عدد رقم 2 لسنة 2007
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
نصائح شيطانية  

عزيزى/ علقم

لقد لاحظت باهتمام ما قلته عن قيادتك لمريضك في ما يقرأ، واهتمامك بأن تتعمق علاقته مع صديقه ذي المبادئ الإلحادية المادية.

لكن ألا ترى أنك غبي ساذج؟!

فمن الواضح أنك تفترض أن النقاش المنطقي هو الطريق لإبعاده عن قبضة العدو، وكان من الممكن أن يكون هذا هو الطريق لو كان هذا المريض يعيش من بضعة قرون مضت، حيث كان البشر في ذلك الوقت ما زلوا يعوِّلون كثيرًا على مسألة البرهان والدليل لكي يؤمنوا بالشيء أو يرفضوه، حيث كانوا على الفور يقبلون الشيء ويؤمنون به طالما توفَّر لهم البرهان والدليل على صحته.  لقد كانوا بعد يربطون بين أفعالهم وأفكارهم، ولذلك كانوا على استعداد أن يغيروا أفعالهم، بل وحتى طريقة حياتهم، كنتيجة لسلسلة من التفكير المنطقي. 

ولكن أ لم تلحظ أننا قد أجرينا تغيرًا كبيرًا الآن من خلال الجرائد والمجلات وباقي وسائل الإعلام حتى لا يعود البشر يربطون بين الفعل والمنطق الذي وراء هذا الفعل؟

وكنتيجة لهذا التغيير الذي أجريناه، تعوَّد مريضك منذ صباه على أن يعيش ورأسه ممتلئًا بالعديد من الأفكار والمعتقدات المتضادة.  وهو لا يرهق نفسه أبدًا ليفحص إن كانت أفكاره ومعتقداته  صحيحة أم خاطئة؟  إذ أن كل ما يهمه هو إن كانت نظرية أم عملية؟  قديمة أم عصرية؟  لطيفة وملائمة له أم تقليدية سخيفة وقاسية؟  أما مسألة صواب أم خطأ، وما هو البرهان إن كانت صواب وما هو الدليل إن كانت خطأ؛ فهذا أمر لم يعد له مكان الآن في أسلوب حياة البشر. 

إذًا، فلغة العصر، وليس النقاش المنطقي، هي حليفك الأقوى لكى تبقيه خارج الكنيسه.  فلا تضيّع وقتًا لكى تقنعه أن الفكر المادي الإلحادي هو فكر صحيح، بل فقط اقنعه أنه فكر جريء وتقدّمي وعصري، اقنعه أنه هو فلسفة المستقبل.  هذه هي اللغة التي يحبّ سماعها، ويعطي أذنًا صاغية لها. 

إن مشكلة النقاش المنطقي هي أنه ينتقل بالصراع كله إلى أرض العدو.  فعدونا يتفوق علينا جدًا في هذه النقطة، بينما نتفوق نحن وأبينا السفلي عليه بكثير فيما اقترحته عليك من وسيلة عملية؛ ألا وهي استخدام مفردات العصر ولغته وليس النقاش المنطقي. 

ألا تدري أنك باستعمالك للنقاش المنطقي توقظ فيه ملكة التفكير المنطقي؟  ومن يستطيع أن يتنبأ بالنتائج والخسائر الفادحة لنا إذا استيقظت هذه المَلَكَة؟  إننا حتى، ولو تمكنا من لوي تفكيره لجعله يصب في النهاية في مصلحتنا، فإنك بإيقاظك لهذه المَلَكة أنت تنمّي وتقوي في مريضك تلك العادة القاتلة؛ ألا وهي الإنتباه للأمور الفكرية الأبدية، والتحوّل عن تيار الخبرات الحسّية الآنية؛ بينما عملك الأساسي هو تثبيت إنتباه مريضك على هذا التيار، كل ما هو حسي وآني.  هيا علِّم مريضك أن يسمّي هذه الخبرات الحسية الآنية ”الحياة الحقيقية“ دون أن تدعه يتساءل ما هو المقصود بـ”الحقيقية“.

تذكَّر أنه ليس مثلك مجرّد روح فقط، أنت ليس لك نفس ولا جسد، ولأنك لم تكُن قَطّ إنسان من قبل (وهذا امتياز بشع للعدو يتفوق به علينا)، فأنت لا يمكنك أن تتخيل كم هم ضعفاء أمام ضغط الأمور الحياتية المعتادة، إنهم مستعبدين لها.

دعني أعطيك خبرتي في هذه المسألة:

كان لدي مريضًا وكان ملحدًا أصيلاً متعمِّقًا في إلحاده، وكان معتادًا أن يجلس في المتحف البريطاني ليقرأ.  وذات مرة، بينما كان جالسًا ليقرأ، وكنت أراقبه، لاحظت أن تيار أفكاره ابتدأ يتجه لاتجاه خاطئ.  وبالطبع في أقل من لحظة كان العدو إلى جواره ليساعده، وبسرعة رهيبة، وقبل أن أدرك أين أنا، وجدت أن كل مجهودي الماضي، مجهود عشرين سنة، ابتدأ ينهار أمامي.  ولو كنت قد تصرّفت بحماقة وقتها واندفعت للمقاومة من خلال النقاش المنطقي لكنت قد خسرت كل عملي الماضي. 

ولكنني لم أكن أبلَه لكي أفعل هذا، لذلك وجّهت ضرباتي على الفور إلى هذا الجزء من الإنسان والذي اعتدت إحكام السيطرة عليه.  فهمست له بأنه قد حان الآن وقت الغذاء، وعلى الأرجح أن العدو في الحال قدم له فكرًا مضادًا لما اقترحته كان مضمونه هو: ”لكن ما تفكِّر فيه الآن هو أهم بكثير من الطعام“، وأنت بالطبع تعرف أننا لا نقدر أبدًا أن نستمع لما يقوله لهم بالضبط، لكنني على الأقل أعتقد أن هذا هو الاتجاه الذي قاده إليه العدو، هذا لأنني عندما قلت له إن هذه المواضيع الهامة التي تفكِّر فيها من الصعب أن تتناولها وأنت هكذا مرهق وجائع، نهض مريضي على الفور مبتهجًا بشدة لهذه الفكرة واتجه نحو الباب، وأنا ألاحقه بالقول: ”من الأفضل جدًا أن تفكِّر في هذه المواضيع الهامة بعد الغذاء حيث يكون الذهن صافيًا ومستريحًا"، وقد كان وصل تقريبا لمنتصف الطريق إلى الباب. 

ومجرد ما خرج للشارع كانت المعركة قد حُسِمت.  فقد لَفتُ انتباهه إلى بائع الجرائد الصغير الذي كان يصيح على صحف المساء، ثم حولت انتباهه إلى أتوبيس 73 وهو يمر في رحلته المعتادة.  وقبل أن ينتهي من نزول درج المتحف، كنت قد زرعت في داخله اقتناعًا لا رجعة فيه أنه مهما كانت تلك الأفكار الغريبة التي تنتاب الإنسان عندما ينفرد وحيدًا مع كُتبه منكبًّا عليها، فإن جرعة مناسبة من أمور الحياة اليومية المعتادة (مثل صيحات بائع الجرائد ورحلات الأتوبيس المعتادة) تكفي لتظهر له أن هذه الأفكار الغريبة التي تنتابه وهو يقرأ لا يمكن أن تكون صحيحة.  وقد أدرك أن فرصته للهروب إلى مثل هذه الأفكار الغريبة تتضاءل بشدة حتى أصبح في سنواته الأخيرة مغرَمًا بالحديث عن هذا الشعور العميق بالواقع، والذي لا يمكن صياغته في كلمات!  وبالطبع كان هذا الشعور بالنسبة لنا هو أعظم حصن أمان نحمي فيه مريضنا من شطحات المنطق البحت المدمِّرة.  وبعد أن انتهت رحلته على الأرض هو الآن في أمان في بيت أبينا.

هل بدأت تفهم ما أعنيه؛ إن الفضل في هذا يرجع إلى طرق التفكير التي جعلناهم ينتهجونها منذ بضعة قرون، إذ صاروا يرون أنه من المستحيل تمامًا أن يؤمنوا بغير المألوف بينما المعتاد والمألوف ماثل أمام أعينهم. 

لذا هيا استمر ضاغطًا على مريضك وملاحقًا إياه بسلاح المألوف والمعتاد، ولا تعطي له فرصة للتفكير في غير المألوف.  وفوق الكل احذر من استخدام العلم، أقصد العلوم الحقيقية، كوسيلة للدفاع في مواجهة المسيحية.  إن خطر العلوم الطبيعية يكمن في أنها تدفع الإنسان وتشجِّعه على التفكير في الحقائق التي لا يمكنه أن يلمسها أو يراها، أي الحقائق غير المنظورة، وهذا خطر شديد علينا.  ولا تنسَ أن هناك بعض الحالات المحزنة لنا بين علماء الفيزياء الحديثة.  ولو لاحظت أنه من المغرمين بالعلم فاجعله يتجه للإقتصاد والعلوم الإجتماعية، لا تدَعه يفلت من التركيز على كل ما يختص بالحياة اليومية المعتادة، لأن هذا لا يُقدَّر بثمن بالنسبة لنا.  وبالطبع لا يخفى عليك أن أفضل شيء هو أن لا يقرأ في العلم على الإطلاق، مع الإيحاء المستمر له بأنه يعرف كل تلك الأمور.  واجعله يتوهم أن كل ما يلتقطه من الأحاديث والقراءات العابرة هو أخر ما توصّلت إليه أحدث الاكتشافات العلمية. 

تذكَّر دائمًا أنك هناك معه وحوله لتشوِّشه ولتجعل كل الأمور تختلط لديه.  من الطريقة التي يتكلم بها بعضكم أنتم الشياطين الصغار قد يفترض أي واحد أن وظيفتنا هي أن نُعْلِّمْ، بينما نحن هنا في الواقع لكي نشوش. 

عمك المحب

الملتوي

(يتبع)

هذا المقال مترجم من كتاب ”Screwtape Letters“ للكاتب والمفكر الإنجليزي الشهير ”C.S.Lewis“، وفيه يتخيل أحاديث تجري بين شيطان كبير محنَّك وآخر صغير يتدرَّب.  وبالطبع ليس هناك صغير وكبير بين الشياطين وإن كان هناك رتب مختلفة، لكنه أسلوب المفكر والأديب الشهير لكي يوصِّل للمؤمنين طريقة عمل إبليس.  ونحن نقدِّمه للقراء الأعزاء، نتذكر قول الرسول «لئلا يطمع فينا الشيطان، لأننا لا نجهل أفكاره» (2كو2: 11).

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com