كانت تبدو على مُحيّاه علامات الحزن والأسى، عندما أتاني طالبًا أن يجلس معي، شاب مشترك على مائدة الرب منذ فترة ليست بقصيرة. فاستقبلته متسائلاً: ما لك حبيبي؟
تنهَّد بعمق وجلس على حافة المقعد، نظر إليَّ نظرة خاطفة وقال: هل تظن أننا كجماعة نحب بعضنا بعضًا فعلاً وحقًا؟
ولأنني قد تعودت على أن كل من يأتيني حزينًا ومثيرًا مسألة المحبة، غالبًا ما تكون له مشكلة مع أحد الإخوة، فاستعجلت وأجبته قائلاً: أعتقد هذا؟ لكن ما الذي حدث حتى جعلك تسأل هذا السؤال؟
قال بأسى: ولماذا لا تسألني عن الذي لم يحدث فجعلني أسأل هذا السؤال؟
فاجأني ردَّه وأعجبني، فلم أنجح في منع ابتسامة غلبتني على الرغم من حرج الموقف، فقلت: إذًا ما هو الذي لم يحدث فجعلك تسأل هذا السؤال؟
قال: أرجو أولاً أن تكون على يقين من أنني لست في خصومة مع أي واحد من إخوتي، فأنا - والشكر للرب - في سلام مع الجميع. كما أرجو أن لا تظن أنني محتاج لشيء ولم أجد عوناً من الإخوة.
قلت: رائع! إذًا أين المشكلة؟
قال: الحقيقة ياأخي أنني منذ سنوات وأنا أعاني من شعور سلبي يدهمني، حاولت كثيرًا الهروب منه، لكنني فشلت. هو عبارة عن خليط من الشعور بالحرمان مع الإحساس بالضياع. هو شعور أقرب إلى مشاعر اليتيم الذي فَقَدَ، لا أبًا أو أمًا، بل فَقَدَ جميع أفراد أسرته، وفي نفس الوقت عليه أن يتصرف وكأن كل شيء على ما يرام!!!
قلت: وضِّح لي أكثر من فضلك؟
قال: سنين طويلة مضت وأنا وسط إخوتي هنا في هذه الكنيسة. نادرًا ما شعرت بما تكتبون أو تتكلمون عنه من جهة علاقتي ببقية الإخوة. نادرًا ما شعرت بأنني ابن يعيش في وسط عائلته، له في الإخوة آباء وأمهات وإخوة وأخوات؛ بل على العكس، كثيرًا ما شعرت بأنني أعيش في ملجإٍ لليتامى، وعليَّ أن أشكر ربّي لأنه أوجد لي مكانًا ”يلمني“ من الشارع! أو أحيانًا أتخيَّل أنني أعيش في وسط أسرة كبيرة، لكننا جميعًا كأسرة لا نرى ولا نسمع ولا نتكلم!
قاطعته متسائلا: ومالذي جعلك تشعر بهذه المشاعر السلبية؟
قال: أولاً، هي ليست مشاعري وحدي، بل هي مشاعر كثيرين غيري، لكننا جميعًا نتألم دون أن نشكو! فلأننا نشأنا على هذا، ولم نرَ غير هذا، ظنّنا أن هذا هو الطبيعي! لكن ما صرت أتعلّمه الآن من كلمة الله يجعلني كل يوم أتأكد، أن هذا الذي نعيشه لا يمكن أن يكون هو فكر الله لكنيسته. لذا اسمح لي أن أجيبك دون أن تتضايق من إجابتي:
أنا أشعر أنني أعيش كيتيم في ملجإ وليس كابن وسط عائلته، أو كمن يعيش وسط أسرة لا ترى لا تسمع لا تتكلم، لأنني لم أشعر أبدًا أن هناك من يهتم بي كفرد اهتمامًا خاصًا. لا أحد ينظر إلي نظرة الحب التي تجعله يفهم أنني حزين فيحزن معي، أو مسرور لكي يفرح معي. لا أحد يقترب مني ويتكلم معي ليعرف أحوالي، ولا أحد يختلي بي ليشعرني بقيمتي. ليس هناك مَن لديه وقت لي لكي يستمع لأنيني وضيقة نفسي. إن أيّة أسرة يأتيها مولود جديد، تجد جميع أفرادها يهتمون به بفرح، يهتمون باسمه وشكله ومأكله وملبسه وصحته وشخصيته. وهم يفعلون هذا ليس فقط من منطلق الحب له، بل أيضا من منطلق الشعور بمسؤوليتهم الكبيرة نحوه؛ فهو يحتاج بشدة إليهم ومن جانب أخر ليس له سواهم يعتني به. ومن المفترض في كنيسة الله أن الشعور بالمسؤولية من نحو مؤمن حديث قد أتاها لا يقل عن شعور أي أسرة بالمسؤولية تجاه مولود جديد قد أتاها. لكنني أنا منذ أن وُلدت من الله وارتبطت باجتماعنا لم أجد شخصًا واحدًا يحتضنني! لم أجد من يهتم بطعامي وصحتي الروحية، من يهتم بأن يغسل لي رجليَّ، فيسألني عن شركتي مع الله إن كانت مقطوعة أم متصلة. لم أجد من يهتم بأن يسألني عن شهادتي بين الناس؛ كيف أسلك وأشهد وسط زملاء أشرار، ومدى علاقتي بالجيران. لم أجد من يهتم بأن يسألني عن أفراحي مع الرب، أوعن أحزاني مع الخطية الساكنة في. لم أجد من يعلمني كيف أكرز بالمسيح للنفوس التي يضعها الله في طريقي، وكيف أقاوم جاذبية عالم مملوء بالخطية. لم أجد أحدًا يهتم بأن يساعدني على اكتشاف موهبتي، ويعلمني كيف أخدم سيدي. أنا أشعر أنني مجرد واحد من كثيرين في هذا الاجتماع؛ معظم الإخوة لا يعرفون اسمي، وبالكاد يحفظون شكلي! أنا عندهم مجرد ”شكل مألوف“ وليس ”أخ معروف“!! وأكثر ما يؤلمني أنه ولا مرة كشف لي أحدهم عن أنه يضعف ويعثر مثلي لينقذني من يأسي! فالكل يُشعرك بأنه دائمًا في أفضل حال! وأنه من العار أن تكشف عن ضعفك، أو حتى تبدو يومًا أنك لا تعيش في السماويات وتسجد في الأقداس ودائم ترديد الابن للآب و.....
من المفترض في كنيسة الله أن الشعور بالمسؤولية من نحو مؤمن حديث قد أتاها لا يقل عن شعور أي أسرة بالمسؤولية تجاه مولود جديد قد أتاها.
قاطعته قائلاً: أنا أعترف يا عزيزي بأننا نعاني بشدة من نقص الرعاية وغياب الرعاة، وكل ما قلته الآن هو نتيجة غياب هؤلاء الرعاة. ونحن نصلي أن يقيم الرب من بيننا رعاة.
ابتسم ابتسامة ساخرة وقال: اسمح لي أن أقول لك أن هذه العبارة تثير غيظي.
قُلت بامتعاض: لماذا؟!
قال: أولاً: أنا لم أتكلم عن نقص رعاية بل عن نقص محبة. أنا لم أنتظر كل ما ذكرته لك من رعاة أو أساقفة، بل توقعته من المؤمنين العاديين مثلي. أنا لا أتكلم عن تعامل فئة متقدّمة، هم الرعاة، مع فئة أصغر، هم الرعية؛ بل عن التعامل المسيحي البسيط للمؤمنين أحدهم مع الآخر. ثانياً: كثيرًا ما سمعت وتعلمت منكم أن الرعاة والأساقفة لا يأتون للكنيسة من خارجها بل يقيمهم الرب من وسطها؛ أليس هذا صحيح؟
أجبته: بالطبع صحيح، هل لديك رأي آخر؟
قال: كلا، إطلاقًا. لكن دعني أسألك عن هؤلاء الشيوخ الرعاة الذين سيقيمهم الروح القدس أساقفة في الكنيسة ليرعوا رعية الله، هل سيهبطون علينا من السماء فجأة؟! أم هل ستهبط عليهم من السماء، فجأة، موهبة الرعاية؛ فيتحولون - بين ليلة وضحاها - من أشخاص لا يعرفون حتى أسماءنا إلى رعاة يحملوننا على قلوبهم؟! بالطبع كلا! لذلك أليس من المتوقع، ومن المنطقي، أن نراهم يمارسون أي عمل رعوي، ولو بسيط، حتى يأتي الوقت الذي فيه تكبر وتتسع خدمتهم لإخوتهم، وبالتالي يُصادق الروح القدس عليهم ويفتح قلوب جميع إخوتهم لهم فيقبلونهم كأساقفة مُقامين من الروح القدس؟
قلت بسرور: كلامك صحيح.
قال: إذًا، لماذا لا نرى أيّ من هؤلاء الذين نتوسم فيهم الرعاية؟
قلت: الحقيقة لا أعرف. هل عندك أنت تفسير لهذا النقصان؟
قال: تفسيري ربما لا يعجبك؛ لكن اسمح لي أن أقوله بصراحة لك: لأننا لم نتعلم كيف يحب أحدنا الآخر! نحن بالطبع ينقصنا الرعاة، لكن ينقصنا بالأكثر الحب الحقيقي الذي يجعلنا نهتم بعضنا ببعض، والذي يعوضنا عن نقص الرعاية، حتى يقيم الرب بيننا رعاة. ثم ما هي الرعاية سوى أنها حالة حب واهتمام من كبير لصغير؟ فكيف سيظهر هؤلاء الرعاة ونحن لم نمارس، من البداية، حتى المحبة التي تجعلنا نحمل بعضنا أثقال بعض، ونغسل بعضنا أقدام بعض؟ صدقني، أنا لا أحلم برعاية الرعاة الأكبر مني عمرًا وخبرة، وإن كنت في شديد العوز لها، أنا فقط أحتاج لمحبة إخوتي. أحتاج لأمومة أم في الاجتماع، وأبوة أب، وشركة إخوة وأخوات. أنا أحتاج محبة قبل احتياجي للرعاية. لقد صرت يا عزيزي أدخل الاجتماع بخطوات متثاقلة لا أعرف هل أنا آتي من قبيل الفرض والطقس أم من قبيل الحب والشوق؟ حقيقة لا أعرف!
وهذا ليس حالي وحدي، فأنا ألحظ أنني وإخوتي ندخل الاجتماع وعيوننا متجهة للصف الأول لنستكشف من الذي سيعظنا اليوم لأن عليه سيتوقف حال اجتماعنا! لقد اختُزل الاجتماع عندنا لمجرد عظة!! ولم نَعُد نأتي بفرح لكي نمارس الشركة الحبّية التي بها نبني ونعزّي ونعلِّم ونُنذر أحدنا الآخر، كلا، نحن نأتي لأنه لازم وضروري أن ناتي، أومن قبيل ”عيب وما يصحش“، وفي أحسن الأحوال نأتي لنسمع عظة، ربما تمتلئ بيوتنا بمئات الكاسيتات والإسطوانات التي تحوي عظات أفضل منها. بل اسمح لي أن أكون أكثر صراحة فأقول: إننا نخشى أحدنا الآخر أكثر من كوننا نُحب أحدنا الآخر، نحن نهتم برأي الإخوة وكلام الإخوة وصورتنا أمام الإخوة، أكثر من اهتمامنا بخير الإخوة وسلامة الإخوة والنجاح الروحي لكل فرد من الإخوة! نحن ندخل الاجتماع بوجوه شمعية، نتحرك حركات نمطية، حتى نجلس في أماكننا المعتادة، لا يدري أحدنا بحال بمن يجلس عن يمينه أو من يجلس عن يساره. عيوننا تحدق في اللا شيء، وأذهاننا شاردة في كل شيء، شفاهنا تردد ما لا نفكر فيه، وعواطفنا منفصلة عن ما نؤديه، حتى ينتهي ما اعتدنا أن نفعله، فيتمّ القيام، ثم للخلف دُرّ، حتى نلتقي في اجتماع أخر لا يختلف عن سابقه.
قلت له وقد بدأت أفكر بعمق فيما يقوله: ألا ترى معي أن هذا نقد شديد، به شيء من التعميم، وقد يصل إلى حد جلد الذات؟
قال وقد انتابه شيء من الارتباك: صدّقني أنا أحب إخوتي، ولا أبغي من حديثي معك سوى خيرنا ككنيسة. أنا أُقِرّ بأن هذا الوضع ليس هو حالنا المستمر على وجه الإطلاق، وربما لا يكون حال كل الاجتماعات؛ فأحيانا نرى المحبة الأخوية الحقيقية من بعض الإخوة، وأحيانا أقل نراها تميِّز بعض الاجتماعات؛ لكن ما أريده هو أن ينصلح الحال وأن تكون المحبة الأخوية الحقيقية هي حال كل الإخوة كل الوقت. أما من جهة النقد والجلد، فأرجو أن لا يكون هذا التعبير ”جلد الذات“ هو سلاح دفاعي نُشهره في وجه كل من يسلط الضوء على خطإ فينا، وإلا لصار كل أنبياء الله في العهد القديم مجموعة من الجلادين!! ثم أنا لا أرى نفسي أجلد، بل أنقد. أنا كمن يضع أمام عينيك عدسة مكبِّرة مسلَّطة على الأخطاء لكي تراها. وقد تعلّمت منك هذا القول: ”أن البديل الوحيد لنقد الذات هو هدم الذات“. فنحن إذا لم نفحص طرقنا لنرى أخطائنا، سيستشري المرض فينا حتى نستفيق، لكن في الوقت الذي لا يصلح فيه العلاج.
إذا لم نفحص طرقنا لنرى أخطائنا، سيستشري المرض فينا حتى نستفيق، لكن في الوقت الذي لا يصلح فيه العلاج.
قلت: وماذا عن مشاعر المحبة التي تراها في مشاركة الإخوة بعضهم لبعض في مختلف ظروف الحياة في الأحزان وفي الأفراح؟ هل تراها أم لا؟
قال: بالطبع أراها، وهي أمور رائعة، لكنني أراها من قبيل الشهامة والأصالة وفعل الخير، أراها ناتجة من الذوق الطبيعي وطول العشرة. لكن هذه ليست هي المحبة الأخوية التي يتكلم عنها الكتاب!
قلت باندهاش: وماهي المحبة الأخوية التي يتكلم عنها الكتاب؟
نظر إليَّ بعتاب وقال: هذا عملك أنت.
ثم استأذن وانصرف!
هو تركني لكن إلحاح السؤال لم يتركني:-
ماهي المحبة الأخوية التي يتكلم عنها الكتاب؟
عدت بقلب مكسور إلى الكتاب لكي أقرأ من جديد ما يقوله عن المحبة الأخوية.
وأول ما لاحظته في نفسي وأنا أقرا كلمة الله بخصوص المحبة الأخوية هو أنني كنت أرتكب خطأين خطيرين للغاية، أرجو أن لا يقع فيهما أحد من إخوتي الأحباء، فقد لاحظت أنني لم أكن أتوقف طويلاً عند تلك الأجزاء التي تتكلم عن محبتنا بعضنا لبعض كما أتوقف عند بقية أجزاء الكلمة المقدسة!! لأنه على ما يبدو كنت أظن، ويا لجهلي، أنها سهلة وواضحة ولا تحتاج للتعمق فيها لكي أفهمها!! أما الخطية الثانية، وهي الأدهى، أنني كنت لا أتوقف لكي أمتحن نفسي من جهة طاعتها: هل أنا أطيعها أم لا؛ إذ كنت دائمًا أفترض في نفسي أنني أحب إخوتي!! فيا لحماقتي!!
لكن، بعدما شكَّكني هذا الأخ من جهة محبتنا الأخوية، وعُدت للكلمة باحثًا عن معناها الحقيقي، اكتشفت أنه بيني وبين المحبة الأخوية مسافة كبيرة للغاية.
وبالطبع لن يتسع هذا العدد، مهما زادت صفحاته، لكي يشرح ما هي المحبة الأخوية كما يصفها الكتاب. لكنك ستجد - عزيزي القارئ - باقة من المقالات التي كتبها خدام الرب الأفاضل، لعلها تنجح، لا في أن تشرح لنا ما نحتاج أن نعرفه عن المحبة الأخوية؛ بل فقط لعلّها تنجح في أن تستثير فينا الرغبة لكي نرجع للكتاب، وفي روح الاتضاع والانكسار والاعتراف بالخطية نطلب من الرب أن يغفر لنا، ويعود ويوضِّح لنا ما هي المحبة الأخوية كما يريدها هو منّا.
وأعتقد أننا إذا فعلنا هذا، وكانت توبتنا حقيقية، ورجعنا فعلاً وحقًا للفيلادلفيا الحقيقية؛ فعندئذ سنشهد نهضة حقيقية لم نشهدها منذ أن انبعثت الحركة الفيلادلفية.
وقبل أن أتركك مع هذه المقالات أود أن أشاركك بملاحظتين عن معنى الفيلادلفيا وأهميتها:
أولاً: لقد أشرنا في العدد السابق إلى أن كلمة فيلادلفيا Philadelphia تتكون من مقطعين الأول:Phil وهو مشتق من Philos ويعني كفعل: شخص مُغرَم بآخر، والمقطع الثاني هو: Adelphia وهو أحد مشتقات كلمة Adolphos والتي تعني أخ، وعليه تصبح الكلمة من المقطعين تعني حب خاص موجَّه للإخوة لدرجة الغرام بهم.
وقد وردت هذه الكلمة اليونانية في خمسة مواضع في العهد الجديد وتُرجِمَت ”المحبة الأخوية“ أو ”المودة الأخوية“، إن أضفنا إليها مرتين في سفر الرؤيا (ص1، 3) كاسم لمدينة بها واحدة من أروع الكنائس التي ذُكرت في العهد الجديد، يصبح المجموع سبعة. وإليك المواضع الخمسة:
-
رومية12: 10 «وَادِّينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِالْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ، مُقَدِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي الْكَرَامَةِ».
-
1تسالونيكي4: 9 «وَأَمَّا الْمَحَبَّةُ الأَخَوِيَّةُ فَلاَ حَاجَةَ لَكُمْ أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْكُمْ عَنْهَا، لأَنَّكُمْ أَنْفُسَكُمْ مُتَعَلِّمُونَ مِنَ اللهِ أَنْ يُحِبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا».
-
عبرانيين13: 1 «لِتَثْبُتِ الْمَحَبَّةُ الأَخَوِيَّةُ».
-
1بطرس1: 22 «طَهِّرُوا نُفُوسَكُمْ فِي طَاعَةِ الْحَقِّ بِالرُّوحِ لِلْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ الْعَدِيمَةِ الرِّيَاءِ، فَأَحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ بِشِدَّةٍ».
- 2بطرس1: 7 «وَفِي التَّقْوَى مَوَدَّةً أَخَوِيَّةً، وَفِي الْمَوَدَّةِ الأَخَوِيَّةِ مَحَبَّةً»
في هذه المرات الخمس نرى الكتاب يوضِّح لنا خمس حقائق عنها:
1- ماهيتها وطبيعتها
في رومية، يمكن ترجمة هذا العدد، طبقًا للأصل اليوناني، كالآتي: ”من جهة المحبة الأخوية؛ وادين بعضكم بعضًا. ومن جهة الكرامة؛ مقدمين بعضكم بعضا“. أي كأنه يريد أن يقول: من جهة المحبة الأخوية ليس عندي كلام أكثر ولا أقل من أن تودّوا بعضكم بعضًا. إذًا، طبيعة المحبة الأخوية هي المودة، والمودة ليست هي، كما يظن البعض، مجرد مجاملات؛ لكن الفعل ”وادين“ في اليوناني Philo-storgos مكوَّن من مقطعين ”فيلو“، وقد سبق شرحه، ثم ”ستورجوس“ وهو فعل يعني الحنو والاهتمام الذي يُظهره الآباء للأبناء أو العكس. وبالطبع عندما نرى مشاعر الآباء للأبناء أو العكس لا يصلح أن نقول إنها مجاملات، بل على العكس هي مسؤوليات، لكنها مسؤوليات تؤدَّى بفرح، بفعل الحنو والحب. لكن، بالطبع، هناك اختلاف جوهري بين مودة أو اهتمام الآباء بالأبناء أوالعكس، وبين مودة المحبة الأخوية بين شعب الله. فالاهتمام في الأولى إنما يرمي إلى السلامة والصحة والنجاح على المستوى الجسدي والنفسي، سواء من جانب الآباء للأبناء طوال عمرهم، أو من جانب الأبناء للآباء عندما يتقدَّم بهم العمر. لكن المودة أو الاهتمام في الحالة الثانية يرمي، في المقام الأول، إلى الخير الروحي، والسلامة الروحية، والنجاح والإثمار الروحيان. أي أن مودة المحبة الأخوية تعني ببساطة: الحنو والاهتمام اللذان يجعلانني أرى النجاح الروحي لإخوتي هدفًا مقدّسًا، ومسؤولية مُلزمة، وشرفًا أعتز به. وبالتالي، طبقًا لكلام الرسول هنا، يمكننا القول إنه إذا غابت المودة بهذا المعنى، فلا مجال للكلام عن وجود محبة أخوية، ويكون كلام هذا الشاب الذي أتاني صحيحًا تمامًا.
2- نوعها ونبعها
في تسالونيكي يشير الرسول لا إلى طبيعة هذه المحبة الأخوية، والتي هي المودة، لكنه يشير إلى نوعها ونبعها. إنها إلهية وليست بشرية. إن المحبة البشرية أعلنت إفلاسها يوم أكلت الأم ابنها. ومن العار أن تكون المحبة التي تجري في الكنيسة مجرَّد محبة بشرية. إنهم قد تعلّموها من الله، ولذلك فهي في نوعها محبة الأجابي التي اتخذت من العلاقة الأخوية مجالاً لها. ولذلك فعندما يقول «متعلمون من الله أن يحب بعضكم بعضًا» استخدم الفعل ”أجابي“ وليس ”فيلو“. إذًا، هي ليست محبة بشرية منطلقة من دوافع واحتياجات بشرية، ربما تجعل المحب يأخذ من وراء الحب أكثر مما يعطي، بل هي المحبة الإلهية عينها، الأجابي؛ تجري لا من الله للبشر فقط كما رأيناها في صليب المسيح؛ لكنها، ويا للروعة، صارت تجري أيضًا من بشر إلى بشر بفعل الصليب!!
”لتسكن وتستقر بينكم المحبة الأخوية“! فهي ليس لها مقرّ آخر على الأرض سواكم، وأنتم ليس لكم وجود على الأرض بدونها!
3- ضرورتها وحتميتها
وفي عبرانيين، حيث يكتب لمؤمنين متألمين متغربين في عالم يبغض القديسين، تصبح المحبة الأخوية ليست رفاهية أو واحدة من الكماليات في الكنيسة؛ بل هي ضرورة حتمية. وهنا يظهر جمال كلمة «لتثبت»، والتي يترجمها داربي هكذا ”Let brotherly love abide“، بمعني ”لتسكن وتستقر بينكم المحبة الأخوية“! فهي ليس لها مقرّ آخر على الأرض سواكم، وأنتم ليس لكم وجود على الأرض بدونها! هي المياه الباردة التي تخفِّف من لظى بُغضة العالم لكم، وهي الحضن الدافيء الذي يعوّضكم عن رفض العالم القارس لكم، فاحذروا إذًا من غيابها، وهيّئوا لها دائمًا مكانًا مريحًا بينكم، لكي تنعموا بدفئها وحمايتها.
4- موقعها وأولويتها
في بطرس الأولى، يرينا أنها أول ما ظهر كعلامة للولادة من الله! إذ تأتي هذه العبارة في ترجمة داربي هكذا: ”وقد طهّرتم نفوسكم بطاعة الحق للمحبة الأخوية العديمة الرياء“. فبمجرد ما طهَّروا نفوسهم بطاعة الحق، وُلدوا من الروح، ومجرد ما وُلدوا من الروح، أي وُلدوا من الله، ظهرت فيهم على الفور المحبة الأخوية عديمة الرياء! وبالتالي صارت هي علامتهم ورايتهم، وعليهم دائمًا أن يجعلوها راية مرفوعة خفَّاقة عاليًا. إنها إن سقطت، أو حتى بهتت ألوانها، فقدوا على الفور هويتهم التي تميّزهم عن البشر الخطاة حولهم! أليس هذا هو عين ما قاله السيد: «وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. بِهذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ» (يو13: 34، 35)؟!
5- كلفتها ومكافأتها
أما في رسالة بطرس الثانية، حيث كان الرسول يرى شبح الإرتداد يخيّم بظلِّه الثقيل، والذي قد يدفع بعض المؤمنين للإحباط أو الفشل، انطلق على الفور يشجِّع المؤمنين الحقيقين بأن قدرة الله قد وهبتهم كل ما هو للحياة والتقوى، وعليهم أن يستمدّوا من إمكانيات هذه القدرة لكي يبذلوا كل اجتهاد، ثم يحدِّد لهم سبعة مجالات للاجتهاد، هي كدرجات سلم صاعدة، ويفاجئنا أن أعلى درجة من درجات الاجتهاد ليست هي الاستشهاد، كما كنا نتوقع، لكنها المحبة الأخوية!! المحبة الأخوية سواء في طبيعتها كمودة أو في نوعها كأجابي وليست مجرد فيلو، فيقول وفي المودة الأخوية (فيلادلفيا) محبة (أجابي)!!. وهو إذ يطالب ببذل كل اجتهاد للوصول إليها إنما يرينا كلفة هذه المودة؛ إنها تحتاج لعزيمة وإرادة، لسهر وصلاة، وربما لدموع وأصوام. إنها لا يجب أن تُترك أبدًا للمزاج والاستحسان، ولذلك فهي تستلزم السحب الدائم على المكشوف من الموارد الإلهية، ولا تُترك أبدًا تحت رحمة الموارد البشرية التي لا تتدفق إلا في وجود مثيرات كالإعجاب والاستلطاف؛ ولذلك فهي سريعة النضوب والجفاف!! ثم يرينا في النهاية روعة مكافآت هذا الاجتهاد، والتي تبدأ بأننا لن نكون غير مثمرين، وتتصاعد حتى تصل إلى الدخول بسعة إلى ملكوت ربنا يسوع الأبدي.
المحبة تستلزم السحب الدائم على المكشوف من الموارد الإلهية، ولا تُترك أبدًا تحت رحمة الموارد البشرية التي لا تتدفق إلا في وجود مثيرات كالإعجاب والاستلطاف؛ ولذلك فهي سريعة النضوب والجفاف!!
ثانيًا: من الواضح أن تعبير الفيلادلفيا، أي المحبة الأخوية، ليس تعبيرًا مسيحيًا من الأصل، لكنه كان معروفًا في اللغة اليونانية قبل المسيحية. فقد كان اليونانيون يمجِّدون الحب الأخوي، فيسمّون أولادهم بهذا الاسم الجميل ”فيلادلفوس“ أي ”المحب لأخيه“. وجميعنا نعرف هذه المدينة التي تسمّى ”فيلادلفيا“. هذه المدينة لم تزل إلى الآن موجودة في تركيا واسمها ”ألاشهر“ وهو النطق التركي لكلمة ”الله شهر“ أي ”مدينة الله“. وقصة تسمية هذه المدينة باسم ”فيلادلفيا“ تؤكِّد أن تعبير المحبة الأخوية كان معروفًا قبل المسيحية، فكل دوائر المعارف تؤكِّد أن المدينة سُمّيت بهذا الاسم نسبة إلى ”أتاللوس فيلادلفوس“ ملك برغامس؛ وبينما بعض من هذه الدوائر يقول إنه هو الذي بناها، تقول واحدة من أشهرها وأكثرها دقةInternational Standard Bible Encyclopedia إن المدينة بُنيت وأُعطيت هذا الاسم إكرامًا له بسبب محبته الشديدة لأخيه ”إيومينيس“ ملك ليديا وولائه الشديد له. إذًا، هناك وراء هذا الاسم قصة حب أخوي، وإن كنا لا نعلم تفاصيلها.
وهنا أجد بعض الأسئلة تحاصرني وتضغط عليَّ، فاسمح لي عزيزي القارئ أن أفلت من حصارها بأن أطرحها عليك تاركا لك مهمة الإجابة عنها:-
- هل من بُعدٍ جديد يعطيه الروح القدس لهذا التعبير عندما يستعمله لوصف المحبة الأخوية المسيحية؟
- أو بمعنى أخر هل الفيلادلفيا المسيحية هي بعينها الفيلادلفيا اليونانية القديمة؟ أي هل علاقة الحب الأخوي بين بولس وبطرس مثلاً هي نفسها علاقة الحب الأخوي بين فيلادلفوس وإيومينيس أخيه؟
- هل ما نراه من علاقة أخوية بين البشر يميِّزها الشهامة والكرم والشعور بالمسؤولية والالتزام، كما يقول الحكيم: «الصَّدِيقُ يُحِبُّ فِي كُلِّ وَقْتٍ، أَمَّا الأَخُ فَلِلشِّدَّةِ يُولَدُ» (أم17: 17)، هل هي نفسها مشاعر المحبة الأخوية المسيحية؟
وثمة أسئلة أخرى:-
- هل هناك علاقة بين الحالة الروحية السامية التي كانت عليها الكنيسة في مدينة فيلادلفيا، كما وصفها الرب يسوع في رسالته لها في رؤيا3: 7-13 وبين هذا الاسم فيلادلفيا؟ هل هناك علاقة أم أنها مجرد صدفة جميلة؟
- كذلك أقول هل هناك علاقة بين هذا الاسم الجميل ”فيلادلفيا“، وحالة المؤمنين السامية في كنيستها، وبين حقيقة تاريخية واقعة حتى اليوم ألا وهي أن الكنيسة الوحيدة الباقية من كنائس أسيا الصغرى السبعة هي كنيسة فيلادلفيا، حيث لم تزل هناك إلى اليوم، ولم تتزحزح منارتها بعد أكثر من ستة قرون منذ أن سقطت المدينة في يد الأتراك سنة 1390م؟
- هل هي صدفة أم أن هناك علاقة بين الفيلادلفيا وبين أن يكون إلى اليوم في مدينة ألاشهر(أي فيلادلفيا القديمة) والتي يبلغ عدد سكانها عشرة آلاف نفس تقريبًا، خمس كنائس، وأن ربع سكان المدينة تقريبًا ما زالوا مسيحين على الرغم من الاندثار الكامل للمسيحية من تركيا؟
- هل هناك علاقة بين هذا الثبات والتمسك بمسيحيتهم، على الرغم من مرارة الاضطهاد، وبين هذا الاسم القديم فيلادلفيا؟ لماذا تزحزت منارة أفسس على الرغم من سمو المعرفة والإعلانات التي عندها، وبقيت منارة فيلادلفيا؟؟؟
إنني أترك إجابة هذه الأسئلة للقارئ العزيز على رجاء أن تقوده الإجابات مع المقالات إلى محبة أخوية إلهية عديمة الرياء، وأن تكون محبتنا لإخوتنا هي رايتنا وعَلمنا وأعظم مجال للاجتهاد بيننا، أن تكون محبتنا لإخوتنا أعمال وأتعاب وقرارات تعكس محبة الله وتجري وتتدفق بقوة الروح القدس، وليست مجرد مناخ لطيف يخضع للمزاج والاستلطاف والتناغم الاجتماعي والثقافي، أو مجرد مجاملات هي من قبيل الذوق والشهامة أوالكرم والأصالة كما ذكر لي هذا الشاب.