عدد رقم 3 لسنة 2011
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الصراع بين الأشرار والأبرار (3)  

 رأينا فيما سبق كيف بدأ الصراع بين النور والظلمة، وبين أولاد الله وأولاد إبليس.  هذا الصراع الذي يستمر طالما الأرض مُسلَّمَة ليد الشِّرير، والعالم تحكمه المبادئ الشيطانية.  سيظل البار يعاني ويحتمل أحزانًا بالظلم، ويواجه الاضطهاد والكراهية، حتى تُرفع الخطية نهائيًا من العالم، وتمضي الظلمة إلى الأبد، ويأتي النهار الأبدي حيث يصنع الله كلَّ شيءٍ جديدًا.  ونحن بحسب وعده ننتظر السماوات الجديدة والأرض الجديدة التي يسكن فيها البر ويستريح، ولا يكون هناك ما يعكِّر أو يكدِّر.  حيث لا شيطان ولا أشرار، لا خطية ولا لعنة، لا حروب ولا خصومات، لا صراعات ولا مجاعات، لا أمراض ولا معاناة، لا بحر ولا اضطرابات، لا موت ولا حُزن، لا صراخ ولا دموع ولا وجع فيما بعد، لأن الأمور الأولى قد مضت.

وفي هذا العدد سنلقي الضوء على صورة أخرى من صور الصراع تُظهر مشاعر العداوة والكراهية مُمثَّلة في فرعون والمصريين نحو شعب الرب وهم في مصر.  ونحن نعلم أن هذا الشعب هم نسل إبراهيم خليل الله، وهم موضوع الوعد والبركة الذين منهم المسيح بحسب الجسد.

لقد بدأت القصة بالإعلان النبوي لأبرام في الرؤيا عندما ظهر له الرب وقال: «اعلم يقينًا أن نسلك سيكون غريبًا في أرض ليست لهم، ويُستَعبَدون لهم.  فيذلونهم أربع مئة سنة.  ثم الأُمَّة التي يُستَعبدون لها أنا أدينها، وبعد ذلك يخرجون بأملاكٍ جزيلةٍ ... وفي الجيل الرابع يرجعون إلى ههنا، لأن ذنب الأموريِّين ليس إلى الآن كاملاً» (تك 13:15- 16). 

لقد تتبع الشيطان الإعلان الإلهي عن المُخلِّص الذي سيأتي، وعرف أنه «نسل المرأة» (تك 15:3)، وبعد ذلك عرف أنه «نسل إبراهيم» (غل 16:3)؛ (تك 18:22)، الذي فيه ستتبارك جميع قبائل الأرض، فحاول إبادة هذا النسل ليمنع وصول المسيح المُخلِّص، وذلك عن طريق فرعون ملك مصر الذي احتال على هذا الشعب ليفنيهم.

نزل يعقوب وأولاده إلى مصر ليتغرَّب هناك بسبب الجوع، وكان يوسف مُتسلِّطًا على كل أرض مصر.  وعاش يعقوب وبنوه أيامًا هانئة في ظل يوسف.  وقد وعدهم بعد موت أبيه أنه سيعولهم وأولادهم.  ورغم أن الوفاء كان موجودًا لكن البقاء لم يكن موجودًا.  فقال يوسف لإخوته: «أنا أموت ولكن الله سيفتقدكم ويصعدكم من هذه الأرض» (تك 24:50).  فكان يرى أيامًا مظلمة قادمة عليهم.

لقد مات يوسف، ورَحَلَ فرعون الذي كان يعرف يوسف.  وقام ملكٌ جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف، استلم الحكم والسلطان في البلاد، فأساء إلى بني إسرائيل.  وقال لشعبه: «هوذا بنو إسرائيل شعبٌ أكثر وأعظم منا.  هلم نحتال لهم لئلا ينموا ...  فجعلوا عليهم رؤساء تسخير لكي يُذلوهم بأثقالهم فبنوا لفرعون مدينتي مخازن ... ولكن بحسبما أذلوهم هكذا نموا وامتدوا ... فاستعبد المصريون بني إسرائيل بعنف، ومرَّرُوا حياتهم بعبودية قاسية في الطين واللبن وفي كل عمل في الحقل.  كل عملهم الذي عملوه بواسطتهم عنفًا» (خر 9:1- 14).  ويأتي السؤال: مَنْ الذي أقام هذا الفرعون القاسي؟ بدون شك هو الله الذي «يعزل ملوكًا ويُنصِّب ملوكًا» (دا 21:2).
 وقد قال الرب صراحة لفرعون الذي عاصر خروج الشعب: «لأجل هذا أقمتك، لكي أُريك قوَّتي، ولكي يُخبَر باسمي في كل الأرض» (خر 16:9).  وفرعون صورة للشيطان الذي استلم الحُكم والسلطان بعد سقوط الإنسان.  وكانت المحاولة الأولى لفرعون ليُذل الشعب ويستعبدهم ليمنع نموهم وتكاثرهم، أن جعل عليهم رؤساء تسخير، فاستعبد المصريون بني إسرائيل ومرَّرُوا حياتهم بعنف.  يبدو بحسب الظاهر أن هذا الاضطهاد كان بلا سبب.  ويأتي السؤال: لماذا يترك الله الأشرار يسحقون ويُذلون شعبه الذين هم ”نسل إبراهيم“ ولهم المواعيد؟  وقد رأينا قبل ذلك كيف ذبح قايين هابيل بلا سبب، وكيف اضطهد إخوة يوسف أخاهم بلا سبب.
 والحقيقة أن الوضع هنا مع الشعب ليس بدون سبب.  إنها حكومة الله البارة التي تدين الشَّر دون محاباة، فإن ديَّان كل الأرض يصنع عدلاً.  وهل ننسى ما فعله إخوة يوسف بأخيهم وكيف أذلوه وضايقوه وباعوه عبدًا في مصر؟  «فالذي يزرعه الإنسان إيَّاه يحصد أيضًا» (غل 7:6)، لهذا كان لا بد أن يقاسوا الذل والعبودية في مصر.  وهل الأجيال التي تعاقبت كانت أفضل؟ كلا البتة.  لقد ارتبطوا بأوثان ورجاسات مصر (حز4:20 -9).  ومع أنهم ”نسل إبراهيم“ لكنهم لم يعملوا أعمال إبراهيم.  ولا شك أنه كان بينهم عائلات تقية مثل أبوي موسى، لكن أكثرية الشعب عاشوا في الشَّر ونسوا الرب إلههم ومواعيده، وبسبب شرورهم استحقوا المعاملات القضائية على يد فرعون والمصريين.   

ونحن اليوم نواجه ظروفًا مُماثلة كمسيحيين في مصر.  نعم لقد دُعي علينا اسم المسيح، ويوجد عدد كبير من المؤمنين والأتقياء الذين يحبون الرب في عدم فساد ولهم شهادة حسنة، لكن السواد الأعظم من المسيحيين لا يعرفون شيئًا عن المسيح ولا عن مبادئ كلمته.  بل يعيشون في ظلام الجهل والتعاليم الفاسدة والشرور الأدبية التي لا تليق بمَنْ دُعي عليهم اسم المسيح.  لقد تحوَّلت المسيحية عن المسيح ولم تعد شهادة تُشرِّفُهُ، فاستحقت المعاملات التأديبية.  ويجب أن نعرف أن إلهنا قدُّوس ولا يتهاون مع الشَّر، ويحكم بغير محاباة، وعنده أدوات في كل العصور يستخدمها لتأديب شعبه.  ووجود الأتقياء وسط الشعب، وإن جلب الرحمة لهم، لكنه لا يعفيهم من القضاء.  

وقد يتساءل البعض: ”وما ذنب الأتقياء حتى يعانوا الظلم والذل مع بقية الشعب الذي تحوَّل عن الرب“؟ إن الضغوط في كل العصور كانت سبب بركة وإنهاض ونمو للمؤمنين أكثر من أوقات الراحة التي تخلو من التدريب.  وهذه الضغوط ليست دون سبب في الشعب، وليست دون محبة مُشفقة في قلب الرب.  فالرب «يدين شعبه، وعلى عبيده يُشفق».  والسيِّد «لا يرفض إلى الأبد، فإنه ولو أحزن يرحم حسب كثرة مراحمه» (مرا 32:3).  وهو يُخرج من الآكل أُكلاً، ومن الشَّر خيرًا، ومن الأعداء دواءً.

كان العدو يهدف إلى فناء الشعب وعدم تكاثرهم ونموهم.  ولكن الذي حدث هو العكس، «فحسبما أذلوهم هكذا نموا وامتدوا» (خر 12:1).  وهذا ما حدث مع الكنيسة الأولى عندما تعرضت للاضطهاد.

إن غير المؤمنين في الشعب لا يرون سوى يد فرعون والمُسخِّرين المصريين، لكن الأتقياء يعرفون أن الذي يُحرك هؤلاء هو الرب الأمين من ناحية، والقدُّوس من ناحية أخرى.  فيتقبَّلون الضغوط ولا يتذمرون، ويخضعون تحت يد الله القوية، عالمين أن التأديب ليس إلى الأبد، ولا إلى الموت والفناء، وأنه بعد طول الليل لا بد نهار.  غير المؤمنين لا يرون سوى العصا التي تؤدب وتضرب، أما الأتقياء فيرون اليد التي تُمسك بالعصا.  وهذا ما يليق بنا نحن الآن كمسيحيين لنأخذ أمورنا من يد الرب، ونسقط في يده لأنه مراحمه كثيرة.

الأتقياء في يومهم كانوا يتقبَّلون موجات الضغط المتتابعة والثقيلة والقرارات الفرعونية التي تسحقهم، وتقضي بقتل أطفالهم الذكور في المهد بواسطة القابلتين (خر 16:1)، أو أن يلقوهم بأيدهم في النهر، ويا للقسوة ! (خر 22:1).  ولا نتجاهل المُخطَّط الشيطاني من وراء ذلك ليمنع وصول المسيح المُخلِّص الذي هو ”نسل إبراهيم“ الحقيقي، والعتيد أن يأتي من هذا الشعب.

كان رجاء الأتقياء يتمثل في قول الرب لأبرام: «وبعد ذلك يخرجون ... وفي الجيل الرابع يرجعون إلى ههنا» (تك 15).  وكان الموعد يقرب عندما وُلد موسى (الجيل الرابع)، والأتقياء تعلقوا بإله الأمانة الذي وعد، وتيقنوا أنهم سيخرجون من مصر ويرجعون إلى أرض كنعان.  كان هذا كل رجائهم والمُسكِّن لكل آلامهم.  لم يتوقعوا تحسنًا في الظروف أو تغييرًا كبيرًا في القرارات، ولم يطلبوا إسقاط النظام، ولا أن يرحل فرعون الطاغية، ولا صلُّوا أن يأتي فرعونٌ جديد أكثر لُطفًا يخفِّف معاناتهم.  لقد صرخوا من الذل فصعد صراخهم إلى الله الذي لا يمكن أن ينسى مواعيده أو يترك شعبه.  كانوا يشجعون بعضهم بعضًا بأن موعد الخروج قد اقترب.  وهذا ما يُجدد العزم والصبر والتعايش مع الألم والاضطهاد.  

وماذا عنا نحن كمسيحيين في هذه الأيام الأخيرة؟ ليتنا نفعل كما فعل الأتقياء في يومهم، وهم في محنة الاضطهاد، كالعُلَّيقة التي تتوقَّد بالنار وهي لا تحترق (خر 3).  فإذا سمح لنا بضيق أو اضطهاد، وإذا جرَّبنا ومحَّصنا كمحص الفضة، وجعل ضغطًا على متوننا أو ركَّب أُناسًا على رؤوسنا (مز 66)، علينا أن نعرف أن هذا الأمر من عنده (1مل 24:12)، وأن الرب بارٌ وحكيمٌ لا يُخطئ، وأن ما يحدث معنا ليس دون سبب فينا.  ومع ذلك فهو حنان ورحيم وطويل الروح وعاضد الساقطين ومقوِّم المُنحنين، ويرثي للضعفاء.  وهو حتمًا سيُحوِّل الشَّر للخير للذين يحبونه (رو 28:8).  إنه من خلال هذه المعاملات الضاغطة والمُذلة يهدف لخيرنا الروحي، فيباعد بيننا وبين الخطية، ويفطمنا عن العالم بشهواته، ويقرِّبنا أكثر منه، ويُنهضنا من نومنا، ويلمِّع الرجاء أمامنا فنحيا كغُرباء ونُزلاء على الأرض.

إن سنوات الذل في أرض مصر كانت من ناحية مدرسة للشعب لتأديبهم وتقويمهم، ومن ناحية أخرى كانت هذه السنين مطلوبة لاكتمال إثم الأموريين.  هذا ما أوضحه الرب لأبرام في قوله: «لأن ذنب الأموريين ليس إلى الآن كاملاً».  فالمُخطَّط الإلهي يسير بكل ثبات على محاور مختلفة، ولا يمكن للقصد الإلهي أن يتعطَّل أو يخيب.

أما الفصل الأخير فهو قول الرب لأبرام: «والأُمَّة التي يُسْتَعْبَدُون له أنا أدينها».  وهذا ما حدث مع فرعون والمصريين (خر7-14)، وما سيحدث قريبًا.  «إذ هو عادلٌ عند الرب أن الذين يضايقونكم يُجازيهم ضيقًا، وإياكم الذين تتضايقون راحة معنا عند استعلان الرب يسوع من السماء مع ملائكة قوَّته، في نار لهيب مُعطيًا نقمة للذين لا يعرفون الله والذين لا يطيعون إنجيل ربنا يسوع المسيح، الذين سيُعاقَبون بهلاك أبدي من وجه الرب ومن مجد قوَّته» (2تس 6:1-9).  إن جميع الذين ضايقونا هنا وأظهروا كل العداء نحو ابن الله، ستشملهم دينونة أدوم الرهيبة عند ظهور الرب بالمجد والقوة، فيدوسهم بغضبه ويطأهم بغيظه (إش 63). 

ليتنا لا نرفض أو نتذمر إذا وضعتنا أعمال العناية في ظروف مُذلة، بل لنخضع للسلاطين المرتبة من الله، ونأخذ أمورنا منه، ونتواضع تحت يده القوية فيرفعنا في حينه. 

ليتنا نشعر بالاحتياج أن نتوب ونعود إليه، نفحص طرقنا ونراجع حساباتنا، نعزل الآلهة الغريبة ونتطهَّر، نحترص أن نكون مرضيين عنده وشهادة مُشرِّفة له في بلادنا، فتكون هيبة إلهنا علينا.  و«إذا أرضت الرب طرق إنسان جعل أعداءه أيضًا يسالمونه» (أم 7:16).

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com