عدد رقم 3 لسنة 2011
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
التسامح لماذا تضربني!؟  

  «فَسَأَلَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ يَسُوعَ عَن ْتَلاَمِيذِهِ وَعَن ْتَعْلِيمِهِ.  أَجَابَهُ يَسُوعُ: أَنَا كَلَّمْتُ الْعَالَمَ عَلاَنِيَةً. أَنَاعَلَّمْتُ كُلَّ حِينٍ فِي الْمَجْمَعِ وَفِي الْهَيْكَلِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ الْيَهُودُ دَائِمًا.  وَفِي الْخَفَاءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ.  لِمَاذَا تَسْأَلُنِي أَنَا؟ اِسْأَلِ الَّذِينَ قَدْ سَمِعُوا مَاذَا كَلَّمْتُهُمْ.  هُوَذَا هؤُلاَءِ يَعْرِفُونَ مَاذَا قُلْتُ أَنَا».  وَلَمَّا قَالَ هذَا لَطَمَ يَسُوعَ وَاحِدٌ مِنَ الْخُدَّامِ كَانَ وَاقِفًا، قَائِلاً: «أَهكَذَا تُجَاوِبُ رَئِيسَ الْكَهَنَةِ؟» أَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيًّا فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ، وَإِنْ حَسَنًا فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟» (يو18: 19-23).

   يكثر الحديث عن هذه الآية التي قالها رب المجد يسوع في المحاكمة لعبد رئيس الكهنة الذي لطمه: «لماذا تضربني؟».  ويتخذها الناس ذريعة ويقولون أن كل ما يفعلونه هو بالاستناد عليها.  كما لو كانت هي الآية الوحيدة في الكتاب، وباقي الآيات ليس لها وجود.  ورغم أن المسيح لم يقل لمن نتف ذقنه "لماذا تنتفها"؟ ولم يقل لمن جلده بمنتهى الوحشية "لماذا تجلدني"؟ ولم يقل لمن جعله يحمل الصليب "لماذا تعذبني"؟ ولم يقل لمن دق المسامير في يديه ورجليه "لماذا تسمرني"؟ ولم يقل لمن بصق عليه وشتمه "لماذا تهينني"؟، فالكل يتذكر فقط قوله: «لماذا تضربني؟».  رغم أن المسيح نفسه قيل عنه أنه: «ظُلِمَ أَمَّا هُو َفَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ» (إش53: 7).

   وإن كان أحدٌ لم يفهم أو لم يُرد أن يفهم، فالمسيح تعرَّض للظلم وفي المقابل تذلل ولم يفتح فاه بالاعتراض، وكان كنعجة صامتة أمام جازيها.

   ولكن لماذا قال المسيح لعبد رئيس الكهنة: «لماذا تضربني»؟

   كان قانون المحاكمات اليهودية يقضي بضرب مَنْ يُجدِّف على وجهه، وبالتحديد على فمه إن جدَّف في وسط المحاكمة.  وهذا ما حدث لبولس الرسول إذ اعتبره رئيس الكهنة الفاسد أثناء محاكمته أنه قد جدَّف، «فَأَمَرَ حَنَانِيَّا رَئِيسُ الْكَهَنَةِ، الْوَاقِفِينَ عِنْدَهُ أَنْ يَضْرِبُوهُ عَلَى فَمِهِ» (أع23: 2)، وهو أيضًا ما حدث مع ميخا النبي أيام أخآب، «فَتَقَدَّمَ صِدْقِيَّا بْنُ كَنْعَنَةَ وَضَرَبَ مِيخَا عَلَى الْفَكّ ِوَقَالَ: مِنْ أَيْنَ عَبَرَ رُوحُ الرَّبِّ مِنِّي لِيُكَلِّمَكَ؟» (1مل22: 24).

   أما الرب يسوع فكان هو القاضي الأعلى لإسرائيل، القاضي المعصوم من الخطإ.  ولكن يقول عنه ميخا النبي بروح النبوة: «يَضْرِبُونَ قَاضِيَ إِسْرَائِيلَ بِقَضِيبٍ عَلَى خَدِّهِ» (مي5: 1).  فهذا معناه أن من ضربه كان يتهمه بالتجديف.  فلما ضرب عبد رئيس الكهنة المسيح على وجهه، لئلا يظن الحاضرون أنه همس بتجديف ما ولم يسمعوه، طلب المسيح من عبد رئيس الكهنة أن يتهمه علانية إن كان قد تكلَّم بشيء رديء.  فقال له: «إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيًّا فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ، وَإِنْ حَسَنًا فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟». 

   كان رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيون يأتون بشهود زور كثيرين لكي يشهدوا ضد المسيح ويلفقوا له تهمة تستحق الموت، ولكن لم تتفق شهادتهم.  وهذا ما سجله مرقس الإنجيلي قائلاً: «وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةً عَلَى يَسُوعَ لِيَقْتُلُوهُ، فَلَمْ يَجِدُوا.  لأَنَّ كَثِيرِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ زُورًا، وَلَمْ تَتَّفِقْ شَهَادَاتُهُمْ.  ثُمَّ قَامَ قَوْمٌ وَشَهِدُوا عَلَيْهِ زُورًا قَائِلِينَ: «نَحْنُ سَمِعْنَاهُ يَقُولُ: إِنِّي أَنْقُضُ هذَا الْهَيْكَلَ الْمَصْنُوعَ بِالأَيَادِي، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِي آخَرَ غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِأَيَادٍ.  وَلاَ بِهذَا كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ تَتَّفِقُ» (مر14: 55-59).  وكأن الرب يسوع كان يقول لعبد رئيس الكهنة ”أنتم تحاولون أن تحضروا شهودًا ضدي، هذه فرصتك، إن كنتُ تكلَّمتُ رديًّا فاشهد على الردي“.  فكان يريد أن يظهر للجميع أنه ”بلا خطية“ وأن ينفي تهمة التجديف، فهو الحمل الذي بلا عيب الذي سوف يرفع خطية العالم، وكان يؤكد للجميع أنه لم يفعل خطية ولا وجد في فمه غش.

   وقد حاول بعد ذلك رئيس الكهنة أن يُثبت تهمة تجديفية جديدة على الرب يسوع فََقَالَ لَهُ: «أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ؟» قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنْتَ قُلْتَ! وَأَيْضًا أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاءِ» (مت26: 63،64).

   وظن رئيس الكهنة أن هذا تجديفٌ، لكنه كان تأكيدًا على لاهوته، وظن أنه وجد ضالته المنشودة، «فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ حِينَئِذٍ ثِيَابَهُ قَائِلاً: قَدْجَدَّفَ! مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ هَا قَدْ سَمِعْتُمْ تَجْدِيفَهُ»! (مت26: 65).

   هل لاحظت يا قارئي العزيز عبارة «مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ»؟ فلم تكن المحكمة تُحضر شهودًا بهدف التحقق من الحقيقة والثبوت إليها، ولكن كانت تُحضر الشهود بغرض واحد، هو تلفيق تهمة التجديف.  هذا أيضًا يُثبت أنه حتى عبد رئيس الكهنة كان يحاول توجيه تهمة التجديف للرب يسوع.

   وإن تمعَّنا في باقي تعاليم المسيح سنجدها تتفق مع هذا الفكر، وسنجد أن المسيح علَّم وقال: «وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا» (مت 5: 39).  وهو تعليم واضح بعدم مقاومة الشر بالشر، بل إن تعرَّض المسيحي الحقيقي للَّطم، يصير مستعدًا لتلقي ضربة أخرى.  وبالطبع هذا الفكر يجد مقاومة ورفض من الإنسان الطبيعي، فلجأ كثيرون لتحريف معنى كلمات المسيح وتحويلها لمعنى آخر يُحرِّض على مقاومة ومواجهة الشر.  ولكن المسيح أكَّد بعدها مباشرة فقال: «وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا» (مت 5 : 40).  وهو هنا يعرض حالة شخص مظلوم وتم الاستيلاء على ثوبه ويطالبه لا أن يرفض بل أن يعطي الرداء أيضًا للظالم.

   ثم أضاف المسيح وقال: «وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ» (مت5: 41).   كان من حق الجندي الروماني، أن يُسخِّر اليهودي ليحمل له حمولة ما لمسافة ميل.  وكان هذا القانون نوعًا من الظلم، وهو الذي بمقتضاه سخَّر الجند الرومان سمعان القيرواني لحمل الصليب خلف يسوع (مت27: 32).  ورغم أنه قانونٌ ظالم، فقد طالب المسيح اليهودي أن يعطي للجندي الروماني من عنده ميلاً آخر. 

   ثم أكمل كلماته العظيمة التي لم يتحدث أحد مثلها وقال: «مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ.  سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ.  وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ ... لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيّ ُأَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ ذلِكَ؟ ... فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ» (مت5: 42-48).  ونفس هذا الفكر المتسامح قاله أيضًا الرسول بولس: «لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء ... فإن جاع عدوك فأطعمه، وإن عطش فاسقه ... لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير» (رو19:12 -21).  هذه أخلاق من امتلك صنف حياة المسيح.

   عزيزي القارئ، لماذا لا تعجبك هذه التعاليم؟ هل تعلم ما هي المشكلة؟ المشكلة أنك لست مؤمنًا حقيقيًا بالمسيح.  إن وقفت أنا تحت برج القاهرة وقلت لك أن تقفز من أعلى وأنا سوف أتلقفك، فأنت لن تقفز بكل تأكيد.  لماذا؟ لأن الأمر سوف يكلفك حياتك ... ليس هذا فقط لكن لأنك لا تؤمن بي أو بقدراتي.  على ذات القياس أنت لن تجازف وتُتمم تعاليم المسيح لأنك لا تؤمن بالمسيح أنه هو المسؤول عن نتائج تنفيذ هذه الوصايا. 

   إن كنت لا تحب تعاليم الرب يسوع فأنت لست مسيحيًا حقيقيًا.  فالمسيحية هي أن تحب وتتبع الرب يسوع المسيح الذي ترك لنا أروع مثال.  «الذي إذ شُتم لم يكن يشتم عوضًا، وإذ تألم لم يكن يُهدِّد بل كان يُسلِّم لمن يقضي بعدل» (1بط23:2).                                                                                                                                                                           

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com