عدد رقم 2 لسنة 2007
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الكنيسة وشهادة الله  

دروس من العهد القديم

  1.  فكرة الشهادة لله فكرة متغلغلة في صفحات الكتاب المقدس.  ولعل أول ما يمكن أن نعتبره شهادة في العهد القديم جاء بالارتباط بمولد أنوش بن شيث، حيث يقول الوحي: «حينئذ ابتُدئ أن يُدعى باسم الرب» (تك4: 26)، أو بكلمات أخرى: ابتدأت أن تكون للرب شهادة على الأرض. 

    وأن تبدأ الشهادة بأنوش ابن شيث فهذا له دلالته الروحية.  فشيث الذي جاء بدل هابيل الذي قُتل، يمثل لنا المسيح المُقام من الأموات (كان شيث هو الثالث، والرقم 3 هو رقم القيامة من الأموات).  كما أن أنوش (ومعنى الاسم ضعيف)، يمثِّل النسل الذي تكوَّن من المسيح المُقام.  فلقد قال المسيح عن نفسه: «إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمُت فهي تبقى وحدها، ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير» (يو12: 24). 

    وهذه الجماعة ميَّزها - في ذواتهم - الضعف، ولكنهم استمدوا القوة عندما حل الروح القدس عليهم (أع1: 8)، فلم تكن قوتهم هي القوة البشرية التي تقود إلى الفخر والعُجْب والكبرياء، بل قوة الله التي تقود إلى التواضع.  وفيما بعد قال الرسول بولس: «لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفية، ليكون فضل القوة لله لا منا» (2كو4: 7).
  2.  ثم نقرأ عن أول عمود في الكتاب المقدس، وكان مرتبطًا ببيت إيل أي ”بيت الله“ (تك28: 18).  والعمود صورة للشهادة، كما نفهم قول لابان ليعقوب: «هُوَذَا هَذِهِ الرُّجْمَةُ وَهُوَذَا الْعَمُودُ الَّذِي وَضَعْتُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ.  شَاهِدَةٌ هَذِهِ الرُّجْمَةُ وَشَاهِدٌ الْعَمُودُ» (تك31: 51، 52).  وفي بيت إيل أعلن الرب ليعقوب أمرين، فقال يعقوب: «ما هذا إلا بيت الله، وهذا باب السماء» (تك28: 17).  فبالنسبة للأرض، هناك بيت لله على الأرض، مكان يُكرم الله فيه، وتُرتب فيه الأمور كما يحب هو.  وبالنسبة للسماء، هذا هو المكان الوحيد الذي يمكن للسماء أن تطلّ منه على الأرض.  من ثمّ أقام يعقوب عمودًا للشهادة على هذه الإعلانات العظيمة.  وغني عن البيان أن هذه الشهادة هي مسؤولية كل الذين يعرفون الحق الخاص بيت الله (تك31: 13).
  3.  ثم بعد الفداء والخلاص الذي تمّ للشعب القديم من أرض مصر، طلب الرب من موسى أن يبني له مَقْدسًا ليسكن في وسطهم (خر25: 8).  ولقد سُمى هذا المسكن ”خيمة الاجتماع“.  وهذا الاسم يُوحي إلينا بفكرة اجتماع شعب الرب معًا إلى اسم الرب.  وكانت أهم أواني خيمة الاجتماع هو: ”التابوت“، الذي يُذكَر في المقدمة، كأول كل القطع التي في هذا المسكن.  وهو رمز لربنا يسوع المسيح الذي نحن إليه نجتمع. 

    ولقد سُمّي هذا التابوت أيضًا ”تابوت الشهادة“ (خر25: 22)، وبالتالي سُميت الخيمة كلها ”مسكن الشهادة“ (خر38: 21؛ عد1: 50، 53)، و ”خيمة الشهادة“ (عد9: 15؛ أع7: 44).  وهكذا مرة أخرى نجد فكرة الشهادة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمسكن الله.
  4.  وفي سفر العدد، وهو السفر الذي يحدّثنا عن الارتحال في البرية، نقرأ عن الشهادة بكثرة.  والمدلول الروحي لذلك هو أنه طالما نحن في هذا العالم، فإن مسؤوليتنا الخاصة هي أن نشهد للمسيح.  ونلاحظ أن السحابة في سفر العدد ارتبطت بالخيمة ”مسكن الشهادة“.  والسحابة تحدِّثنا عن الروح القدس.  وهكذا فإن الروح القدس هو الذي يدعم جماعة المؤمنين في الشهادة.  وبعد أن كانت السحابة تقود الشعب، صورة لقيادة الروح القدس للمؤمنين أفرادًا، فإن السحابة «غطت... المسكن، خيمة الشهادة» (عد9: 15)، صورة إلى أن الروح القدس يُسَرّ أن يقود جماعة المؤمنين المجتمعين حول الرب (مت18: 20).  وهذا الاجتماع يُعتبَر أحد أقوى جوانب شهادة كنيسة الله، كما سنرى بعد قليل.

    الروح القدس يُسَرّ أن يقود جماعة المؤمنين المجتمعين حول الرب، وهذا الاجتماع يُعتبَر أحد أقوى جوانب شهادة كنيسة الله.
  5. ثم عندما بنى سليمان هيكل الله في أورشليم، نجد أن فكرة الشهادة لله فكرة أساسية في هذا المبنى التليد.  وفي صلاته أوضح سليمان كيف يُمكن لمَن يسمع عن عظمة الله، أن يأتي إلي بيته، وهناك يعرف المزيد عن عظمة ذلك الإله الذي أقام لنفسه مثل هذه الشهادة على الأرض (1مل8: 41-43، 60).

الشهادة في العهد الجديد

في العهد الجديد تتكرّر كلمة الشهادة كثيرًا.  لكن ما يعنينا الآن المرات التي ارتبطت فيها بكنيسة الله.  واللافت للنظر أن هذه الكلمة تأتي بصفة خاصة في الرسائل التي تتحدث عن الكنيسة. 

  1.  فمثلاً نحن نقرأ عن ”شهادة المسيح“ أو ”شهادة الله“ في رسالة كورنثوس الأولى (1: 6؛ 2: 1)، وهي الرسالة الموجَّهة إلى الكنيسة هناك، وليس إليهم وحدهم، بل أيضًا «إلى...  جميع الذين يدعون باسم ربنا يسوع المسيح في كل مكان» (1كو1: 2).  والتعبير ”يدعون باسم الرب يسوع المسيح“، كما فهمنا فيما سبق، يعني الشهادة للرب يسوع.  هذه هي مسؤولية الكنيسة بصفة خاصة، أولئك الذين يجتمعون إلى اسم الرب يسوع، ولو كانوا اثنين أو ثلاثة.
  2.  وهناك فصل هام في هذه الرسالة عن الشهادة للرب الحاضر في وسط كنيسته، إذ يقول الرسول: «فَإِنِ اجْتَمَعَتِ الْكَنِيسَةُ كُلُّهَا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَكَانَ الْجَمِيعُ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ فَدَخَلَ عَامِّيُّونَ أَوْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ أَفَلاَ يَقُولُونَ إِنَّكُمْ تَهْذُونَ؟ وَلَكِنْ إِنْ كَانَ الْجَمِيعُ يَتَنَبَّأُونَ فَدَخَلَ أَحَدٌ غَيْرُ مُؤْمِنٍ أَوْ عَامِّيٌّ فَإِنَّهُ يُوَبَّخُ مِنَ الْجَمِيعِ.  يُحْكَمُ عَلَيْهِ مِنَ الْجَمِيعِ.  وَهَكَذَا تَصِيرُ خَفَايَا قَلْبِهِ ظَاهِرَةً.  وَهَكَذَا يَخِرُّ عَلَى وَجْهِهِ وَيَسْجُدُ لِلَّهِ مُنَادِياً أَنَّ اللهَ بِالْحَقِيقَةِ فِيكُمْ» (1كو14: 23-25).
  3.  ثم نقرأ أيضًا عن الشهادة في رسالة تيموثاوس الأولى، وهذه الرسالة مشغولة بالحديث عن الترتيب الخاص بكنيسة الله.  فيَرِد في الأصحاح الثاني هذه العبارة: «الشهادة في أوقاتها الخاصة» (1تي2: 6).  والأوقات الخاصة المقصودة هنا هي زمن النعمة الحالي: فترة وجود الكنيسة على الأرض، بعد أن أكمل المسيح عمل الفداء العجيب، وصعد إلى يمين عرش العظمة، وأرسل من هناك الروح القدس ليسكن في كنيسته.
  4.  ويتحدث الرسول في الأصحاح الثالث من هذه الرسالة عن كيفية التصرف «في بيت الله، الذي هو كنيسة الله الحي، عمود الحق وقاعدته» (1تي3: 15).  وهنا نجد مأمورية خاصة أُوكلت للكنيسة على الأرض، أن تكون ”عمود الحق“ (أي تشهد للحق في العالم)، وأن تكون كذلك ”قاعدته“.

ونحن نجد هنا ثلاثة تعبيرات لها ارتباط ببعضها: بيت الله، ثم كنيسة الله الحي، وثالثًا عمود الحق وقاعدته.  هذه التعبيرات لها اتجاهات ثلاثة كالآتي:

  •  في علاقتنا ببعضنا نحن عائلة الله، «بيت الله».  ولقد ذُكرت كلمة ”بيت“ قبل ذلك بالنسبة للأسقف مرتين (ع 4، 5)، وهنا تُذكر للمرة الثالثة مرتبطة بالله. 
  •  وبالنسبة لله نحن «كنيسة الله الحي».  والكلمة كنيسة مستمَدّة من الكلمة اليونانية إكليسيا، التي تعني جماعة منفصلة وخارجة.  وعليه فإن ”كنيسة الله“ هي الجماعة المفروزة لله، والمنفصلة له خارج نظام هذا العالم.
  •  وأخيرًا بالنسبة للعالم نحن «عمود الحق وقاعدته».  وتعبير ”عمود الحق“، يعني أن الكنيسة هي الشاهدة للحق في هذا العالم.  ولأننا لسنا من العالم، بل نحن جماعة مفروزة عنه، وخارجة منه، فإنه يمكننا أن نشهد له.  ثم في ”سر التقوى“ (ع16)، نرى خلاصة الحق الذي تشكل الكنيسة عموده وقاعدته. 

رسالة الأيام الأخيرة

رسالة تيموثاوس الثانية هي آخر ما كتبه الرسول بولس قبيل استشهاده، وموضوعها هو الأيام الأخيرة.  وفي ذلك الوقت كانت الحالة قد ساءت للغاية.  وهي تشبه أيامنا الحاضرة إلى حد بعيد.  وقد جاءت الوصية لتيموثاوس، بل جاءت بداية تحريضات الرسول لابنه الصريح في الإيمان: «لا تخجل بشهادة ربنا، ولا بي أنا أسيره» (2تي1: 8). 
لم تَرِد مثل هذه العبارة في الرسالة الأولى، ولا كانت هناك حاجة لمثلها في ذلك الوقت.  فتيموثاوس لم يكن مُعرَّضًا أن يخجل من الشهادة في الأيام السابقة، عندما كانت الشهادة ناضرة، وكانت فعالة برغم المقاومة.  إلا أنه في وقت كتابة الرسالة الثانية كانت الأحوال قد تغيّرت، وصارت الشهادة عارًا، فالمؤمنون قد فترت حياتهم، وبولس ”خادم الكنيسة“ (كو1: 24، 25)، أُلقي في السجن دون أي أمل في الإفراج عنه.  وليس هناك امتحان أصعب من أن يجد الإنسان نفسه محمولاً بموجة مَدٍّ ترفعه إلى العلى، تعقبها موجة جَذرٍ وانحسار.  هذا هو أصعب امتحان لمعدن الإيمان.

إذًا فقد كان في ذلك الوقت - كما هو حادث اليوم أيضًا - احتمال للخجل من شهادة ربنا، نظرًا لما تعرضت له هذه الشهادة من اضمحلال، نتيجة فشل الشهود، ومقاومة أعداء الحق وأعداء المسيح.  لكن الرسول يوصي ابنه الصريح في الإيمان بألا يفعل ذلك.  هناك من يخجل، وأما أنت فلا تخجل.  ويا للنعمة العجيبة التي تربط أشخاصًا نظيرنا، مملوئين بالضعف، بشهادة ربنا يسوع المسيح!  نعم نقول: يا له من امتياز!  وأيضًا يا لها من مسؤولية!

الشهادة الفردية

نحن لا ننكر أهمية الشهادة الفردية في العديد من المناسبات، بحياتنا أو بكلامنا.  ولكن هناك جوانبًا في الشهادة لا يمكن أن تتحقق في حياتنا الفردية.  إن الشهادة البعيدة عن بيت الله ممكن أن تكون شهادة سلبية، كتلك التي كانت في إسرائيل أيام إيليا، أولئك الذين لم ينحنوا للبعل، ولم يُقبِّلوه (1مل19: 18)، ولكن لا نقرأ أنهم سجدوا لله، حيث إن السجود لله كان له مكانه.  أو كتلك الشهادة التي نقرأ عنها في سفر أستير، حيث إن أمانة مردخاي منعته من أن يسجد لهامان الأجاجي (أس3: 2، 5؛ 5: 9)، ولكننا أيضًا لا نقرأ في هذا السفر عن السجود لله، بل - كما يعرف الكثير منا - أن اسم الله نفسه لم يرد في سفر أستير على الإطلاق.  لقد كانت هناك فرصة لمن يرغب في العودة إلى أورشليم، حيث يمكن السجود للرب، وأعطى الامبراطور تصريحًا ببناء بيت الرب، ولكن بعضًا من المؤمنين تقاعسوا عن ذلك، وهؤلاء تمتعوا بمعاملات عناية الرب، ولكنه لم يُظهِر الرب ذاته لهم.

ويا له من درس جميل لأولئك الذين يقفون منفردين في أماكن ليس فيها شهادة جماعية للرب!  في هذه الحالة تتحول شهادة الفرد من الشهادة الإيجابية التي هي مسؤولية الكنيسة، إلى الشهادة السلبية، عندما لا يكون معه أي واحد يقف بجواره ليقدِّما معًا شهادة للرب.  وكم يُقدِّر الله أولئك الذين في اليوم الشرير يظلّون أمناء في طريقهم الذي تعيَّن لهم أن يسيروا فيه بالانفراد، مستندين على الله، ومتكلين عليه وحده، ذاك الذي عيناه «تجولان في كل الأرض، ليتشدّد مع الذين قلوبهم كاملة نحوه» (2أخ16: 9).  ويقينًا ما زال للرب أمناء في أماكن نائية، لكن عيني الرب عليهم.

الفرق بين الشهادة والكرازة

بلا شك تُمثِّل الكرازة جانبًا هامًا ومباركًا للشهادة لله على الأرض، ولكنه مجرد جانب واحد فقط، وأما الشهادة للرب فإنها أوسع من ذلك كما سنرى الآن.

يربط الرسول بولس بين الكنيسة ومجد الله إذ يقول عن الله: «له المجد في الكنيسة في المسيح يسوع» (أف3: 21).  صحيح هذا سيكون على الوجه الأكمل في ”يوم الدهر“، أي في الأبدية، ولكن ممكن لنا بالإيمان أن نسبق الزمن وصولاً إلى ذلك اليوم، كما فعلت مريم أخت لعازر، التي سبقت فأكرمت المسيح وسط مظاهر العداء لشخصه. 

لقد صلى الابن المبارك إلى أبيه قبيل الصليب قائلاً: «ليكون الجميع واحدًا».  ثم مضى إلى الصليب ”ليجمع أولاد الله المتفرقين إلى واحد“ (يو11: 52).  وإني أتساءل: أين يمكن أن تتم الشهادة لهذه الأمور الغالية على قلب الرب؟  أم أن الله قصد أن يقصر هذه الأمور على قراءتها في الكتاب المقدس، دون أن يكون لها أدنى شهادة على أرض الواقع؟!  نعم، أين يُعلن هذا الحق، إن لم يكُن في الكنيسة، حيث يجتمع الأتقياء الذين انفصلوا عن كل الأنظمة البشرية، حول الرأس المبارك، ربنا يسوع المسيح، والروح القدس يقودنا، حسب إرادته، لتعظيم شخصه، كما ويأخذ مما له ويخبرنا؟ 

ثم إننا في كنيسة الله فقط يمكننا أن نرتب الأمور وننظمها كما يُسَرّ الله أن تكون.  ودعنا نتذكر قول الرسول بولس لابنه تيموثاوس: «لكي تعلم كيف يجب أن تتصرف في بيت الله» (1تي3: 15).  ومن هذا المنطلق يمكن القول إن هناك أشياء يمكن أن نعملها بالارتباط ببيت الله، ويتعذر أن تُعمل بعيدًا عن ذلك البيت.  فبيت الله - كما سبق أن ذكرنا - هو المكان الذي فيه يتم ترتيب الأمور وتنظيمها كما يحب صاحبه، أي كما يحب الله أن تكون. 

حكمة الله كما ظهرت في الخليقة تمثل فقط أحد جوانب تلك الحكمة السرمدية، ولكن الكنيسة تُعلِّم الرؤساء والسلاطين الملائكية حكمة الله المتنوعة.

يقول الرسول: «لكي يُعَرَّف الآن عند الرؤساء والسلاطين، بواسطة الكنيسة، بحكمة الله المتنوعة».  صحيح إن الخليقة تحدثنا عن حكمة الله، ولكن حكمة الله كما ظهرت في الخليقة تمثل فقط أحد جوانب تلك الحكمة السرمدية، ولكن الكنيسة تُعلِّم الرؤساء والسلاطين الملائكية حكمة الله المتنوعة.

إذًا فلقد قصد الروح القدس أن الرؤساء والسلاطين الملائكية تتعلم شيئًا عن حكمة الله بواسطة الكنيسة، وقصد أن يتم ذلك الآن.  فأين يتم ذلك؟ أ ليس عندما تجتمع الكنيسة حول رأسها الكريم؟  إن الملائكة والرؤساء، عندما ينظرون إلى العالم بصفة عامة، ويرون كيف تُنتهَك حقوق الله، وكيف يعمل كل إنسان ما يحسن في عينيه، وكيف أن ترتيب الله الرائع في الخليقة، ليس فقط لم يعُد معمولاً به، بل يُسَرّ الكثيرون أن يعملوا عكسه على خط مستقيم؛ ثم يتحول الرؤساء والسلاطين من الملائكة إلى تلك المحافل الصغيرة والبسيطة، التي يُسر ربّ المجد بنفسه أن يكون حاضرًا في وسطها، فيلاحظون حرص الحاضرين على احترام حقوق الرب قبل أي شيء آخر.  نعم إنهم يلاحظون كيف يراعي الحاضرون ترتيب الله في الخليقة: فالمرأة تغطي رأسها، والرجل يكشف رأسه؛ ويلاحظون كيف لا يُسمح للنساء أن يُعلِّمن أو أن يأخذن مركز القيادة في الاجتماعات العامة للكنيسة (1كو11: 2-16).  صحيح أنا أعلم أن هذه الأمور كلها لا تساوي شيئًا في نظر البعض، وقد تبدو أنها نوع من التخلف والرجعية في نظر الآخرين؛ لكن هل يا ترى نحن نريد أن نكون نظيرهم؟  أ لعلنا ننسب لله جهالة عندما سَجَّل مثل هذه الأمور في كلمته المقدسة؟ (قارن أيوب 1: 22).  أم لعلنا نطعن في وحي هذه الأقوال وكنا نتمنى عدم وجودها أصلاً في الكلمة المقدسة، فنقع بذلك في مصيبة من يريد أن يحذف من أقوال هذا الكتاب؟ (راجع تثنية 4: 2؛ رؤيا 22: 19).  فإن كنّا لسنا من هذا الفريق أو ذاك، يبقى السؤال: أين يمكن الشهادة عن هذه الأمور، بعيدًا عن اجتماعات الكنيسة؟

من كل ما سبق يمكن القول إن ثمة علاقة بين كلٍّ من الشهادة والكرازة، وسفر أعمال الرسل - وهو يتحدث كثيرًا، من بدايته، عن الشهادة - هو أيضًا بلا شك سفر الكرازة والتبشير.  ويمكن القول إنه في الكنيسة الأولى كان كل واحد يعتبر نفسه كارزًا ومبشِّرًا.  فالذين تشتتوا جالوا مبشرين بالكلمة، دون حصولهم على أي مركز خاص في الكنيسة (أع8: 4؛ 11: 19).  إنهم لم يكونوا رسلاً أو أصحاب مواهب، بل مجرد إخوة.  لكن هذا السِفر - بالإضافة إلى ذلك - يهتم بذكر الاجتماعات الكنسية التي كانت تُعقَد، سواء للتعليم أو للشركة أو لكسر الخبز أو للصلوات (أع2: 42). 

وإذا أردنا أن نعقد مقارنة بين الشهادة والكرازة في كلمات قليلة نقول إن في الكرازة دائرة المستفيدين أوسع، وفي الشهادة فإن دائرة الحق المعلن أوسع.  نعم، إن دائرة المستفيدين في الكرازة أوسع، إذ يمكننا أن نصل إلى كل إنسان في العالم، بينما في الشهادة دائرة الحق المُعلَن أوسع، حيث يمكننا أن نشهد عن الترتيب الصحيح في بيت الله كنيسة الله الحي، عمود الحق وقاعدته.  الأمر الذي يستحيل أن نشهد له خارج الكنيسة.

إن دائرة المستفيدين في الكرازة أوسع، إذ يمكننا أن نصل إلى كل إنسان في العالم، بينما في الشهادة دائرة الحق المُعلَن أوسع، حيث يمكننا أن نشهد عن الترتيب الصحيح في بيت الله كنيسة الله الحي

وإننا نتذكر هنا كلمات لأحد رجال الله الأفاضل قال: ”من لا يتعدى تفكيره خلاص الخاطئ، فإن نظرته تكون مستقرة على الإنسان وحاجته، بينما من - بنعمة الله - يتجاوز تفكيره ذلك، ليصل إلى غرض الله النهائي، أعني به الكنيسة كمسكن أو بيت الله، فإن نظرته تكون مستقرة على الابن المبارك، وعلى مجده“.

أ لم تفشل الشهادة الجماعية؟
كثيرًا ما نسمع أن الشهادة الجماعية قد انتهت، ولم يبقَ لنا سوى الوعد الوارد في متى28: 20 لنتمسك به.  لكن فِكر كهذا إنما يدل على عدم الإيمان.  وعلينا أن نوقن أن الله أعظم من كل فشل حولنا، وأنه كافٍ لملءِ قلوبنا بقوة النعمة التي في المسيح يسوع (2تي2: 1).  والرسول بعد أن قال: «جميع الذين في أسيا ارتدّوا عني»، فإنه قال أيضًا «ولكن أساس الله الراسخ قد ثبت» (2تي1: 15؛ 2: 20).  كما إنه شيء عظيم ويمجِّد الله أن نركن على كلمته التي تثبت إلى الأبد (1بط1: 25). 

ومن المهم أن نقرِّر أنه لا يوجد دليل واحد في الكتاب المقدس على أن الله استبدل الشهادة الجماعية بشهادة فردية.  صحيح إن الكنيسة بصفة عامة قد فشلت، لكن هناك أمانة فردية للحقّ الخاص بالكنيسة، أي للكنيسة كشاهدة لله على الأرض. 

ونحن نتعلم درسًا هامًا مما كُتب لنا عن شعب الله في العهد القديم.  فمن زمان سليمان الذي بنى بيت الله العظيم نكتشف بداية التحول الخطير عن الحق، ونجد أن الفشل الرهيب قد دَبّ في كل من الملك والشعب على السواء.  فسليمان نفسه، الذي في صلاته قال إن الأمم الذين يسمعون خبر إلهنا العظيم، يأتون ويتعلّمون المزيد عن هذا الإله الوحيد السرمدي، هو نفسه بنى مرتفعات للأوثان، إرضاءً لنسائه، في أواخر أيامه.  وكانت النتيجة المحزنة أن انفصلت مملكة إسرائيل عن مملكة يهوذا (1مل11: 1-13).  وبسرعة قرأنا عن ”خطايا يربعام بن ناباط“ الذي لم يتحوّل ولا ملك واحد من ملوك إسرائيل عنها. 

ولكننا نلاحظ أيضًا أن كل نهضة أقامها الرب بين شعب الله القديم، اهتمّت، فوق كل شيء، ببيت الله، وبالشهادة له (انظر نهضة الملك حزقيا ونهضة الملك يوشيا؛ 2أخبار 25-31؛ 34، 35).  وحتى بعد السبي البابلي، أي بعد أن تم تدمير هيكل سليمان تمامًا، فإنه لما بُني الهيكل ثانية، بواسطة جماعة الراجعين من السبي، ولم يكن البيت المبني في عظمة البيت الأول، فإنه بالرغم من هذا نلاحظ أمانة البقية في أيام زربابل وعزرا ونحميا لبيت الله.  بل إنه لما جاء المسيح، وكانت الحالة ساءت جدًا، كانت هناك بقية أمينة لذلك البيت، ممثَّلة في سمعان الرجل البار، وكذلك في حنة النبية، تلك المرأة الأرملة الهَرِمة، فصار ضَعفها مُضَاعفًا، ولكنها لم تكُن تفارق الهيكل، عابدة بأصوام وطلبات ليلاً ونهارًا (لوقا2). 

هذه - أيها الشباب الأعزاء - هي آثار الغنم، التي مطلوب منّا أن نتبعها (نش1: 8).

لكن أكثر المشاهد التي تلمس قلوبنا بعمق، حدث قبيل ذهاب المسيح إلى الصليب، وهو مشهد تكريسي منقطع النظير، ممثَّل في تلك الأرملة التي ألقت فلسيها في الخزانة.  وهو ما يُعتبَر آخر مشاهد البقية الأمينة المذكورة في الأناجيل (لو21).  ونلاحظ أنه بعد حادثتها المذكورة مباشرة، نطق الرب بالقضاء النهائي على الهيكل، وعلى أورشليم نفسها.

هذه الأرملة لم يكن لها في حياتها سوى هدف واحد على الأرض، هو ”بيت الله“.  ومع أنه لم يكن بوسعها سوى أن تفعل أقل القليل، فهي لم تكن تمتلك سوى «ربع» عبارة عن فلسين، وكان يُعتبَر في نظر الناس تكريسًا عظيمًا لو وضعت فلسًا، وادّخرت الفلس الآخر.  فهي في هذه الحالة تكون أعطت نصف أموالها (كما قال زكا قبل ذلك – لوقا19: 8) لبيت الله، ولكان هذا أمرًا عظيمًا يُحسب لها.  لكنها نسيت نفسها تمامًا إزاء هذا الغرض العظيم الذي أمامها، فأعطت الكل لخزانة بيت الله.  ومع بساطة التقدمة، فقد رأى الرب القلب الذي تحرّك وأعطى.  وقال الرب إنها أعطت أكثر من الكل.  لقد سارت خلف سيدها الذي أعطى الكل، والذي انطبق عليه القول: «غيرة بيتك أكلتني» (مز69: 9)، هكذا هذه الأرملة المسكينة، فإن غيرتها هي أيضًا لبيت الله أكلتها وكل معيشتها.  وكما قال أحدهم: ”إن تقدمتها المجزّئة دلّت على قلبها الموحَّد“.

أحبائي، قال الرب: «إني أُكرِم الذين يكرمونني» (1صم2: 30).  إن من يكرم الرب، حتمًا سيكرمه الرب.  فهل تودون إكرام السيد؟  هل تحبون أن تكونوا أمناء في الشهادة للرب؟  ليت الرب يقيم بيننا الكثيرين من الشباب الذين يشتهون أن يشهدوا للرب وسط خرائب المسيحية!  شباب يمجدون الرب في اليوم الحاضر، قبل أن تمضي الفرصة وينتهي الزمان.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com