(قراءة
في أبْطَال داود)
(2صم23؛ 1أخ11، 12)
(5)
تحدثنا فيما سبق عن بعض الصفات والسمات الأدبية
التي يتشارك فيها أبطال داود. وتكلَّمنا
عن:
أولاً: الاجتماع إلى داود
(1صم22: 1، 2؛ 1أخ12: 1، 8، 16، 19، 20، 22، 23).
ثانيًا: ترتيب الأولويات والخبرة
بِالأَوقَات (1أخ12: 32).
ثالثًا: التسلح للحرب (1أخ12: 1، 8، 25، 33،
35، 36، 37، 38).
رابعًا: الشجاعة تُلهم الشجاعة
(1صم17:
34-36؛ 1أخ11: 22).
خامسًا: الوحدة مع التعددية.
ونواصل في هذا العدد تأملاتنا في مقاييس البطولة
الروحية الصحيحة، فنقول:
سادسًا: الأبطال الروحيون يلمعون ويُضِيئُونَ في أوقات الفشل
الجماعي (2صم23: 9-13؛ 1أخ11: 12-14):
الأبطال الروحيون
يظهرون ويبرزون ويثبتون في وقت الأزمات والأيام الصعبة، عندما يخاف الآخرون
ويستعفون. فحين تزداد قلوب البعض ضعفًا،
تزداد قلوب رجال الله قوة وثباتًا في الإيمان والشجاعة. ولا يخشى الأبطال من الوقوف منفردين، كما فعل
داود أمام جليات، وكما فعل أبطاله أيضًا في مواقف عديدة، وقفوا فيها صامدين، في
الوقت الذي هرب فيه الآخرون خوفًا.
«وَبَعْدَهُ أَلِعَازَارُ بْنُ دُودُو بْنِ أَخُوخِي، أَحَدُ الثَّلاَثَةِ الأَبْطَالِ الَّذِينَ
كَانُوا مَعَ دَاوُدَ حِينَمَا عَيَّرُوا (تحدوا – جابهوا – ازدروا بـ)
الْفِلِسْطِينِيِّينَ الَّذِينَ اجْتَمَعُوا هُنَاكَ لِلْحَرْبِ وَصَعِدَ (تقهقر – هرب) رِجَالُ إِسْرَائِيلَ[1].
أَمَّا هُوَ فَأَقَامَ وَضَرَبَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ حَتَّى كَلَّتْ
يَدُهُ، وَلَصِقَتْ يَدُهُ بِالسَّيْفِ، وَصَنَعَ الرَّبُّ خَلاَصًا عَظِيمًا فِي
ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَرَجَعَ الشَّعْبُ وَرَاءَهُ لِلنَّهْبِ فَقَطْ» (2صم23: 9،
10؛ 1أخ11: 12-14).
ويا للخزي أن نقرأ «وَصَعِدَ
(تقهقر – هرب) رِجَالُ إِسْرَائِيلَ(The
Men Of Israel Were Gone Away)»! ولكن يا للمفارقة «
أَمَّا هُوَ فَأَقَامَ (قامHe Arose - )»! (قارن من فضلك 1تي6:
11؛ 2تي3: 10، 14؛ 4: 5).
فها هو رجلٌ قد وهب
نفسه ببسالة فى ساعة احتياج حرج. لم يُذكر
عنه شيء فى موضع آخر، سوى في المقطع الموازي في 1أخبار11: 12-14. كان ”أَلِعَازَارُ بْنُ دُودُو“ هذا هو أحد الثلاثة الأبطال الذين مَكَّنوا سَيِّدهم
الملك من تحدي ومجابهة، بل وتعيير والازدراء بالفلسطينيين المجتمعين. ففي وقت ما، ولسبب ما، كان جيش الملك” قد رحل
(هرب)“، ولكن ”أَلِعَازَارُ“ رفض أن يهرب أمام قوات العدو المجتمعة، فلم يثبت فقط
بنبل فى مكانه، لكنه أخذ مكان المهاجم، وبثقته فى الله الحي وقع على المئات منهم
وقتلهم.
لقد نبّر الروح على
شجاعة ”أَلِعَازَارُ“ وإقدامه بإخبارنا أنه فعل ذلك فى الوقت الذي ”تراجع فيه رجال
إسرائيل“. هذا هو الوقت الصحيح لإظهار
الشجاعة الحقيقية. عندما يسود عدم
الإيمان، ويُفتقر إلى الغيرة، أو يزداد الخوف من الناس، وعندما يفسح فساد المسيحية
الاسمية وعطبها المجال لقوى الشر، حينئذٍ تتاح الفرصة، لمن يعرفون الرب ويثقون به،
أن يتقووا ويصنعوا الإنجازات.
إن الأمر لا يحتاج إلى
شجاعة كثيرة لمواجهة العدو فى الوقت الذي يتقدم فيه كل أقراننا الجنود ببسالة ضده،
بينما يتطلب الأمر عزم شديد وجسارة لمهاجمة عدو منظم وقوي في وقت وهنت عزيمة
الرفقاء وفلّوا مُدبرين، تاركين ساحة القتال ضد أجناد الشر الروحية.
إن الله يُقدِّر الأمانة
والغيرة المقدسة في زمن الارتداد والتخاذل أكثر بكثير منها في زمن النهضة. إن الضيق لا يمتحن الشخص فقط، بل يُظهر ما فيه،
كما تُثبت العاصفة الهائجة متانة السفينة من ضعفها.
إن ما هو مُسجل هنا
كإكرام ”لأَلِعَازَار“ يجعلنا نتفكر في الرسول بولس المحبوب؛ كم من مرات وقف
وحيدًا، إلا أنه لم يدع تخلي الآخرين عنه عذرًا ليثبط مجهوداته. في مناسبة واحدة رثى قائلاً: «أَنْتَ تَعْلَمُ
هذَا أَنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ فِي أَسِيَّا ارْتَدُّوا عَنِّي» (2تي1: 15). بعد ذلك، في نفس الرسالة كتب: «فِي احْتِجَاجِي
الأَوَّلِ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ مَعِي، بَلِ الْجَمِيعُ تَرَكُونِي. لاَ يُحْسَبْ عَلَيْهِمْ. وَلكِنَّ الرَّبَّ وَقَفَ مَعِي وَقَوَّانِي[2]» (2تي4: 16، 17). ليتنا جميعًا اليوم نتعلَّم مِن تلك الأمثلة.
«أَمَّا هُو (أَلِعَازَارُ
بْنُ دُودُو)َ فَأَقَامَ وَضَرَبَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ حَتَّى كَلَّتْ
يَدُهُ، وَلَصِقَتْ يَدُهُ بِالسَّيْفِ» (عدد10).
لنلاحظ بوضوح أن ”أَلِعَازَار“ لم يتوقف عند تتميم نصف العمل، بل ظل
يلاحقهم هكذا طالما بقيت لديه أية قوة.
هكذا، فى خدمة الله، علينا أن نُبدي الاستعداد وطاعة الروح، بالرغم من ضعف
الجسد وتعبه؛ نُعيى لكن نظل مثابرين (قضاة8: 4).
تكلُّ اليدان، لكن لا نترك السيف؛ «سَيْفَ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللهِ» (أف6: 17).
يا للأسف، في زمن
والرخاوة والميل إلى التكاسل الذي نحن فيه، كم نحن جاهزون لأن نُحبَط! وما أسرع تقهقرنا أمام الصعوبات! يا ليتنا نلتفت إلى هذه الدعوة المؤكدة «فَلاَ نَفْشَلْ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ لأَنَّنَا
سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إِنْ كُنَّا لاَ نَكِلُّ» (غل6: 9).
إن هذه الأحداث لم تُسجَل فقط لإخبارنا بل أيضًا لإلهامنا، حتى نحاكي
أمثلتها النبيلة، وإلا لكانت سببًا لخجلنا فى يوم قادم.
«وَصَنَعَ الرَّبُّ
خَلاَصًا عَظِيمًا فِي ذلِكَ الْيَوْمِ» (2صم23: 10؛ 12؛ 1أخ11: 14 قارن من فضلك أعمال
12: 17؛ 14: 27؛ 21: 19). مما هو جدير
بالملاحظة أن الخلاص يُنسَب للرب «لِلرَّبِّ الْخَلاَصُ» (مز3: 8؛ يون2: 9؛ تك49: 18). إن الرب دائمًا ما يُسرّ بأن يُكرِم جسارة
الإيمان، كما برهن بوضوح قبل ذلك ببضع سنوات، عندما كان داود غلامًا وتحدى جليات
الجبار، وانتصر عليه. إن الرب دائمًا ما
يُكافئ صلابة الإيمان.
لا شك أن الله ضرب جيش
الفلسطينيين هذا برعب عظيم قدر الشجاعة التي وهبها لذلك البطل. إنها دائمًا طريقة الله أن يعمل على طرفي الخيط:
إن أقام زارعًا جهز له التربة، وإن استودع خادمًا الشجاعة، وضع خوفًا في قلوب
مقاوميه.
وبغض النظر عن عظم قدرة
وشجاعة الأدوات التي يستخدمها الرب، فكل مجد الانتصار يجب أن يرجع إلى الله وحده «لاَ يَفْتَخِرَنَّ الْحَكِيمُ بِحِكْمَتِهِ،
وَلاَ يَفْتَخِرِ الْجَبَّارُ بِجَبَرُوتِهِ، وَلاَ يَفْتَخِرِ الْغَنِيُّ
بِغِنَاهُ» (إر9: 23)، لأن أي شيء له لم يسبق ويأخذه من
فوق! «لأَنَّهُ مَنْ يُمَيِّزُكَ؟ وَأَيُّ شَيْءٍ لَكَ لَمْ تَأْخُذْهُ؟ وَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَ، فَلِمَاذَا تَفْتَخِرُ
كَأَنَّكَ لَمْ تَأْخُذْ» (1كو4: 7). كم نحن بحاجة إلى هذا التحريض في أيامنا هذه،
التي فيها يمتطي الكبرياء البعض في زهو، والناس متباهون بذواتهم وبمواهبهم. إن الله يغار على مجده، ولن يتقاسمه مع
المخلوق، وإن فعلنا هذا انطفأ الروح فينا.
ولنتذكر أن قبيل نهاية
حياة الرسول بولس؛ الحياة التي قُضيت في خدمة ناجحة مثمرة للرب، ينسب الرسول تعبه
المستمر وإخلاصه الدائم، لنعمة الله، وللمعونة الإلهية الكافية، فيقول: «فَإِذْ حَصَلْتُ عَلَى مَعُونَةٍ مِنَ اللهِ،
بَقِيتُ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ، شَاهِدًا لِلصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ» (أع26: 22).
(يتبع)