لقد أقيمت في السنوات القليلة الماضية بضعة فرص كرازية في عديد من الكنائس. وهي، بالنسبة لنا كإخوة، تجربة حديثة إلى حد ما من وجهة معينة. واليوم أرى أن شبابنا يقف على مفترق طرق من جهة هذه الفرص. لذلك صار من المحتم علينا أن نقف لنعيد تقييم عملنا، ولنراجع أنفسنا لنرى إن كنا في مشيئة الله أم لا؟
ومفترق الطرق الذي أراه هو وجود صوتين متعارضين في وسطنا: الأول يُشعِرك بأن الفرص الكرازية التي تُجرى الأن هي أعظم عمل عمله الإخوة في تاريخهم! والثاني يُشعرك بالحزن الشديد على المبادئ التي ضاعت والحق الذي اكدرّ وتغير وأُلقي في الشارع بسبب هذه الفرص! هنا مفترق الطرق الذي يقف عنده الشاب في حيرة وصراع لا يعرف أي الطريقين هو الصحيح؟
وبالطبع، ونحن نتناول هذا الصراع، الذي فرضناه على الشباب، لا يخفى علينا عدد وحجم الصراعات الأخرى التي يعانون منها؛ كالظروف العائلية القاسية، ومشاكل التعليم المختلفة، ومآسي البطالة وقسوة الظروف الاقتصادية، وغيرها. ثم يأتي هذا الصراع: ”الفرص الكرازية صواب أم خطأ؟“، ليزيد من معاناتهم، وقليلون هم الذين يجيدون التعامل معه ومع المعاناة التي يسبِّبها، بينما الأغلبية، لا تجيد التعامل معه وتجدها تقع في إحدى حفرتين:-
الحفرة الأولى: الصراع عامل يجذب. هؤلاء يكون لهم هذا الصراع بمثابة طوق نجاة نفسي وهمي، يهربون به من مواجهة صراعاتهم الزمنية الحقيقية!! فيتبنّون هذا الصراع بكل حماس، سواء على الجانب المؤيّد أو المعارض، للهروب من الصراعات الأخرى التي يعانون منها؛ سواء كانت اجتماعية، نفسية، عائلية، اقتصادية، أو غيرها. وهم يفعلون هذا لأنهم يقنعون أنفسهم بأنه ينبغي تنحية كل هذه الصراعات الآن، وتأجيل البحث عن حلول لها، حتى يتم حسم هذا الصراع الأهم! وكأنهم يقولون لأنفسهم: ”كيف نترك عمل الله ونتفرغ لمواجهة مشاكلنا الشخصية؟ ينبغي أن ننصر الحق أولاً وبعد هذا نواجه مشاكلنا“. وهؤلاء للأسف من مصلحتهم أن يستمر الصراع ولا يُحسَم لكي يستمر هروبهم إليه من مواجهة مشاكلهم الحقيقية!!
الحفرة الثانية: الصراع عامل ينفر. هؤلاء يكون هذا الصراع لهم بمثابة غيمة ثقيلة تجسم على صدورهم، وهم - إلى حدٍّ ما - أكثر نضوجًا من الذين سقطوا في الحفرة الأولى من الناحية النفسية، لكنهم - للأسف - ليسوا ذوي قامة روحية عالية تمكِّنهم من إجادة التعامل مع هذا الصراع. هؤلاء إذ يدركون، ويَعون جيدًا، حجم مشاكلهم الزمنية؛ تجدهم يرفعون شعارًا هو: ”مش ناقصة“، أي لا طاقة عندهم لمزيد من الصراعات؛ فيشمئِّزون من النشاط الروحي ككل، ويؤثرون الانسحاب وإراحة الدماغ!
وهذان التوجهان قد تجدهما أيضًا في بقية الصراعات الكنسية.
لذلك من منطلق الحرص على الشباب من ضياع الطاقة والوقت فيما لا يجدي، ومن منطلق الشعور بالمسؤولية تجاه عمل الله بيننا؛ سأحاول - بنعمة الرب - تقديم بعض الأفكار، راجيًا من الرب أن تساعد على تخفيف حدة هذا الصراع. كما أصلي أن تساعد المُخلصين من الشباب على عبور هذا المفترق دون السقوط في إحدى هاتين الحفرتين.
وأعتقد أنه ممّا يسهم في تحقيق هذا هو الوصول لإجابة محددة عن بعض الأسئلة الهامة بخصوص هذا الأمر مثل:
- هل الكنيسة مسؤولة عن الكرازة؟
- هل نحن، كجماعة إخوة، جماعة كارزة؟
- ما هو الشكل الصحيح للفرص الكرازية؟
لكن اسمح لي عزيزي القارئ قبل أن أتناول هذه الأسئلة، أن أسجِّل بعض ملاحظاتي الشخصية على هذا الأمر (الفرص الكرازية وكل من المؤيدين والمعارضين لها) والتي أضعها بإخلاص أمام إخوتي من الفريقين.
- لا أعرف شخصًا له قلب وعواطف المسيح لا يحبّ الكرازة بالإنجيل. ولا أعرف دافعًا صحيحًا للكرازة سوى امتلاك قلب وعواطف المسيح، وكل دافع آخر، مهما كان نُبله، هو - من وجهة نظري - دافع نفسي جسدي مرفوض من الله؛ سواء كان يدفع صاحبه للبحث عن نفسه وإشباعها بنشاط ديني أو بشهرة أو بربح.. الخ، أو كان يدفع صاحبه للبحث عن خير كنيسته ونجاحها، أو أن يكون الدافع هو مجرد خلق حدث جديد يخرجنا من حالة الجمود والروتين، أو أن يكون مجرد حماسة لتقليد الكنائس الأخرى. كل هذه الدوافع، وغيرها، مرفوضة من الله، ولن يبارك الرب في هذا العمل، ولا في القائمين به، حتى وإن تمخَّض في بعض الأحيان عن خلاص نفس أو أكثر، فهذا ليس دليلاً على مصادقة الله، بل دليل على صلاحه.
لا أعرف شخصًا له قلب وعواطف المسيح لا يحبّ الكرازة بالإنجيل. ولا أعرف دافعًا صحيحًا للكرازة سوى امتلاك قلب وعواطف المسيح
- كل من لا يكرز هو غير متمثِّل بالمسيح، لكن ليس كل من يكرز متمثلاً بالمسيح. فمن قول الرسول في 2كورنثوس4: 5 يمكننا أن نستنتج أن هناك من كرزوا لكنهم للأسف كانوا يكرزون بأنفسهم!! ويخبرنا أيضًا أن هناك من كرزوا، ولم يكرزوا بأنفسهم، بل بالمسيح، لكن للأسف الشديد كرزوا بالمسيح عن حسد وخصام وتحزب (في1: 15)!!
- من لا يحب الخطاة ويسعى لخلاصهم لم يعرف المسيح الحقيقي، إذ كيف لا يحبهم وفي نفس الوقت يدّعي أنه يمتلك نفس نوعية حياة المحب للعشارين والخطاة؟ هذا الذي قَبِلَ الخطاة ورحَّب بهم وجلس بينهم بكل لطف وأكل معهم، هذا الذي تعب في الوصول لامرأة خاطئة حتى أعياه السفر. هذا الذي بكى على أورشليم لأنها لم تقبَل الخلاص. لذلك أعتقد أن بعضًا من إخوتنا الذين لهم تحفّظات على الفرص الكرازية إنما يتحفظون على أسلوب الفرص الكرازية، وليس على الكرازة نفسها، وإلا لكانوا غير مؤمنين بالمرة.
- سمعت البعض يقول بالفم أنه ليس ضد الكرازة، لكن الواقع يقول أنه ليس معها! ومنهم من تمضي عليه السنون دون أن يكلِّم نفسًا واحدة عن المسيح المخلِّص، وإذا حدث يكون كمن يلقي نفسًا بالأحجار وليس كمن يقدم ماءً لعطشان.
- إن التساؤل من جهة جدوى الفرص الكرازية، هو في حدِّ ذاته حسن إن كان بنيّة مراجعة العمل لاكتشاف موقع الخطإ وعلاجه. وأنا لا أنكر أن هناك أخطاء تحدث في بعض الفرص الكرازية، لكن السؤال أين الأساقفة الذين يعالجون الأخطاء؟ وما هي الروح التي يتم بها العلاج؟
- كثيرون يرفضون الفرص الكرازية لا لشيء إلا لأنها تضعهم أمام شيء جديد لم يتعودوا عليه!!
- قد لاحظت أن بعضًا من الذين يتبنّون موقفًا مضادًا للفرص الكرازية، يريدون شيئًا واحدًا؛ ألا وهو منعها وليس علاج أخطائها. وسؤالي هو: هل عندهم أي اقتراح بديل به تتمكن الكنيسة المحلية من إتمام رسالتها من نحو النفوس المسكينة، وبه تستعرض قلب الله المحب لعالم هالك.
- بالطبع هي ظاهرة جيدة أن يكون هناك الرأي والرأي الآخر، فالحديد بالحديد يحدَّد، ونحن نصلح بعضنا البعض ونُقوِِّم أحدنا الآخر، ولا يوجد بيننا من هو كبير على الشطط أو الخطإ. لكن من جانب أخر أود أن كل من يعترض على شيء يراه خطأً، أن يقف ليسأل نفسه أولاً قبل أن يعترض: هل هذا الشيء خطأ لأنه ضد تعليم كتابي، أم لأنه ضد تقليد بشري اعتدناه؟
- كثيرًا ما يراودني هذا التساؤل: ظللت، لأكثر من عشرين سنة، لا أرى نفوسًا تخلص إلا في المؤتمرات ومن أولاد الإخوة؛ فهل ننقل كل الناس للمؤتمرات لكي يسمعوا البشارة فيخلصوا؟ وهل نحن لسنا مسؤولين سوى عن خلاص أولاد الإخوة؟
- في الدول المتحضرة يستطيع أي شخص أن يقف في أي شارع ويكرز. وتستطيع أي كنيسة محلية من كنائس الإخوة أن تؤجِّر قاعة في فندق أو في مصلحة حكومية أو في مدرسة كما كان يفعل بولس، لكي يُكرز فيها! فهل يدلّني أحد على مكان واحد كهذا في مصر من الممكن أن نفعل فيه هذا؟!
- كثيرا ما أتساءل: أليست الفرص الكرازية التي نجمع فيها الخطاة بمختلف الأشكال والألوان في قاعات اجتماعاتنا لكي نسمعهم بشارة الإنجيل المفرحة، هو استثمار جيد لتلك المباني التي تتكلف الملايين كل عام؟!
- لاحظت أن البعض يستاء أو ينزعج من تواجد أشكال غريبة وعجيبة في قاعة الاجتماع أثناء الفرص الكرازية، كأن يروا مثلا نساءً بدون احتشام، أو رجالاً بدون وقار؛ فيستاءون بشدة. وإني اتعجب من هذا وأتساءل: أليس هم هؤلاء بالضبط من نريدهم أن يسمعوا؟ لماذا لا نرحِّب بهم بكل حب حقيقي؟ ونظهر لهم غنى لطف المسيح؟ وألا يشير هذا التوجّه الغريب إلى أنه من الممكن أن نكون قد سقطنا في فخ تقديس المكان بسبب تأثّرنا بالأوساط التقليدية التي حولنا؟
إن عِشنا ككارزين فهذا سيكلِّفنا الكثير من حياة الصلاة والقداسة العملية بينما الفرص الكرازية قد لا تكلفنا شيئا من هذا القبيل.
- مع تقديري الكبير للفرص الكرازية التي تُقام بشكل صحيح، أخشى أن تكون عند البعض بديل عن الكنيسة الكارزة!! بمعنى أننا بدلاً من أن نكون كارزين في بيوتنا وأعمالنا، نريح ضمائرنا بأن نعقد فرصًا كرازية ونأتي بمبشِّر يكرز للناس!! وهذا بالطبع أسهل لأنه إن عِشنا ككارزين فهذا سيكلِّفنا الكثير من حياة الصلاة والقداسة العملية بينما الفرص الكرازية قد لا تكلفنا شيئا من هذا القبيل.
- لاحظت أن كثيرين من المهتمين بالفرص الكرازية ليس عندهم التوجه الكرازي عندما يحتكون بالناس في الشارع أو بين جيرانهم أو في أعمالهم أو حتى بين عائلاتهم!!
- لاحظت أن كثير من الشباب المتحمسين لهذه الفرص حماسهم ليس حماسًا روحيًا، حبًّا في الرب وفي النفوس، بقدر ماهو حماس للفرصة في حدِّ ذاتها، وجو النشاط الجميل الذي تثيره، وإتاحتها الفرصة لهم لممارسة وإطلاق مواهبهم!!! والدليل على هذا أنك تجده في الفرصة الكرازية، يوم الخميس مثلاً، يقف بكل نشاط يرحِّب بالقادمين، وهو يلبس زيًّا جميلاً وأنيقًا ويعلِّق ”بادج“ على صدره، وعلى وجهه ابتسامة كبيرة تُسعد النفوس القادمة؛ لكن العجيب أنه في يوم الجمعة التالي مباشرة للفرصة الكرازية إذا جلس إلى جواره في اجتماع درس الكتاب شخص غريب فلن يجد على وجهه تلك الابتسامة الجميلة، لأنها ابتسامة يوم الخميس فقط!! ولن تجده يهتم بأن يتعرف على هذا الغريب ليوصِّل إليه بشارة الإنجيل، لأن هذا عمل يوم الخميس!! والخطأ ليس خطأه بل خطأ هذا الغريب لأنه أتى يوم الجمعة، وهو ليس يوم كرازي، وبالتالي لا يتبع صاحبنا!!! والأدهى من هذا كله أنك قد لا تجد هذا الشباب بالمرة في اجتماع درس الكتاب، وكأنهم عُمّال كرازة وليسوا إخوة كارزين!!
- في العديد من المرات لاحظت أن الفرصة الكرازية كانت عبارة عن حفلة ترنيم من مرنم صوته جميل، لا تجمع الخطاة، بل تجمع معتادي حضور الكنائس من جميع الطوائف.
- لاحظت أننا كثيرا ما نفرح، بصورة مبالغ فيها، عندما يكثر عدد الحاضرين لهذه الفرص، وبالطبع هو أمر يفرح، لكن أرجو أن لا ننسى أننا نعيش زمن صحوة دينية، كما ينبغي أن لا ننسى أن الناس اليوم، وبسبب مختلف الضغوط، تبحث عن أي شيء يسلّيها لتخرج من بيوتها في المساء؛ أين تذهب هذا المساء؟ ولا سيما أن ظهور بعض المرنمين وبعض المبشرين في القنوات الفضائية يستثير الناس البسطاء لمجرد رؤيتهم في الواقع وليس لسماع كلمة الله.
- على قدر فهمي نحن لا ندعو الخطاة لكي يسبحوا الرب، وبالتالي فدور الترنيم في الفرص الكرازية ليس أكثر من تهيئة هذه النفوس ببعض الترانيم التبشيرية، والتي أيضًا قد تظلّ عالقة في أذهانهم بعد مغادرة المكان. وبالتالي فإني أفهم أن دور الموسيقى في هذه الفرصة، إن كان هناك احتياج له، لا يتعدى أن يكون آلة موسيقية واحدة تعزف بهدوء، الغرض منها هو تنظيم اللحن في وجود عدد كبير من الناس لا يعرفون من الأصل مسألة الترنيم. لكنني، للأسف الشديد، قد لاحظت أن الأمر قد وصل في بعض الأحيان إلى أن تكون كأنك تجلس في الأوبرا لتستمتع بغناء سوليست مشهور يصاحبه أوركسترا شهير!! ولست تجلس في محضر الله لتستمع لصوت الروح القدس مبكِّتًا على الخطية ومناديًا بحق الإنجيل. وفي أحيان أخرى تصبح المسألة لا محضر الله، ولا حتى أوبرا وأوركسترا؛ لكن مجرد حفل بلدي تنقصه رقصة تحطيب.
- لاحظت أن بعضًا من القائمين على الفرص الكرازية، لا يهتمون بالكنيسة، لا في اجتماعاتها ولا في تدبيرها ولا في رسالتها! بل وأحيانًا يوجد بينهم من يتبنى توجّهًا مضادًا لها!!!
- من يتبنى الفرص الكرازية في معظم المرات هم الشباب وليس الشيوخ، وهذا يرجع، من وجهة نظري، إلى أن الكثيرين من جيل الشيوخ الحالي لم يُزرع فيه مبكِّرًا فكر التوجُّه الكرازي وحب النفوس، والذي كان عميقًا في نفوس الإخوة الأوائل، كما نفهم من التاريخ.
- ”الكرازة تعطِّل العبادة“؛ عبارة سمعتها من البعض! أعتقد أن العبادة تشمل الكرازة، إن فهمنا العبادة فهمًا صحيحًا. أليست الكرازة بالإنجيل إشباع لقلب الآب بعمل مشيئته؟ أ لم يقٌل عنها المسيح إنها طعامه الآخر الذي يأكله والذي لا يعرفه التلاميذ؟ لماذا لا يشارك هؤلاء الإخوة في الترحيب بالنفوس ومحاولة الحديث معهم وزيارتهم والصلاة من أجلهم؟ وهل اقتصرت عبادة الرب على 30 دقيقة من الترنيم والشكر كل يوم؟
- من المؤسف أن لا تكون القوة العاملة في جذب النفوس البعيدة لحضور الفرصة الكرازية هي قوة الصلاة والاجتهاد في دعوتهم، لكن قوة جاذبية اسم مرنم مشهور! ويخجلني أنني سمعت هذه العبارة من بعض القائمين على ترتيب الفرص الكرازية: ”ندعو المرنم الفلاني لأن اسمه بيجذب الناس“! فيا للعار، وكأنّ المسألة حفلة تعتمد على اسم مطرب!
- من المؤسف أن لا تكون القوة المؤثِّرة على الحاضرين في الاجتماع هي قوة الروح القدس الذي ينخس القلوب بكلمة الله الحية والفعالة، أويجذبها بروعة بشارة الإنجيل وحلاوتها وبساطتها، لكن تكون من خلال الصوت والضوء واللحن والصورة أو ما يمكنني تسميته ”التكنوتبشير“!
أكتفي بهذا وآتي إلى الأسئلة التي طرحتها في البداية:
هل الكرازة مسؤولية الكنيسة؟
بلا شك هو أمر عجيب أن أطرح هذا السؤال، لأنك من الممكن أن تجيبني بسرعة وتقول: عجبي! إن لم تكن مسؤولية الكنيسة، فمن سيكون المسؤول عن الكرازة؟!! هل ملائكة السماء؟!!
لكن مهلاً، عزيزي القارئ، فقد لا تجد من يقول لك صراحة إن الكنيسة ليست مسؤولة عن الكرازة، وإن كان البعض لا يتورّع أن يقولها، لكن الواقع العملي الذي نعيشه ككنيسة يؤكد أننا ليس عندنا أدنى توجُّه نحو الكرازة، بل وأحيانا للأسف نقاومها!! لذلك أراه من اللازم طرح السؤال وتقديم الجواب مدعومًا ببعض الأدلة الكتابية، وأضعه أمام ضمائرنا ككنائس، لعله يذكِّرنا بمسؤوليتنا، فنقوم ونعمل ولا نكون فيما بعد عارًا.
أولاً: الكنيسة امتداد للمسيح
إن أسمى ما يميّز الكنيسة عن بقية مؤمني كل التدابير أنها امتداد للمسيح! فهو حَبّة الحنطة التي وقعت في الأرض وماتت، لكنها ماتت لهذا الغرض الكريم: أن تأتي بثمر كثير، ثمر من نفس جنسها، يحمل نفس نوعية حياتها. فالله أحيانا مع المسيح، أي بنفس نوعية حياته؛ فصرنا نورًا للعالم لنكمل رسالته هو الذي كان نورًا للعالم في فترة وجوده على الأرض. لهذا يقول الرسول يوحنا:«أَيْضًا وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ، مَا هُوَ حَقٌّ فِيهِ وَفِيكُمْ، أَنَّ الظُّلْمَةَ قَدْ مَضَتْ، وَالنُّورَ الْحَقِيقِيَّ الآنَ يُضِيءُ» (1يو2: 8). أي أن الحق الذي أعلنه الله في المسيح عندما كان هنا على الأرض، يعلنه الله الآن من خلال الكنيسة! فيه وفيكم!! يا للنعمة! ثم يضيف ما هو أعجب، إذ يخبرنا أن «النور الحقيقي»، هذا اللقب الذي لا يُطلق إلا على المسيح، الآن يضيء؟! كيف ”الآن“ وقد صعد المسيح إلى السماء؟ إنه بلا شك من خلال الكنيسة! فيا للمجد!!
إن أسمى ما يميّز الكنيسة عن بقية مؤمني كل التدابير أنها
امتداد للمسيح!
وعليه، فمن المتوقع، والمفروض، والطبيعي، أن تعمل الكنيسة الآن ما كان يعمله المسيح. أي أن تكرز كما كان المسيح يكرز، وتحب النفوس كما كان المسيح يحب. وهل يدلني أحد على كارز اجتهد وتعب وأحب مثل المسيح؟ وهل هناك من احتمل تعيير الخطاة بسبب محبته للنفوس مثلما احتمل المسيح؟ وهل هناك من حزن وبكى على النفوس مثلما بكى المسيح؟ وهل هناك مَن بَشَّر المساكين في كل الأماكن مثلما بَشَّر المسيح؟ فكيف تدّعي الكنيسة أنها امتداده بينما هي لا تكرز كما كان يكرز هو؟!
ثانيًا: الكنيسة مُرسَلة من المسيح
عندما جاء الرب المُقام إلى العلية المغلقة الأبواب ووقف وسط التلاميذ، صورة للرب الحاضر وسط الكنيسة المجتمعة باسمه الآن، نفخ وقال لهم «اقبلوا الروح القدس»؛ ومعظمنا يعرف أنه بهذا النفخة كان كآدم الأخير، الروح المحيي، يعطي نفس نوعية حياته، التي اجتازت الموت وانتصرت عليه، للمجتمعين في العلية، وهؤلاء لم يكونوا الرسل فقط بل التلاميذ بصفة عامة ولذا كانوا يمثلون الكنيسة. وفي هذه المناسبة وحدها منح الرب السلطان للكنيسة الذي سيستمر معها إلى يوم مجيئه. لكن الجميل والمثير أيضًا أن الرب، قبل أن يمنحهم نفس نوعية حياته، وقبل أن يمنحهم سلطانه، أوضح الغرض من الحياة والسلطان ألا وهو أنهم مرسلون منه إلى العالم كما كان هو مرسل من الأب للعالم: «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضًا: ”سلاَمٌ لَكُمْ. كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا“. وَلَمَّا قَالَ هَذَا نَفَخَ وَقَالَ لَهُمُ: ”ﭐقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ. مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ“» (يو20: 21-23).
وماذا كان غرض إرسالية المسيح للعالم سوى استعراض قلب الآب المحب أمام عالم هالك لكي يخلص به العالم؟ وماذا يكون غرض الكنيسة اليوم سوى استعراض ذات القلب لتحقيق ذات الخلاص؟
ثالثًا: الكنيسة كعمود الحق وقاعدته
وما هو هذا الحق الذي صارت الكنيسة عموده وقاعدته؟ بالطبع من الممكن الإجابة بأن المقصود بالحق هو كل الحق المسيحي بدون تحديد؛ وهذه إجابة صحيحة. لكن إذا أردنا إجابة أكثر تحديدًا، فلن يصعب علينا بالعودة فقط للأصحاحين السابقين من نفس الرسالة، رسالة تيموثاوس الأولى، والتي هي رسالة بيت الله؛ ففي 2: 3-7 نقرأ الآتي:
«لأَنَّ هَذَا حَسَنٌ وَمَقْبُولٌ لَدَى مُخَلِّصِنَا اللهِ، الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ. لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ، الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ الْجَمِيعِ، الشَّهَادَةُ فِي أَوْقَاتِهَا الْخَاصَّةِ، الَّتِي جُعِلْتُ أَنَا لَهَا كَارِزًا وَرَسُولاً».
أعتقد أن هذه العبارات بما تحتويه من مفردات مثل ”مخلصنا“ و”يخلصون“ و”يُقبِلون“ و”وسيط“ و”فدية“ و”الشهادة“ و”الكرازة“؛ تصرخ فينا بأعلى صوت لتُنهضنا للكرازة، كما أنها توضِّح أن الحق الذي ترفعه الكنيسة هو الشهادة لعالم هالك بأنه يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس، هو الإنسان يسوع المسيح. كما أنها تعلن للعالم أن هذا الوسيط قد بذل نفسه فدية لأجل الجميع. وفي الأصحاح الأول من الرسالة يؤكِّد ذات الفكر بعبارة وجيزة وبديعة إذ يقول: «صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُولٍ: أَنَّ الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا» (1تي1: 15).
رابعًا: صورة رمزية لتأثر الكنيسة بالمسيح
في يوحنا 1: 35-42 اتفق كل شراح الكتاب الأفاضل بيننا، على أن هذه الحادثة جزء من مقطع تدبيري رائع، يصوِّر الاجتماع إلى اسم الرب، حيث الرب يسوع في الوسط وحوله اثنان. لكن الجميل، الذي أحيانًا نهمله ولا نتوقف عنده، هو ما حدث بعد هذا الاجتماع؛ فقد خرجا من محضره ليأتيا باثنين أخرين! وما أجمل التعبير الذي قيل عن أندراوس، «هذا وجد أولاً أخاه سمعان، فقال له: قد وجدنا مسيا؛ فجاء به إلى يسوع»، وقوله:«أولاً» يوحي أنه فعل هذا قبل يوحنا رفيقه الذي، على الأرجح، خرج أيضًا ليأتي بأخيه يعقوب ليسوع!! إذًا نحن أمام اجتماع حضره اثنان، خرجا ليربحا اثنين آخرين!!!
خامسًا: الكنيسة والإرسالية العظمى
كان أخر تكليف كلَّف به الرب أحباءه، قبل أن يترك الأرض ويرتفع للسماء، هو ما يسمى ”الإرسالية العظمى“؛ حيث قال: «اذهبوا إلى العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها» (مر16: 15).
كان أخر تكليف كلَّف به الرب أحباءه، قبل أن يترك الأرض ويرتفع للسماء، هو ما يسمى ”الإرسالية العظمى“
وهنا لدينا بعض الأدلة التي تؤكد أن هذه الإرسالية لم تكن قاصرة على الرسل الأحد عشر، بل كانت لكل الكنيسة في كل العصور؛ أذكر منها أوضحها:
- ليس من المنطقي أن يطلب الرب من الأحد عشر أن يكرزوا لكل الخليقة، لا من حيث المكان؛ فهم لا يستطيعوا أن يصلوا لكل الخليقة، ولا من حيث الزمان؛ فهم لن يعيشوا في كل العصور.
- إنهم أطاعوا الوصية فخرجوا وكرزوا في كل مكان والرب يعمل معهم ويثبت الكلام بالآيات التابعة؛ تلك الآيات التي نفهم من بقية الجزء أنها لم تُعطَ لتتبع الرسل، بل المؤمنين. إذًا، الذين خرجوا وكرزوا لم يكونوا الرسل فقط بل كل المؤمنين.
- هؤلاء المجتمعون، كان بعضهم لم يزل يشكّ، ووبَّخ الرب عدم إيمانهم، ويقينًا هؤلاء ليسوا الأحد عشر؛ لأن شكوك الأحد عشر كان الرب قد سبق وعالجها بعد القيامة مباشرة، أي من قبل شهر تقريبًا من هذا التاريخ.
سادسًا: الكنيسة في سفر الأعمال كنيسة كارزة
ولا أعتقد أن هذا يحتاج مني لكلام أو برهان فهو جلي للعيان لكل من يقرأ سفر الأعمال. ويكفي أن أذكر مجرد بعض الآيات:
«فَالَّذِينَ تَشَتَّتُوا جَالُوا مُبَشِّرِينَ بِالْكَلِمَة» (8: 4).
«أَمَّا الَّذِينَ تَشَتَّتُوا مِنْ جَرَّاءِ الضِّيقِ الَّذِي حَصَلَ بِسَبَبِ إِسْتِفَانُوسَ فَاجْتَازُوا إِلَى فِينِيقِيَةَ وَقُبْرُسَ وَأَنْطَاكِيَةَ وَهُمْ لاَ يُكَلِّمُونَ أَحَدًا بِالْكَلِمَةِ إِلاَّ الْيَهُودَ فَقَطْ. وَلَكِنْ كَانَ مِنْهُمْ قَوْمٌ، وَهُمْ رِجَالٌ قُبْرُسِيُّونَ وَقَيْرَوَانِيُّونَ، الَّذِينَ لَمَّا دَخَلُوا أَنْطَاكِيَةَ كَانُوا يُخَاطِبُونَ الْيُونَانِيِّينَ مُبَشِّرِينَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ. وَكَانَتْ يَدُ الرَّبِّ مَعَهُمْ فَآمَنَ عَدَدٌ كَثِيرٌ وَرَجَعُوا إِلَى الرَّبِّ» (11: 19- 21).
سابعًا: الكنيسة القدوة والكنيسة المثلى
هناك كنيسة واحدة، من كل كنائس العهد الجديد، قيل عنهم إنهم صاروا قدوة لجميع الذين يؤمنون، هي كنيسة تسالونيكي؛ فهل تعرف لماذا؟ اقرأ العبارة التالية لتعرف الجواب: «حَتَّى صِرْتُمْ قُدْوَةً لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ فِي مَكِدُونِيَّةَ وَفِي أَخَائِيَةَ. لأَنَّهُ مِنْ قِبَلِكُمْ قَدْ أُذِيعَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ» (1تس1: 7، 8).
وهناك كنيسة واحدة، اتفق معظم الشراح على أنها كنيسة مثالية؛ ألا وهي كنيسة فيلبي، ويعتبرها البعض نموذجًا للنضوج الروحي. وعندما نقرأ الرسالة، سنجد كيف كانت هذه الكنيسة المثالية تقدِّر الإنجيل، وتشجِّع على نشر الإنجيل، بل وتجاهد برجالها ونسائها لأجل الإنجيل.
هذه بعض، وليس كل، الأدلة الكتابية على أن الرب يريد من شعبه أن يشعروا بمشاعره نحو الخطاة، وأن يعملوا عمله. وصحيح أن الرب أعطى البعض منا موهبة المبشِّر، لكنني لست أحتاج لموهبة المبشر لكي أحب الخطاة وأعمل كل ما في وسعي بكل الوسائل لخلاص نفوسهم.
هل نحن كنيسة كارزة؟
بعض من إخوتنا الذين لهم تحفظات على الفرص الكرازية يقولون إننا جماعة أو كنيسة كارزة بدون هذه الفرص!! وبعض من إخوتنا الذين يشجّعون الفرص الكرازية يقولون إننا لن نكون جماعة أو كنيسة كارزة بدون هذه الفرص!!
لكنني شخصيًا أعتقد أننا بدونها، وأيضًا بها، لسنا بَعدُ كنيسة كارزة!
نحن، من وجهة نظري، لم نكرز بعد كما ينبغي أن نكرز، ولم يزل أمامنا الكثير جدًا لكي نكون كنيسة كارزة. نحن، إن شئنا الدقة، لم نزل نلعب كرازة، بينما الكتاب يريدنا أن نحارب ونحامي ونجاهد بل ونموت لأجل الإنجيل!
أنظر إلى اجتماعاتنا وأخبرني أين الترحيب بالخطاة إن جاءوا؟ أين اعتبار وضع العامي أو غير المؤمن، الذي أوصى به الرسول بولس، في اهتماماتنا، سواء أثناء الاجتماع، كما أوصى الرسول، أو حتى - على الأقل - بعد الاجتماع للترحيب به وتوصيل بشارة الإنجيل له؟
وانظر إلى مطبوعاتنا؛ أين التوجّه الكرازي؟ وأين المطبوعات الكرازية التي تخاطب غير المؤمنين من كل الخلفيات؟ إن نسبتها بين مطبوعاتنا تقترب من الصفر!!
انظر إلى الأساقفة بيننا، وأخبرني أين تثقّلهم بالخطاة، بل وأين حب الخطاة في حياتهم؟
انظر إلى شبابنا، حتى الذي يهتم بإقامة فرص كرازية، لكن إذا ركب تاكسي أو جلس بجوار أحد في القطار أو جمعته الظروف بعميل أو بزميل لا يشعر بأي مسؤولية لأن يكرز؛ فحماسه للكرازة لا ياتي إلا في النهضات!
انظر إلى عائلاتنا، وأين اهتمامهم بدعوة عائلة من جيرانهم أو حتى من أقربائهم ليوصلوا لهم بشارة الإنجيل؟
أين الشعور بالمسؤولية الروحية، أو حتى الأخلاقية، تجاه أقربائنا وجيراننا؟ أين نحن من طاعة قول السيد: «اذهب إلى بيتك وإلى أهلك وأخبرهم كم صنع بك الرب ورحمك» (مر 5: 19)؟ أين مشاعرنا ودموعنا لأجل النفوس، ولا أقول من مشاعر السيد، بل حتى من مشاعر بولس الذي يقول: «إن لي حزنًا عظيمًا ووجعًا في قلبي لا ينقطع... لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد» (رو9: 2، 3)؟!
قد نكون صرنا مهتمين، بعض الشيء، بالكرازة؛ لكنني لا أستطيع أبدًا أن أقول إننا كنيسة كارزة. ولن نكون كنيسة كارزة بحق إلا عندما تلتهب قلوبنا بحب النفوس، ونصل إلى زرع هذا التوجّه في كل الأفراد المشتركين على مائدة الرب، بل وفي أولادنا وبناتنا؛ فنتحوَّل إلى أشخاص كارزين في البيت وبين الجيران وفي العمل. ولن نصبح كنيسة كارزة إلا إذا فهمنا الإنجيل الذي بين أيدينا؛ فنعرف بماذا نكرز ولماذا نكرز. ولن نصبح كنيسة كارزة إلا إذا كرزنا لكل إنسان من أي خلفية ومن أي ثقافة. أي أننا لن نكون كنيسة كارزة إلا عندما نتمكن من رفع هذا الشعار والعيشة به فعلا: ”الكل يكرز بكل الإنجيل لكل إنسان“.
أما الآن؛ فأين نحن من هذا؟
أننا لن نكون كنيسة كارزة
إلا عندما نتمكن
من رفع هذا
الشعار والعيشة به فعلاً:
”الكل يكرز بكل الإنجيل لكل إنسان“
ما هو الشكل الصحيح للفرص الكرازية؟
وفي البداية أجيب عن هذا السؤال بسؤال أخر فأقول:
ما هو المرجع بخصوص هذا الأمر، والذي بناء عليه يمكننا نقول إن هذا الشكل صحيح أو خطأ؟
إن كان الكتاب هو مرجعنا في كل شيء، فعلى قدر علمي أقول إن الكتاب المقدس أمرنا أن نكرز، لكنه لم يحدِّد لنا شكلاً ثابتًا للكرازة. وعندما لا يحدد الكتاب، أعتقد أنه من الخطإ أن نتطوع نحن ونحدِّد. لكن من جانب أخر فالكتاب، وإن كان لم يحدِّد لنا شكلاً محدَّدًا، إلا أنه لم يتركنا بدون نور يوجِّهنا لما يسرّ الله وما لا يسره، لما يمجّد المسيح وما لا يمجده، لما يليق وما لا يليق. لقد أعطانا الإطار العام الذي في داخله نتحرك؛ فقد علّمنا، على سبيل المثال، أنه في خدمة الله لا نتكل على القوة الإنسانية البشرية بل على قوة يمنحها الله (1بط4: 11)، وقد علمنا أن لا تكون كرازتنا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع بل ببرهان الروح والقوة (1كو2: 4)، وقد علمنا أنه لا نجاح لعمل بدون انسحاق القلب واتضاعه وانحناء الركب ورفع الصلاة لأجل جميع الناس لكي يخلصوا (1تي2: 1؛ أف6: 19). لقد أعطانا الكتاب عشرات العلامات على الطريق، تحكمنا في خدمتنا بصفة عامة وفي الكرازة بصفة خاصة. لكن هذا يتطلب الحسّ الروحي والتمييز العميق؛ ولذا ينبغي أن لا يُترك الأمر لمجموعة من الشباب صغار السن، بل ينبغي أن يكون عمل الأساقفة، أو على الأقل الروحيين الناضجين وسط الجماعة. وإذا لم يتوفر مثل هؤلاء؛ فيا ليت الشباب لا يعتدّون بأنفسهم، بل يكونوا متضعين يقبلون النصح والإرشاد من المرشدين الروحيين ويتجمّلوا بالخضوع للشيوخ.
واسمحوا لي هنا أن أشير إلى واحدة من الأخطاء الساذجة المضحكة المبكية التي تحدث على مستوى العالم. فمنذ منتصف القرن الماضي ولمدة نصف قرن تقريبًا أقام الله مبشرًا عظيمًا هو ”بللي جراهام“؛ وكل من استمع لهذا المبشر يشهد أن قوة الروح القدس كانت واضحة للغاية، فالكلام في غاية البساطة بدون صراخ، ولا حتى انفعال كبير، لكن الكلمات كانت تهوى كمطرقة تحطّم الصخر وتجعل القلوب تذوب والعيون تذرف الدموع. ولا شك أن الرب رتّب لبللي جراهام مؤسسة ضخمة لتعاونه على إتمام خدمته. لكن، لاحظ من فضلك، أن الله أقام بللي جراهام أولاً ومسحه لهذه الخدمة، ثم رتّب له بعد ذلك ما يعينه على إتمامها. أقول هذا لأن بعض الهيئات، وقد انبهرت بظاهرة بللي جراهام، قرّرت أن تنسج على منوالها؛ فأقامت أولاً المؤسسة التي تعيّن، ثم بحثت عن المبشِّر الذي تعينه. أو بمعنى أخر تصوّروا أن ما أنجح بللي جراهام هو دقة التنظيم وعظمة الإمكانيات التي تؤجر القاعات والاستادات. هؤلاء بسذاجة جهلوا أن النجاح الذي حقّقه بللي كان لأن الله مسحه لهذه الخدمة، وليس بسبب قوة المؤسسة التي تعينه وحسن تنظيمها.
وهنا أذكر قولاً رائعًا لأحد المعلمين الموهوبين هو ”رافي زاكراياس“ في حديثه لآلاف الخدام الكارزين المجتمعين في أحد المؤتمرات قال: the person not the method وكان يقصد أن ما يهم في الكرازة هو الشخص المملوء بالروح القدس وليس الشكل الذي به سيكرز.
ولذلك فإذا رأت الكنيسة أن واحدة من قنوات الكرازة هي الفرص الكرازية؛ فحسنًا تفعل، لكن بشرط أن لا تتجاهل تلك المبادئ والمفاهيم الأساسية التي يعلّمها لنا الكتاب بخصوص الخدمة. كما ينبغي أن تشترك كل الكنيسة في العمل؛ فالكلّ يصلي، والكل يدعو الخطاة، والكل يعمل. كما ينبغي أن تكون الفرصة الكرازية بداية لعمل الكرازي وليس نهاية. فبعدها يبدأ العمل الحقيقي، إذ أنها تعطينا الفرصة للتعرّف على أناس جُدد؛ فالشيخ يتعرف على شيخ، والمرأة تتعرف على امرأة، والشابة تتعرف على شابة، والشاب يتعرف على شاب، والعائلة تتعرف على عائلة، ويبدأ تقسيم العمل لمتابعة النفوس، لئلا يخطف إبليس الكلمة، أو لئلا تكون قلوبهم بلا تربة أو قد تكون بذار الكلمة تنمو وسط الأشواك؛ كل هذا يحتاج لمتابعة، ولو لفترة. لكن للأسف لاحظت في بعض الفرص أن كل ما يفعله الإخوة بعد الفرصة هو الاحتفال بنهايتها وتقديم الشكر للرب على نجاحها ثم تناول الشاي والكيك معًا وينتهي الأمر حتى لقاء آخر مع فرصة كرازية جديدة!!
ينبغي أن تشترك كل الكنيسة في العمل؛ فالكلّ يصلي، والكل يدعو الخطاة، والكل يعمل. كما ينبغي أن تكون الفرصة الكرازية بداية لعمل الكرازي وليس نهاية. فبعدها يبدأ العمل الحقيقي.
كذلك علينا أن نضع الترنيم في علاقته الصحيحة بالكرازة، فالخطاة لم يأتوا ليذبحوا لله حمدًا، لكن للاستماع لكلمة الله؛ وعليه فمرنم واحد يضع كلمات تبشيرية ملحنة في أفواه الناس، يقدِّمها بقوة الروح القدس هو كل المطلوب، وليس بالضرورة أن يحتاج للموسيقى، وإن احتاج إلى الموسيقى فآلة واحدة لضبط النغمة تكفي.