عدد رقم 6 لسنة 2016
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
عُرْس قَانَا الْجَلِيلِ  

«كَانَ عُرْسٌ فِي قَانَا الْجَلِيلِ ... وَدُعِيَ أَيْضًا يَسُوعُ وَتَلاَمِيذُهُ إِلَى الْعُرْسِ»

(يو2: 1، 2)

لقد صادق الرب يسوع على الزواج، وقدَّسه، وزيَّنه، بحضوره عُرْس قَانَا الْجَلِيلِ.  ويُعطي الكتاب المقدس - مِن البداية إلى النهاية -  كرامة مضاعفة للزواج.  لقد رتبه وأرساه الرب بنفسه فى جنة عدن.  وكون المسيح جعل أول ظهور علني له في حفل زفاف، فهذا ليس بلا مدلول متميز.  وكونه صنع أولى آياته فى عرس، فإنما هو دليل على موافقته ومصادقته وإقراره به، وتقديسه للعلاقة الزوجية. 

ولا يوجد موضوع يحتاجه الشباب - في هذه الأيام – أكثر من التحريض الواعي بخصوص الزواج.  إن الزيجات العديدة التعسة، والتي يُساء توجيهها، وإنذارات الانفصال المتكررة، والسهولة التي يتم بسببها الطلاق، كل هذه تُبين أن الوصايا التي تخص الزواج، تفتقر إلى قدسيتها فى عقول العامة.  يجب أن يُدعى الرب يسوع إلى كل عُرْس، كما دُعيَ إلى عُرْس قانا الجليل.  ويجب عدم الدخول فى أية علاقة زوجية طالما كان وجوده غير مُرَّحب به فيها، وبركته غير مطلوبة لها.

ينبغي أن ننوه – مرة ثانية - أن الرب يسوع حضر حفل زفاف.  لقد بدأت خدمته وسط مشاهد للأفراح الإنسانية.  نحن بحاجة أن نتعلَّم أن المسيح ليس مجرد رفيق لساعات أحزاننا فقط، بل أيضًا لأوقات أفراحنا.  إننا لا نفكر فى ذلك كثيرًا.  وعادةً ما نعتبر أن الديانة يُناسبها أن تعمل ”كمصباح خافت فى الأحزان“، وليست ”كشمس ساطعة لامعة وسط بهاء أزهى الأيام“.  مما لا شك فيه أن المسيح يبدو أكثر غلاوة على قلوبنا عندما تأتي المصاعب؛ لكنه صديق مسراتنا أيضًا. علينا ألا نفقد هذا الدرس الذي نتعلَّمه من عُرْس قانا الجليل.  إن الرب لا يتجهم فى وجه المتع البريئة النقية؛ بل إن الأفراح والمسرات لها أهميتها ومكانتها تمامًا كالصلوات.  وعلينا ألا نهاب أن ندعو المسيح إلى أفراحنا الاجتماعية.  وإن كنا لا نستطيع دعوته، فلا بد أن ثَمة خطأ ما فى المسرات نفسها.

أفراحٌ لا تنضب: «فَرَغَتِ الْخَمْرُ» (يو2: 3):

إن هذه الحادثة هي توضيح مناسب جدًا لفشل كل مسرات هذا العالم، المرموز إليها هنا بالخمر المُقدَّم فى العُرْس، والذي لم يكن كافيًا حتى نهاية العُرْس.  هكذا كل الملذات الأرضية، والمسرات العالمية، فهي تأتى فى كؤوس لا ينابيع، أي أن المصادر محدودة، وسرعان ما تنضب.  هكذا هي ولا سيما ملذات الخطية.  فالابن الضال سرعان ما استنفذ ثروته، وابتدأ يحتاج.  لقد شبه أحد الشعراء الخطية بندفة الثلج على النهر؛ ”بيضاء للحظة، ثم تختفى إلى الأبد“.  لكن ينطبق هذا أيضًا على المسرات النقية من وجهة ما.  فحتى حلاوة المحبة البشرية هي مجرد كأس لا يستمر إلى الأبد.  والبهجة التي تغمرنا اليوم، تتحول إلى حزن فى الغد.  ووسط الابتهاج بتعهدات الزواج، هناك قرع أجراس جنائزية فى الكلمات: ”إلى أن يفصلنا الموت“.  وإذا تأنى الرب في مجيئه، فواحد من كل رفيقين لا بد أن يمسك يد رفيقه للوداع على حافة الوادي؛ لا بد أن يقف عند قبره، ويعود ليسير بمفرده باقي الطريق.

إن أفخر وأفضل خمور الحياة والمحبة لا بد أن تنتهي.  لو لم يكن هناك ما هو أفضل فى هذه الحياة، ما كان أتعسها!  لكننا هنا نرى مجد إنجيل المسيح.  الرب يسوع يقترب عندما تفرغ خمر الأرض، ليُعطي خمر السماء لتسد العوز.  يا لروعة وصدق الصورة هنا!  الخمر الفارغة، ثم حضور الرب يسوع بقوة مسددًا الاحتياج!  هذا ما يفعله دائمًا.  إنه يأخذ الحياة التي استنفذت آخر قطرة من الملذات الأرضية، ليُشبعها بالصلاح والبركات الروحية، فلا يعوزها أي شيء بعد.  إن كان الرب يسوع معنا، فعندما تخفق الأفراح البشرية، فإنه – تبارك اسمه - يُعطي أفراحًا جديدة، أفضل بما لا يُقاس، من التي للعالم، ويجزلها بوفرة لا تنضب.

ما أتعس مَن لم يأخذوا المسيح نصيبهم؛ مَن لا يملكون سوى كأس فارغ، عندما تفرغ خمر المسرات الأرضية!

توقيت الرب: لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ» (يو2: 4):

كان الرب يقصد أن وقته لبدء صنع الآيات لم يكن قد حان بعد.  فبالرغم من كل القوة الإلهية الكامنة فى يديه، إلا أنه لم يكن ليفعل شيئًا بتوجيه من أي شخص آخر، سوى إلهه وأبيه.  حتى طلب أُمُّهِ مِنه بهذا الشأن، لم يستطع تلبيته. 

الفكرة المحورية هنا هي تكريس ربنا التام لمشيئة أبيه، وهو ما نراه خلال كل حياته.  لم يفعل شيئًا من ذاته بل أخذ عمله من يد الآب لحظة بلحظة.  كان دائم الانتظار ”لسَاعته“.  لم يكن لديه خططًا شخصية، بل اتبع القصد الإلهي فى كل تصرفاته.  وطوال كل السنوات الأولى التي قضاها فى الناصرة، وبالرغم من كونه كلي القدرة، لم يصنع آية واحدة.  وحتى هنا، بالرغم من طلب وإيعاز أُمُّهِ التي أحبها كثيرًا، لكنه لم يكن ليفعل أي شيء، ولو حتى قبل أن تأتي ساعته بدقيقة واحدة.

إن الدرس العملي لنا هنا هو التكريس لمشيئة الله.  ينبغي علينا أن ننتظر الله دائمًا.  لكن كثيرين منا يركضون قبل أن يُرسلوا.  وفى غيرتنا على أمور الله وملكوته، قد لا ننتظر التوجيه الإلهي.  إننا قد نتكلَّم بكلمات غير مناسبة، والتي - بالرغم مِن صدقها وإخلاصها - تضر أكثر مما تفيد، لأنها لم تكن في وقتها.  إننا كثيرًا ما نُحاول أن نُطعم الآخرين بثمار غير ناضجة، فنُخاطب الناس قبل أن يكونوا مستعدين أن يسمعوا.  وفى أحوال كثيرة بكلمات تدفعهم بعيدًا عن منالنا.  إننا نسرع للخروج للكرازة فى الوقت الذي ينبغي فيه أن نكون جالسين بهدوء عند أقدام السيد كمتعلمين.  وبالرغم من أن الخطأ الأكثر شيوعًا بين المؤمنين هو البطء فى تتميم أعمال المسيح والاهتمام بدعواته، لكن من الخطأ أيضًا أن نتسرع فى عمل الرب، ونذهب قبل أن يُرسلنا.  مع كل المحبة الخالصة للمسيح، علينا أن نتعلَّم أن نصبر له، أن نصبر حتى تأتي ساعتنا.  لا بد أن يُهيئنا هو للعمل قبل أن نكون مستعدين أن نُتمّمه، ثم عليه أن يجهز العمل لأيادينا.  في الخدمة المسيحية، نحن بحاجة إلى الصبر وكبح الذات، بالإضافة إلى الغيرة والإخلاص.

الطاعة: «مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ» (يو2: 5):

هذه الكلمة هي لجميع خدام الرب.  هي شعار للتكريس الحقيقي فى كل زمان، وفى كل مكان.  إن كل كلمة فى هذه العبارة مُعبّرة وعميقة المعنى.  «مَهْمَا قَالَ»؛ ليس من حق أي أحد آخر أن يأمرنا.  إننا ملك للمسيح لأنه افتدانا واشترانا.  هو الوحيد ربنا وسيدنا.  «مَهْمَا قَالَ»؛ ليس لنا أن نختار من وصاياه ما نطيعه، وما نهمله أو نرفضه.  ليس لنا أن نُتمِّم الأمور التي تروق لنا، من التي يحثنا على فعلها، ونترك الأمور التي ليست حسب استحساننا؛ بل علينا أن نُتمّم حتى ما يُكلفنا الألم والتضحية الشخصية.  هكذا تمَّم الرب يسوع نفسه مشيئة أبيه.  هذه المشيئة أخذته إلى الصليب؛ لكنه لم يتراجع عن قبولها، عندما رأى الطريق تُظلم أمامه، أو عندما شعر بالأشواك تحت أقدامه، والهموم تزداد لتصير أحمال طاحنة على كاهله.  لو اخترنا أن نقتفى إثر خطواته، علينا أن تكون طاعتنا كاملة له.

«مَهْمَا قَالَ» ... لكن كيف نعرف أنه يقول؟  نحن الآن لا يُمكننا أن نسمع صوته، كما سمعه الخدام فى العرس.  إنه يتكلَّم الآن من خلال كلمته، والقلب المُكرَّس، يُمكنه دائمًا سماع ما يقول، حيث يتأمل فى الصفحات المُقدسة مُصليًا.  إنه يتكلم إلى الضمير الصالح الذي يحتفظ بنضارته عن طريق الطاعة المُخلِصة.  إنه يتكلَّم من خلال أعمال العناية الإلهية التي تأتى بالمُهمات والواجبات إلى متناول أيدينا.  ليس هناك أي عدم يقين حقيقي من جهة أقواله، لو كنا حقًا عازمين على معرفة مشيئته. 

«مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ»!  إن الفعل هو المهم.  ليس لنا أن نطرح أسئلة أو نقدم مقترحات، طالما أن الرب يسوع قد تكلَّم.  الشيء الوحيد الباقي لنا هو الطاعة.  علينا ألا نتساءل مطلقًا عن النتائج، أو عما نتكلف؛ بل ببساطة أن نطيع.  إن المسيح يعلم لماذا يريدنا أن نفعل هذا، ويجب أن يكون هذا سبب كافٍ لنا.

عاملون مع المسيح: «امْلأُوا الأَجْرَانَ مَاءً.  فَمَلأُوهَا إِلَى فَوْقُ. ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: اسْتَقُوا الآنَ» (يو2: 7، 8):

كان دور الخدام فى هذه الآية مهمًا: كان عليهم حمل الماء وملء الأجران، ثم أن يستقوا الخمر ويقدموه للضيوف.  من ثم صاروا عاملون مع المسيح لتتميم هذه الآية.  هكذا يدعو ربنا شعبه دائمًا، ليكونوا مساعديه فى بركة العالم.  إننا – في ذواتنا - لا يُمكننا فعل شيء.  إن أفضل ما يُمكننا الإتيان به هو قليل من ماء الأرض العادي، لكن إن أحضرناه إليه لاستطاع أن يُغيره إلى خمر السماء الثمين، الذي يُبارك المُتعبين المُعيين.  لو أننا أخذنا ببساطة ما عندنا، واستخدمناه حسب أمره، سنفعل حسنًا.  لم يكن فى يد موسى سوى عصا، لكنه صنع بها عجائب عظيمة.  لم يكن للتلاميذ سوى خمسة أرغفة شعير، لكن هذه، بعد لمسة يد المسيح، صُنعت وليمة للآلاف.  هكذا صار الماء العادي الذي حمله الخدام، تحت توصيات السَيِّد، خمرًا للعرس.

إن المسيح يُمرّر عطايا محبته ونعمته من خلال أيدٍ بشرية إلى الآخرين.  كما أن الفداء إلهي، صنعه المسيح وحده، أما الكهنوت التوسطي فهو بشرى، والبركات توزع بأيدٍ بشرية.  فعطايا الرحمة يمكن أن تصل إلى الهالك، فقط من خلال أولئك الذين خلصوا.

لكن كم هو عجيب هذا الوجه الآخر للحقيقة: لم يحمل الخدام سوى ماء عادى من النبع، لكن إذ بارك المسيح الماء صار خمرًا جيدة.  هكذا الحال دائمًا طالما فعلنا ما حثنا المسيح على فعله.  فأعمالنا العادية جدًا تترك نتائج سماوية.  ليس تعبًا باطلاً، ما عُمل في الرب.  إن أبسط أعمالنا وسط بطلان الحياة؛ فى العمل، فى البيت، الذي ليس أكثر من حمل الماء لتفريغه ثانية، يتحول إلى خدمة مبهرة كخدمة الملائكة، لتخلف وراءها نتائج مباركة.  إن أبسط الأمور التي نفعلها، حسب قول المسيح، ربما تصير بركات باقية وخالدة لنفوس الآخرين ولنا!

تغيير صامت: «رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ ... لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هِيَ» (يو2: 9):

لقد صنع المسيح هذه الآية دون جلبة أو تفاخر، بل إنه لم يقل شيئًا ليُنبه الحضور لما سيفعل.  لم يعرف الناس من حوله العمل العجيب الذي صنعه.  وهكذا يعمل اليوم أيضًا.  هو ليس فى العاصفة ولا الزلزلة ولا الزوبعة، لكنه فى ”الصوت المنخفض الخفيف“.  إن ملكوته يدخل إلى قلوب البشر، ليس بالضجيج والمظاهر بل فى صمت بلا استعراض.  إن الحياة الرديئة تتغير بكلمته إلى نقاوة أدبية، دون أن يرى أحد التغيير الحادث، ولا اليد التي صنعته.  بهدوء يأتي الغوث فى ساعات العوز، بهدوء تنساب استجابات الصلاة، وبهدوء تأتي الملائكة وترحل.

ولكن من اللافت للانتباه أيضًا أن «الْخُدَّامَ الَّذِينَ كَانُوا قَدِ اسْتَقَوُا الْمَاءَ عَلِمُوا» (ع9).  فالذين يعملون مع المسيح يُسمح لهم بالدخول إلى الحجرة الداخلية، التي فيها يكشف عن قدرته الكلية.  إن الدرس فى غاية البساطة والجمال.  فالمسيح يثق فيمن يخدمونه؛ ولا يعود يدعوهم عبيدًا بل أصدقاء.  إن أولئك الذين يفعلون مشيئة المسيح يعرفون تعاليمه، وينظرون طرق أعماله.  

وإن كنا نرى قوة ومجد المسيح فلا بد أن نخدمه بكل قلوبنا.  مرات كثيرة تكون الخدمة بأبسط السبل، وفى طرق التواضع وإنكار الذات، حتى يظهر مجده.  لم يكن رئيس المتكأ يعلم من أين كانت الخمر؛ ألا يحدث معنا هذا؟  الناس لا يعلمون من أين تأتي البركات التي تنساب إلى قلوبهم بكل هدوء.  كثير من المؤمنين يركعون للصلاة فى اضطراب شديد، مضغوطين من احتياج ما، لكنهم يقومون بفرح جديد شديد، دون أن يعلموا من أين أتت البركة الغامرة الغريبة.  إننا نشرب الكؤوس التي يملأها لنا الله بالحلاوة السماوية، وننال الهبات التي تنحدر إلينا من ذات العرش، إلا أننا فى كثير من الأحيان لا نعلم من أين أتت هذه كلها، ولا نُميز الحضور الإلهي الذي يعمل قريبًا منا جدًا.

المزيد من البركة: «كُلُّ إِنْسَانٍ إِنَّمَا يَضَعُ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ أَوَّلاً، وَمَتَى سَكِرُوا فَحِينَئِذٍ الدُّونَ.  أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ إِلَى الآنَ!» (يو2: 10):

إن العالم يعطي أفضل ما عنده أولاً ثم يأتي بالأسوأ أخيرًا.  هكذا الحال في كل الملذات الآثمة؛ أولاً اللذة، ثم بعد ذلك الندم المرير.  هكذا الحال أيضًا في اللهث وراء الثروة والنفوذ والشهرة؛ البهجة أولاً، ثم الإحباط المؤلم.  في البداية يجلب المال الرضا؛ لكن بمرور الوقت وازدياد الغنى، تتضاعف الهموم، ويثقل الاضطراب، وتتثاقل الأحمال، وفي النهاية يجد الرجل الغني أنه بالرغم من كل غناه، لكنه أقل راحة من أيام فقره.  هكذا الحال مع كل الطموحات الأرضية.  إن أولى كؤوس الشهرة لذيذة، لكنها سرعان ما تفقد سحرها ومذاقها.  هذه الحقيقة واقعية ولا سيما فى الحياة الآثمة.  نحن لسنا بحاجة لأن ننكر أن الخطية لذيذة فى البداية، لكننا نجد المرار في قاع الكأس.  إلا أننا نجد العكس في النعمة؛ الخمر الجيدة تبقى إلى النهاية.  المسيح نفسه اجتاز الإهانة والظلمة وعار الصليب، ثم نال الرفعة والقوة والمجد.

ينطبق ذات القانون على الحياة المسيحية.  أولاً يأتي المرار، لكن أخيرًا تخرج الحلاوة من المرار.  هناك حزن شديد للتوبة، لكن هذا يفسح المجال للفرح المبارك للغفران.  هناك أولاً إنكار الذات وحمل الصليب، لكن من هذه الخبرات يأتي السلام المقدس الذي يملأ كل القلب.  علينا تحمل الأحزان، أما خمر التعزية الجيد فينسكب في الكأس الذي فرغ.  هناك أيضًا تقدم مضطرد في بركات الحياة الروحية، ولا يُمكننا الوصول إلى نهايتها؛ بالطبع لا يمكن الوصول إلى أفضل ما فيها.  هناك دائمًا شيء أفضل باقٍ.  فالمسيح يُبقي على الخمر الجيدة حقًا للنهاية، في السماء.  وبالرغم من حلاوة السلام الأرضي للمؤمن، فهو لن يعرف ملء محبة الله إلى أن يصل إلى بيت الآب.  

الآية الأولى: «هذِهِ بِدَايَةُ الآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ فِي قَانَا الْجَلِيلِ، وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ» (يو2: 11):

كان المجد هناك من قبل؛ كان مستترًا في حياته البشرية المتضعة كل تلك السنوات الصامتة من التعب والخدمة في الناصرة؛ لكنه أُظهر الآن للمرة الأولى.  كان هذا أول لمعان للبهاء الإلهي أمام الإنسان.  علينا أن نلاحظ أيضًا أن هذا المجد ظهر أولاً في عمل بسيط للرحمة العاملة لسكان بيت مرتبك.  لم ينتظر المسيح مناسبة عظيمة، لكنه ألقى بأول شعاع لظهوره الإلهي على ذلك المشهد البيتي. 

علينا أيضًا ملاحظة أنه في وسط الفرحة والاحتفال لمع هذا الشعاع الأول.  هكذا نجد أن مجد المسيح كان هو لمعان المحبة.  وإذ تتوالى الأحداث نرى ذات المجد يتوهج بأكثر لمعان، إلى أن يصل فى النهاية إلى صليبه، مظهرًا في عمل واحد عظيم بهاء محبة الله العجيبة للعالم.  لا عجب إن كان تلاميذه قد آمنوا به عندما رأوا هذه الآية في قانا.  لقد لمعت ومضة إلهية من هيئته المتواضعة لتصنع معجزة عجيبة.

علينا أن نلاحظ أيضًا، قبل أن نترك هذه الآية الأولى، أن تحويل الماء إلى خمر هو رمز مناسب لعمل المسيح الكامل في هذا العالم.  وما علينا سوى أن ننظر حولنا وخلفنا إلى قرون المسيحية لنرى نفس المجد يلمع في كل مكان، وذات التحول يحدث إلى الأبد.  فحيثما يُذاع الإنجيل يحدث التغيير العجيب؛ القفار تُزهر وتتحول إلى جنة.  فأسوأ حياة تُلمس وتتغير إلى جمال روحي.  هل يمكن لمن ينظر إلى المعجزة الأبدية للمسيحية في العالم أن يرفض الإيمان بالمسيح؟!   ليس من عقيدة فارغة يمكن أن تحصل على هذه النتائج.  هناك حياة فى المسيحية تُقيم وتغير كل ما تلمس.

                                                           

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com