إن الأُخوّة المسيحية الحقيقية ليست شيئًا هيّنًا، بل هي أمر مُكلف؛ إنها تعني الحب، والحب العميق؛ الحب الذي يُسَرّ بالبذل والتضحية، ويبتهج بالإيثار والعطاء. ولا يمكن أن يكون أحدنا جديرًا بلقب ”الأخ“ إذا لم يكن قد أعطى الجهد والتعب والمال والوقت والقوة لأجل الآخرين. وما أكثر الذين يدعون أنفسهم ”إخوة“ دون حقٍّ.
إن الأُخوّة الرخيصة هي أٌخوّة زائفة لأننا «بهذا قد عرفنا المحبة: أن ذاك وضع نفسه لأجلنا، فنحن ينبغي لنا أن نضع نفوسنا لأجل الإخوة. وأما مَنْ كانت له معيشة العالم، ونظر أخاه محتاجًا، وأغلق أحشاءه عنه، فكيف تثبت محبة الله فيه؟ يا أولادي، لا نحب بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق! وبهذا نعرف أننا من الحق ونسكِّن قلوبنا قدامه» (1يو3: 16-19). ويقول لنا يوحنا الحبيب أيضًا: «إن قال أحدٌ: إني أُحب الله وأبغض أخاه، فهو كاذب؛ لأن مَن لا يحب أخاه الذي أبصره، كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يُبصره؟ ولنا هذه الوصية منه: أن مَن يحب الله يحب أخاه أيضًا» (1يو4: 20، 21).
والمحبة الإلهية الحقيقية أكثر من مجرد شعور أو عاطفة. إنها مبدأ يحرِّك اليد ويفتح الجيب والبيت لأجل الإخوة. فإن لم أكن أنا بمواردي المحدودة، عونًا للأخ المعوز، وسترًا لأخطائه، وحكمة لجهالته، ومبسوط اليد لحاجته، وباكي العينين لمحنته، ومسرور القلب لفرحه: إن لم أكن كل هذا لأخي، فلا معنى لإعلاني أني «أحب الله»، وأني واحد من الذين لا يستحي المسيح أن يدعوهم إخوة (عب2: 11).
وما أجمل أن تجتمع ”المحبة الإلهية“ مع ”الأُخوّة المسيحية“ لتكوّن ”المحبة الأخوية“ التي يتعلمها المؤمنون «من الله» (1تس4: 9)، إذ أنها تنبع من محبة الله التي في قلب المؤمن وفي طبيعته الإلهية. وهذه ”المحبة الإلهية“ تعطينا - عند التمتع بها بعضنا مع بعض - أن نختبر ونتمتع بمناخ وأجواء بيت الآب، ونحن ما زلنا على الأرض.
والمحبة الأخوية لا تعرف الروح الطائفية الخادعة التي تجعل المؤمن لا يتكلم إلا عن اجتماعه، وعن إخوته الذين في شركة معه، قاصدًا بذلك جماعة قليلة من أولاد الله، وتجعله لا يبالي بخدمة جميع الذين مات المسيح لأجلهم. إنها يجب أن تتجه «نحو جميع القديسين» (أف1: 15)، وليس فقط نحو أولئك الذين نميل إليهم، الذين أفكارهم وشعورهم وعاداتهم واهتماماتهم وممارساتهم - تقريبًا - تُماثل أفكارنا وشعورنا وعاداتنا واهتماماتنا وممارساتنا، أو على الأقل أولئك الذين ليسوا مصدر مُضايقة لنا. صحيح قد أجد لذة خاصة في أخ روحي أكثر مما أجد في أخٍ آخر، لكن يجب عليَّ - بدافع المحبة الأخوية - أن أنشغل بأخي «الضعيف» بمحبة صادقة تسمو فوق ضعفه، لكي أرد نفسه أو أقيله من عثرته. ولنستمع جيدًا لتحريض الرسول «اسندوا الضعفاء» (1تس5: 14).
وفي اللغة الأصلية التي كُتب بها العهد الجديد، تُستخدم كلمة «الضعيف» أو «الضعفاء» لتصف:
- الضعيف في حقائق الإيمان المسيحي وإدراك الحرية المسيحية، والمُعرَّض للعثار بسرعة (رو14: 1، 2، 21؛ 15: 1؛ 1كو8: 9- 13؛ 9: 22).
- الفقير في أمور الزمان (أع20: 35).
- المُتعب أو المريض جسديًا (في2: 26، 27؛ 2تي4: 20؛ 1كو11: 30).
- المُهان والمُضطَّهد والذليل النفس والذي بلا معونة من الآخرين (1كو1: 27؛ 2كو11: 21، 29؛ 12: 10؛ 13: 3، 4، 9).
أولاً: الضعيف في حقائق الإيمان المسيحي وإدراك الحرية المسيحية والمُعرَّض للعثار بسرعة.
والمقصود بالأخ الضعيف في هذه الفصول (رو14: 1، 2، 21؛ 15: 1؛ 1كو8: 9- 13؛ 9: 22) ليس هو المتعثِّر في خطواته، بل بالعكس هو صاحب الضمير الحساس، ولكنه غير مدرك تمامًا للحق المسيحي؛ ولهذا يسمح لمخاوف لا أساس لها أن تسيطر عليه في أمور ثانوية. إنه شخص يحترم كلام الله، ولكنه لم يصل بعد إلى الحرية التي له في المسيح، التي تعطي له سلطانًا أن لا يتقيد بشيء من أمور الأكل والشرب أو غيرها من الأمور التي هي غير جوهرية أدبيًا وتعليميًا، لأنه لم تَعُد هناك نجاسة طقسية جسدية. وهكذا فالأخ الضعيف في الواقع هو مدقِّق أكثر من اللازم؛ ليس متساهلاً، بل بالعكس هو خائف لئلا تكون هذه الأشياء ما زالت نجسة، فعندما يتعامل معها يتدنَّس.
وفي رومية14: 1- 15: 7 نجد ثلاثة مبادئ أساسية تحكم الالتزام المُتبادل بين المؤمنين (الأقوياء والضعفاء) لقبول بعضهم البعض في المسيح ولحفظ وحدتهم:
- يجب أن ندرك ما فعله الله فيقبل أحدنا الآخر بكل الحب والفطنة الروحية (رو14: 1-12).
- يجب أن ندرك ما لا يجب أن نفعله نحن ليبني أحدنا الآخر، ولنتجنب - بكل الحرص - إهانة أو إغاظة أو جرح الشعور أو الإساءة إلى الأخ الضعيف (رو14: 13-23).
- يجب أن ندرك ما يجب أن نفعله نحن تجاه بعضنا البعض لكي نُرضي ونُسر كل واحد منا قريبه للخير، لأجل البنيان (رو15: 1-7).
وهكذا نشترك معًا (أقوياء وضعفاء) في تتميم خطة الفداء العظيمة التي تهدف إلى تمجيد الله (رو15: 7-13).
المبدأ الأول: يجب أن ندرك ما فعله الله فيقبل أحدنا الآخر بكل الحب والفطنة الروحية (رو14: 1- 12).
فالمؤمن الضعيف ينبغي أن يُقبل في عواطفنا ورعايتنا، وفي الشركة المحلية أيضًا، لا ننفر منه ولا نحتقره أو نَدَعه يخجل، بل نُظهر له كل محبة وعطف، دون أن نجادل معه أو نناقشه كأننا نحاكمه. وهكذا يمكن للمؤمنين أن تكون لهم شركة بعضهم مع بعض دون أن يكونوا متفقين كُليًا بخصوص بعض الأمور غير الأساسية. ويعطينا الرسول بولس في هذا الجزء من رسالة رومية (رو14: 1- 12) أربعة أسباب لقبول أحدنا الآخر بكل الحب والفطنة الروحية:
- يجب أن نقبل الأخ الضعيف لأن الله قَبِلَهُ (رو14: 1- 3).
- إن الله يتعامل مع الأخ الضعيف بموجب نعمته وحكمته وسلطانه، وهو - تبارك اسمه - قادر أن يُنميه في النعمة وفي معرفة ربنا يسوع المسيح، وقادر أيضًا أن يثبته في حقائق الإيمان المسيحي (رو14: 4).
- إن الرب يسوع المسيح وحده هو صاحب السيادة على كل مؤمن (رو14: 5- 9).
- إن الرب يسوع المسيح وحده هو صاحب الحق في أن يدين (رو14: 10- 12).
المبدأ الثاني: يجب أن ندرك ما لا يجب أن نفعله نحن ليبني أحدنا الآخر
يجب أن ندرك ما لا يجب أن يفعله الأقوياء وهم يمارسون حريتهم المسيحية ليبني أحدنا الآخر مع تجنب الإهانة أو الإساءة أو الإغاظة أو جرح المشاعر للضعفاء، فيقدِّم لنا الرسول في رومية14: 13- 23 ستة تحذيرات هامة:
- المحبة الأخوية تلزمنا أن نتغاضى عن حقوقنا في ممارسة الحرية المسيحية إذا كان ذلك يُعثر أخًا في تقدُّمه الروحي (رو14: 13 - قارن 1كو8: 4- 13؛ أع24: 16).
- المحبة الأخوية حريصة على ألاّ تسبب حزنًا للأخ الضعيف (رو14: 14، 15)
- المحبة الأخوية حريصة على ألا تسبِّب الاضطراب وألا تدمِّر الحالة الروحية للأخ الضعيف أو تنهي فاعلية خدمته وشهادته، إذا استدرجناه، بحجة الحرية المسيحية، إلى عمل أشياء تجعل ضميره الحساس يشتكي عليها بمرارة، ويجعله تحت غمامة روحية؛ فيصير بلا نفع في حروب الرب (رو14: 15ب - قارن 1كو8: 11).
- علينا أن نحرص على ألا نخسر وندمِّر شهادتنا للمسيح أمام الآخرين (رو14: 16- 19). فإن مَن يزدري بأخيه الضعيف أو يعثره، يعطي فرصة للآخرين لكي يفتروا على شهادتنا ويدينوننا لأجل ”عدم تدقيقنا“ أو ”عدم محبتنا“، الأمر الذي يظهر وكأننا نضحّي بشهادتنا الحسنة لأجل إرضاء أنفسنا.
- إن الله يعمل في حياة كل واحد من أولاده، وعلينا ألا نُعيق عمل الله في الأخ الضعيف من أجل أمور ثانوية، كالطعام والشراب وحفظ أيام بعينها (رو14: 20)، والتخلي عن حقوقنا في ممارسة الحرية المسيحية هو ثمن بسيط يُدفع مقابل الاهتمام بالأخ الضعيف (رو14: 21 - قارن 1كو8: 12، 13).
- أن نتخلّى عن حقوقنا المشروعة في ممارسة الحرية المسيحية أفضل كثيرًا جدًا من أن ندين أنفسنا، فيما بعد، لأننا أعثرنا الآخرين. وطوبى لمَن يتجنب إعثار الآخرين فلا يعطي فرصة لضميره أن يلومه (رو14: 22، 23).
أيها الأحباء: لا شك أننا كثيرًا ما نفشل فشلاً مُحزنًا بإصرارنا بصلابة على وضع آراء جامدة (شفهية أو مكتوبة) وتوقّعنا فرضها على الآخرين. إننا بذلك لا نسلك بحسب المحبة، ولا نفسح مجالاً لآراء الآخرين الذين لا يرون كما نرى نحن. قد نكون نحن أكثر علمًا منهم وأعمق فهمًا وإدراكًا، ولكن لنذكر القول: «فيهلك بسبب علمك الأخ الضعيف الذي مات المسيح من أجله» (1كو8: 11؛ رو14: 15).
ويا للأسف، كم من شخص ضعيف الضمير محدود الفكر والعلم في الحق الإلهي، قد تحوَّل بعيدًا وشَرَد عن الطريق الصحيح؛ لأن ضميره تعثر، ورأيه لم يُحترَم، ولم نحتمله في صبر وطول أناة، وهذا كله ليس في ما يختص بأكل وشرب فقط، بل بأمور أخرى كثيرة ولا سيما من جهة العثرات في السلوك والحياة العملية.
كان الرسول بولس رائعًا وهو يقول: «لذلك إن كان طعامٌ يُعثر أخي فلن آكل لحمًا إلى الأبد، لئلا أُعثر أخي» (1كو8: 13). لقد كان يعلم أن تأثيره لم يكن محصورًا في كرازته، بل تعدّاه إلى حياته العملية، لأن أثمار الإنسان هي فيما يفعله لا فيما يقوله. ولذا أَخضع نفسه لقيود، لولا ذلك ما كان ليخضع لها، فامتنع عن أشياء، هي في حد ذاتها جائزة؛ لئلا يجرح باستعمال حريته الضمائر الضعيفة، ولئلا بمعرفته يهلك الأخ الضعيف «الذي مات المسيح لأجله». وكم يجب أن يكون حرص كل واحد منا لئلا يُعثر أحد الإخوة. وإن مجرد قراءة كلمات الرب الرهيبة عن هذا الموضوع، تُلقي في القلب رعبًا «مَنْ أعثر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي، فخيرٌ له أن يُعلَّق في عنقه حجر الرَّحَى ويُغرق في لجَّة البحر... ويل لذلك الإنسان الذي به تأتي العثرة!» (مت18: 6، 7).
المبدأ الثالث: يجب أن ندرك ما يجب أن يعمله الأقوياء تجاه الضعفاء.
وفي رومية15: 1- 7 يقدِّم لنا الرسول ستة تحريضات إيجابية عن ما يجب أن يُعمَل لكي يُرضي ويُسر كل واحد منا قريبه للخير، لأجل البنيان.
- إن الواجب الذي تُمليه المحبة الأخوية على الأقوياء هو أن يعتبروا ويحتملوا ويُرضوا إخوتهم الضعفاء بكل لطف ووداعة «نحتمل أضعاف الضعفاء» (رو15: 1أ)، لأن «المحبة... تحتمل كل شيء» (1كو13: 7 قارن في2: 3، 4؛ 1كو9: 19- 22). والكلمة «نحتمل» لا تعني فقط أن نصبر عليهم بوداعة وطول أناة، بل أيضًا أن «نحملهم» (قارن مر14: 13؛ أع21: 35؛ أع15: 10). فعلينا ألا ننتقدهم، بل أن نحترم وجهة نظرهم وممارساتهم المُخلصة وإن كنا لا نوافق عليها، ونحملهم في قلوبنا وفي عواطفنا، وفي صلواتنا وتضرعاتنا للرب.
- على الأقوياء ألا يُرضوا أنفسهم، بل وأن ينكروا ذواتهم (رو15: 1ب) «لا تنظروا كل واحد إلى ما هو لنفسه، بل كل واحدٍ إلى ما هو لآخرين أيضًا» (في2: 4). «فليُرضِ كل واحدٍ منا قريبه للخير (أي لخيره)، لأجل البنيان (بنيانه)» (رو15: 2). فالمحبة الأخوية المسيحية تقول: لا تَعِش لترضي الذات، ولكن عِش لترضي قريبك ولتصنع له الخير ولتبنيه.
- علينا أن نتمثل بالرب يسوع المسيح (رو15: 3)؛ و«ليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع» (في2: 5). إن الفكر الذي يقول ”لي الحق أن أفعل هذا، وسأفعله، مهما كان رأي الآخرين“، ليس هو فكر المسيح. فالمسيح لم يفعل هذا «لأن المسيح... لم يُرضِ نفسه» (رو15: 3 - اقرأ من فضلك في2: 6- 8؛ مت26: 39؛ يو4: 34، 5: 30، 6: 38، 8: 29، 14: 31).
- علينا أن نخضع للمكتوب ونتأمّله، فنتعلَّم المسيح، فنسلك كما سلك، كما عرّفنا به الكتاب المقدس؛ عندئذٍ يصير الصبر والتعزية اللازمان لاتباعه مِلكًا لنا (رو15: 4).
- علينا أن نتكل اتكالاً كاملاً على القوة الإلهية، فلكي نُظهر نعمة المسيح في معاملاتنا الواحد مع الآخر، ولكي نهتم اهتمامًا واحدًا بحسب المسيح يسوع، نحن نحتاج، ليس فقط لكلمة الله لكي توجِّهنا (رو15: 4)، بل لقوة الله نفسه «إله الصبر والتعزية» (رو15: 5). فالله الذي يعطي الثبات والتعزية، يعطي القدرة للأقوياء والضعفاء أن يعيشوا في تناغم ومحبة بحسب فكر المسيح ومثاله «أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني» (في4: 13).
- إن الهدف الذي يجب أن يكون نصب عيوننا، والذي يمكن أن يتحقق نتيجة كل ما سبق، هو أن يتمجد «الله أبا ربنا يسوع المسيح، بنفسٍ واحدة وفمٍ واحد» (رو15: 6). فإذ نوَجَّه بكلمة الله، ونتقوّى بقوة الله نفسه، نستطيع أن نمجِّده معًا. وبدلاً من أن يمتلئ فكر الضعيف وفمه بالنقد للقوي، ويمتلئ فكر القوي باحتقار الضعيف (رو14: 2)، يمتلئ فكر وذهن الجميع بتمجيد الله، الذي هو أبو ربنا يسوع المسيح. ويا لروعة النتيجة! ويا لسمو الهدف! «لذلك اقبلوا بعضكم بعضًا كما أن المسيح أيضًا قبلنا، لمجد الله» (رو15: 7).
ثانيًا: الأخ الفقير في أمور الزمان
إن العلاقة بين المؤمنين (الأقوياء والضعفاء - الأغنياء والفقراء)، علاقة حيّة حقيقية، ليست أقل من العلاقة الموجودة بين أعضاء الجسد الإنساني الواحد (رو12: 4، 5؛ 1كو12: 12- 27). ويجب أن تكون هناك مشاركة وجدانية عملية حقيقية بين أعضاء الجسد الواحد في كل الظروف؛ فهذا هو التعبير العملي عن الشركة مع بقية أعضاء جسد المسيح «شركة الخدمة التي للقديسين» (2كو8: 4).
ولنتذكر كلمات الرسول بولس: «في كل شيء أريتكم أنه هكذا ينبغي أنكم تتعبون وتعضدون الضعفاء، متذكّرين كلمات الرب يسوع أنه قال: مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ» (أع20: 35) وأيضًا «لا تنسوا فعل الخير والتوزيع، لأنه بذبائح مثل هذه يُسَرّ الله» (عب13: 16).
ويُخبرنا الرسول أيضًا أن موقفنا إزاء العطاء للفقراء هو امتحان لمحبّتنا نحو الله ونحو الإخوة، إذ يقول، وهو يحثّ إخوة كورنثوس على العطاء بسخاء «لست أقول على سبيل الأمر، بل باجتهادِ آخرين، مُختبرًا إخلاص محبتكم أيضًا»، وأيضًا «فبيِّنوا لهم، وقدام الكنائس، بيِّنة محبتكم، وافتخارنا من جهتكم» (2كو8: 8، 24). وأيضًا «لأن افتعال هذه الخدمة ليس يسد إعواز القديسين فقط، بل يزيد بشكر كثير لله، إذ هم باختبار هذه الخدمة يمجِّدون الله على طاعة اعترافكم لإنجيل المسيح، وسخاء التوزيع لهم وللجميع» (2كو9: 12، 13).
ويقول لنا يوحنا الحبيب أيضًا «بهذا قد عرفنا المحبة: أن ذاك وضع نفسه لأجلنا، فنحن ينبغي أن نضع نفوسنا لأجل الإخوة. وأما مَنْ كان له معيشة العالم، ونظر أخاه محتاجًا، وأغلق أحشاءه عنه، فكيف تثبت محبة الله فيه؟ يا أولادي، لا نحب بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق! وبهذا نعرف أننا من الحق ونسكِّن قلوبنا قدامه» (1يو3: 16- 19 قارن من فضلك يع2: 14- 17).
أيها الأحباء: إن المحبة الأخوية تلزم كلٌ منا أن يهتم بالآخرين ويتذكر أعوازهم، يتذكر الغريب الذي لا مأوى له، واليتيم المحروم من والد أو عائل يحميه، والأرملة التي فقدت زوجها، وهذا ما لا بد منه دائمًا لنساعد على تخفيف كل ضيق وملء كل احتياج.
ثالثًا: المُتعب أو المريض جسديًا
إن كلمات الرب يسوع في دينونة الأحياء كافية لتعلِّمنا التزام المحبة الأخوية نحو الأخ المُتعَب أو المريض جسديًا: «تعالوا يا مباركي أبي، رِثوا الملكوت المُعدّ لكم منذ تأسيس العالم. لأني... كنت... مريضًا فزرتموني... بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتم» (مت25: 34- 40)، فماذا نحن فاعلون تجاه الذين لا يستحي المسيح أن يدعوهم إخوة (عب2: 11). ولنتذكر دائمًا أن كلمات المُجاملة لا تجدي نفعًا، فالمحبة الأخوية الحقيقية تظهر في تضحية حقيقية من الوقت والجهد ومن المال أيضًا، وإلا فإننا في واقع الأمر أنانيون وغير مُحبين، حتى ولو كانت كلماتنا تفيض رقة وحنانًا.
عزيزي.. «اذهب انظر سلامة إخوتك!» (تك37: 14؛ 1صم17: 18).
رابعًا: المُهان والمُضطَّهَدْ والذليل النفس والذي بلا معونة من الآخرين
وهكذا كان الرسول بولس، فمع أنه كان خادمًا عظيمًا للمسيح إلا أنه كان إنسانًا تحت الآلام مثلنا، مُعرَّضًا للضغوط والمتاعب والضيق الشديد (2كو1: 8، 4: 8، 9، 6: 4، 5، 7: 5، 6، 11: 23-33، 12: 7-10) كان الكنز في آنية خزفية، كان متضايقًا، متحيّرًا، مُضطَهدًا، مُطارَدًا، حاملاً في جسده كل حين إماتة الرب يسوع. كان الإنسان الخارجي يفنى، وكان يئن مُثقلاً، وكثيرًا ما تاق أن يتغرب عن الجسد ليستوطن عند الرب (2كو4: 7-10، 5: 2-9).
وكانت هناك أسباب أخرى أعمق لآلام الرسول بولس ومتاعبه، لعلها كانت استمرار القذف في حقه وتحريف تعاليمه، وفتور محبة الكثيرين من نحوه، وأن بعض الكنائس التي أنفق في سبيلها الكثير من الصلوات والدموع، برهنت على فشلها.
ولكن مهما كانت أسباب آلام ومتاعب الرسول بولس، فإن الله أبو ربنا يسوع المسيح، أبو الرأفة وإله كل تعزية، اقترب إليه وعزّاه. ولم يشأ الرب أن يجتاز الرسول كل هذه الاختبارات وحيدًا منفردًا. فإن كان الرسول بولس قد أصبح مُبغَضًا أكثر من الجميع، فقد كان في أشد الحاجة للتعزية والمحبة أكثر من الجميع. وكانت من ضمن ينابيع التعزيات الإلهية التي فاضت في نفسه أن نعمة الله جمعت حوله قلوب الكثيرين من الأصدقاء والرفقاء، المُحبين الأمناء، الذين كانوا سبب تسلية (تعزية) وتشجيع له (كو4: 11)، ومنهم مَن حرموا أنفسهم ليُعطوه (2كو8: 1-5)، بل أن هناك مَنْ وضع عنقه لأجله (رو16: 3، 4).
كان معه سوباترس البيري، وأرسترخس، وسكوندس، وغايوس الدربي، وتيموثاوس، وتيخيكس، وتروفيموس (أع20: 4) .. وأنسيمس، ومرقس، ويسوع المدعو يسطس، وأبفراس، ونمفاس، وديماس، ولوقا الطبيب الحبيب (كو4: 7- 16) .. وأبفرودتس (في2: 25- 30) .. كانوا يخدمونه في ظروف سجنه ومرضه وشيخوخته. فيا للرقة! ويا للعواطف!
وكل واحد من هؤلاء الرفقاء كان لازمًا، ليستخدمه الرب، لتشجيع الرسول على الاستمرار في خدمته. ويا لها من شركة مقدسة، تلك التي جمعت بين هذه النفوس! ويا لها من تعزيات مُتبادلة وإنعاش سماوي سبَّبه كل واحد لأخيه! وأيّة محبة أعظم من تلك التي تتحد النفوس في المسيح؟!
أيها الأحباء: هناك الكثير من القديسين حولنا لهم أحزان وأوجاع كثيرة، ونفعل حسنًا أن نستخدم ماء الكلمة، بمحبة ولطف، للتطهير والتسكين، والإنعاش والتعزية، ولشفاء الجروح. ربما نكون أكثر اعتيادًا على استخدام الكلمة لتخترق كالسيف، أو كنور نسلّطه مباشرة، ولكننا نحتاج أن نستخدمها كذلك كالماء للتشجيع والإنعاش والتعزية (يو13: 12- 14؛ كو4: 11).
يا رب.. اربطنا بالشركة القلبية والعاطفة الرقيقة نحو بعضنا البعض! أزِل يا رب كل تنابذ وخلاف، وبروحك أتحد قلوبنا بالمحبة. وهَبنا يا رب أن نتمثَّل بشخصك أكثر فأكثر، فيزداد فرحنا فيك ونستطيع أن نحب بعضنا بعضًا محبة شديدة بلا رياء.