمكن إذًا أن يستمر تحته، وعلى ذات القياس أولئك الذين آمنوا به من الحظيرة اليهودية، فهم إذ اتحدوا به بالإيمان صاروا في ذات الوضع، أعني الخليقة الجديدة، صحيح أنهم ما زالوا في جسد الخليقة الأولى محكومين بقوانينه الطبيعية، تلك القوانين التي كان بعض منها متداخلاً في ذلك النظام القديم مثل حفظ الأيام وإثبات سلاسل النسب، كما أسلفنا الذكر، لكنها في النظام الجديد لم تعد تمثل أي قيمة.  إلا أنهم في الاختطاف سيأخذون جسد الخليقة الجديدة الذي سيكون على صورة جسد مجد المسيح (في3: 21).  أما الأمم إذ لم يكن لهم حقٌ في الارتباط الرسمي بالله كشعوب، لم يكونوا أصلاً تحت هذا النظام القديم، لكن إذ اتخذ الله لنفسه منهم شعبًا (أع15: 14) دخلوا مباشرةً في علاقة مع الله ضمن الكنيسة المحكومة فقط بقانون الخليقة الجديدة (غل6: 16،15)، الذي لا يعترف نهائيًا بأي شيء ينتمي للخليقة الأولى كعنصر متداخل في العبادة والخدمة الروحية، فهم رجعوا من الأوثان مباشرةً إلى الله دون المرور على اليهودية (1تس1: 9).  هنا يمكننا الإجابة على سؤالنا عن أين المسيح الآن لكي نتبعه، إنه ببساطة خارج النظام الوثني الذي عمله الشيطان بواسطة الإنسان، وخارج أيضًا النظام اليهودي على الرغم من أنه يتمتع بمصادقة الله لأنه تصميم إلهي خالص لم يكن للإنسان دخلٌ فيه.

   لكن عذرًا قارئي العزيز، فإنه نظرًا لضيق المساحة سأتركك عند هذا النصف من الإجابة ونستكمل النصف الآخر في المقال القادم بمعونة الرب.


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com