”الحقيقة: ظروفي صعبة، وقتي ضيق، المشاكل تكتنفني؛ والنتيجة أن حالتي الروحية ليست كما ينبغي. أعتقد أنه عندما تتحسن ظروفي ستتحسن حالتي الروحية بالتبعية!“.
طوال سنوات الخدمة والحكاوي الروحية، تسمع مثل هذه العبارة كثيرًا من رجال ونساء، من كبار وصغار. فتجد المتحدِّث متألّمًا لانطفاء الفرح الذي اختبره عند إيمانه، متأسفًا لانعدام فرص الخدمة، حزينًا لقلّة عدد الاجتماعات التي أصبح في إمكانه أن يحضرها. والوَهَقُ دائمًا مُلقىً على الظروف: فدوام العمل لا يسمح، والوضع العائلي خانق، والمشاكل تطارد، والإمكانيات محدودة.
وقد لا يفهم القائل أن الفرح السابق غالبًا كان مجرَّد فَورَة يُحدثها النهر عند منبعه، حيث لا يمكنك أن تمدّ يدك لتشرب، بينما بعد ذلك بمسافة تهدأ الفورة ليصبح النهر ”مياه راحة“ يُنتهل منها. ولا يدرك أن الخدمة التي يتحسر عليها ربما لم تكن خدمة في مفهوم الله، بل مجرد نشاط اجتماعي وصخب مرتبط بمرحلة سنّية، أو ناتج عن وقت فراغ. وغاب عنه أن حضور الاجتماعات على الأرجح كان قد تحوَّل إلى مجرد عادة تُشعر الضمير بالراحة، دون غلاوة حقيقية للوجود في محضر الرب، أو نفع يُرجى.
وبالنظر إلى ما تقدَّم، سنحاول - بنعمة الرب - أن نجيب على مثل السؤال التالي: هل الفترات المظلمة في حياة المؤمن هي عائق لحياته الروحية، أم إعداد له للروحانية الحقة ؟
يجلس ممحِّصًا
المزمور الذي يدعو المرنم فيه الجميع لأن يقولوا لله: «مَا أَهْيَبَ أَعْمَالَكَ!» ويدعوهم «هَلُمَّ انْظُرُوا أَعْمَالَ اللهِ!»، مستعرضًا روعة أعماله مع أحبائه، والذي يبدأ بالهتاف لله ويُختَتَم بتقديم الذبائح؛ يتوسطه القول «لأَنَّكَ جَرَّبْتَنَا يَا اللهُ. مَحَصْتَنَا (نقيتنا) كَمَحْصِ الْفِضَّةِ» (مزمور66؛ انظر أيضًا زكريا13: 9).
والتمحيص، هو مجموعة عمليات تُجرى على المعدن الغَفْل (الخام المستخرَج من الأرض بشوائبه) حتى ينتج منه المعدن النقي. وهذا يتم للمعادن ذات القيمة العالية. ويتم ذلك بإدخال المعدن إلى فرن مرتفع الحرارة، يبقى فيه حتى قُرب الانصهار، ثم يُسحب ليُلقى في مياه باردة، فتتكثف الشوائب على السطح، وهنا يأتي دور المبارد أو أحجار الجلخ للتخلص من طبقة الشوائب الخارجية. تُكرَّر الدورة من أولها للحصول على درجة نقاء أعلى.
المؤمن هو معدن خام استُخرج من بطن الأرض. وإذ يجتاز عملية التمحيص لتنقية الشوائب، والتي هي منتجات الجسد البغيضة، يظهر معدنه النفيس أكثر فأكثر، ويظهر فيه الروحي بجماله.
ويمكننا أن نعتبر أن المؤمن هو عبارة عن معدن خام استُخرج من بطن الأرض، أُقيم من بين الموتى. وإذ يجتاز عملية التمحيص لتنقية الشوائب، والتي هي منتجات الجسد البغيضة، يظهر معدنه النفيس أكثر فأكثر، ويظهر فيه الروحي بجماله. لذا «الآنَ - إِنْ كَانَ يَجِبُ (أي هناك ضرورة للتنقية) - تُحْزَنُونَ يَسِيرًا بِتَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ، لِكَيْ تَكُونَ تَزْكِيَةُ إِيمَانِكُمْ، وَهِيَ أَثْمَنُ مِنَ الذَّهَبِ الْفَانِي، مَعَ أَنَّهُ يُمْتَحَنُ بِالنَّارِ، تُوجَدُ لِلْمَدْحِ وَالْكَرَامَةِ وَالْمَجْدِ عِنْدَ اسْتِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (1بط1: 6، 7). وكما يقول الحكيم «أَزِلِ الزَّغَلَ مِنَ الْفِضَّةِ فَيَخْرُجَ إِنَاءٌ لِلصَّائِغِ» (أم25: 4).
ونيران التمحيص، حسب قول المرنم هنا، قد تكون «أَدْخَلْتَنَا إِلَى الشَّبَكَةِ (ظروف فاجأتنا دون توقّع ولا إمكانية للتصرف إزاءها). جَعَلْتَ ضَغْطًا عَلَى مُتُونِنَا (أمور مستمرة الضغط، كالفقر والظروف المعيشية الصعبة). رَكَّبْتَ أُنَاسًا عَلَى رُؤُوسِنَا (سوء معاملة وظلم وعدم تقدير الآخرين أو تفهمهم). دَخَلْنَا فِي النَّارِ وَالْمَاءِ (تقلب الظروف التي لا تبقى على حال مهما حاولنا الاعتياد عليها)». وغالبًا ما تأتي هذه الأمور مجتمعة، حتى يكاد المعدن يصرخ ألمًا.
لكن النتائج رائعة، فيقول المرنم «أَخْرَجْتَنَا إِلَى الْخِصْبِ»، والذي يتمثل في المظاهر التالية: «أَدْخُلُ إِلَى بَيْتِكَ... أُصْعِدُ لَكَ مُحْرَقَاتٍ»، بل وينطلق اللسان شاهدًا: «هَلُمَّ اسْمَعُوا فَأُخْبِرَكُمْ يَا كُلَّ الْخَائِفِينَ اللهَ بِمَا صَنَعَ لِنَفْسِي». والأهم أنه قد تنقى كثيرًا، فمع علمه بأنه «إِنْ رَاعَيْتُ إِثْمًا فِي قَلْبِي لاَ يَسْتَمِعُ لِيَ الرَّبُّ»، لكنه إذ تنقى بالتمحيص استطاع أن يقول «لَكِنْ قَدْ سَمِعَ اللهُ». وهكذا ابتدأ يهتف بمصدر ما هو فيه «مُبَارَكٌ اللهُ الَّذِي لَمْ يُبْعِدْ صَلاَتِي وَلاَ رَحْمَتَهُ عَنِّي».
وفي مشهد آخر نجد الرب «يَجْلِسُ مُمَحِّصًا وَمُنَقِّيًا لِلْفِضَّةِ» . والنتيجة «فَيُنَقِّي بَنِي لاَوِي وَيُصَفِّيهِمْ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِيَكُونُوا مُقَرِّبِينَ لِلرَّبِّ تَقْدِمَةً بِالْبِرِّ؛ فَتَكُونُ تَقْدِمَةُ يَهُوذَا وَأُورُشَلِيمَ مَرْضِيَّةً لِلرَّبِّ كَمَا فِي أَيَّامِ الْقِدَمِ» (ملا3: 3؛ انظر الاصحاحين السابقين للقرينة). إنه يريد تنقيتهم من شوائب عَلقت بهم من سنوات بُعد عن الرب بالقلب حتى لو أكرموه بالشفاه، ومن نتائج هجرهم لكلمته، ومن مغبَّة سلوكيات شريرة؛ ليأتي بهم إلى دائرة رضاه.
أنقل هنا عن قصة قرأتها من زمن بعيد، عن امرأة حدث أنها يومًا زارت صائغ يقوم بعملية تنقية الفضة هذه، والجزء المذكور في خلفيتها. فسألته عن كيف يعرف أنه وصل للمرحلة المطلوبة من التنقية. أجابها أنه يستمر في دورة التنقية حتى يستطيع أن يرى وجهه بوضوح على سطح قطعة المعدن. وهكذا يستمر الرب في عملية التنقية حتى يظهر فينا بوجهه الجميل.
من الواضح إذًا أن الأزمنة الصعبة في حياة المؤمن هي طريق ممهَّد لإعداده لأن يكون روحيًا. ولمزيد من التوضيح، تعالوا نرى بعض الأمثلة الشهيرة، وكيف رسم الضيق فيهم سمات الروحي.
أيوب.. لغز له حل
ستبقى مسألة آلام أيوب لغزًا بالنسبة لمن لا يميز تعاملات الله، ولمن لا يرى الأمور بمنظور النتيجة، ويكتفي بشكل الأحداث فقط. ولكن أبسط مؤمن يقدِّر حكمة الله ومهارته - تبارك اسمه - في إنتاج صنف مؤمنين حسب قلبه، يخشع إذ يرى النتائج في أيوب. إن نظرة سريعة لأيوب 42 تكفي لأن نستنتج أنه، بعد أن طال تبرُّمه، عندما وصل إلى قصد الله، تهلل بالنتائج.
لقد بدأت القصة وهو يُصعد محرقات، كل يوم، بعدد بنيه قائلاً: «رُبَّمَا أَخْطَأَ بَنِيَّ وَجَدَّفُوا عَلَى اللهِ فِي قُلُوبِهِمْ» (أي1: 5)؛ وكأنه من غير الوارد أن تكون له هو أخطاؤه التي تستوجب تقديم ذبيحة. ويا له من برٍّ ذاتي هو نقيض صارخ للروحانية. لكن اسمعه في النهاية، بعد الضيق، يقول «أَرْفُضُ (نفسي) I abhor myself وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ وَالرَّمَادِ»، أو حسب الترجمة التفسيرية ”لِذَلِكَ أَلُومُ نَفْسِي وَأَتُوبُ مُعَفِّرًا ذَاتِي بِالتُّرَابِ وَالرَّمَادِ“. إنه لم يكفَّ عن الاعتماد على نفسه فحسب، بل لقد رفضها معترفًا بعدم نفعها، وأقر بجهله «نَطَقْتُ بِمَا لَمْ أَفْهَمْ. بِعَجَائِبَ فَوْقِي لَمْ أَعْرِفْهَا»، والتجأ إلى مصدر الحكمة الوحيد «أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي»، وقد صار يعلم أن ذاك الذي يستطيع كل شيء ولا يعسر عليه أمر يقدر أن يحوِّل جهله إلى علم.
والنتيجة «بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي». بل إن الله يُقرّ عنه أنه قال الصواب فيه، وأظهر قبوله لصلاته، ورفع وجهه.
يعقوب.. قصة تجسم الحقيقة
لم تثمر أيام الراحة في قصة يعقوب، سوى أمور جسدية. ففي بيت أبيه وحضن أمه ظهر المكر والخداع، وفي أيام انتعاشه اقتصاديًا عند خاله دخلت الأوثان خيمته عن طريق راحيل محبوبته، وفي شكيم وقد انفكت كربة لقائه عيسو كانت النتيجة مزرية في قصة ابنته وتصرف بنيه.
لم تثمر أيام الراحة
في قصة يعقوب، سوى أمور جسدية. أما الأحداث المرّة فكانت
هي الأفضل.
أما الأحداث المرّة فكانت هي الأفضل.
ففي فراره من بيت أبيه، خائفًا مطَاردًا، وليس بيده إلا عصا، ولا وسادة لرأسه إلا حجارة الأرض، والشمس قد غابت؛ هناك التقاه الرب وأعلمه أنه معه، وهناك جدَّد الرب الوعد الذي وعد به أباءه ليكون له هو شخصيًا.
ولما وجد نفسه في ورطة كبرى وهو يعلم أن عيسو في الطريق؛ لأول مرة نسمع منه هذه الكلمة «صَغِيرٌ أنَا». كما نجد نغمة الشكر وتعديد مراحم الله ترن في كلماته. وذاك الذي لطالما اعتمد على إمكانياته نجده يصرخ إلى الله «نَجِّنِي... لأنِّي خَائِفٌ... وَأنْتَ قَدْ قُلْتَ: إنِّي أحْسِنُ الَيْكَ...». لقد تعلم أن يعوِّل على الله ومواعيده كاشفًا نفسه أمامه.
وعندما صارعه إنسان حتى طلوع الفجر وضرب حُقَّ فخذه، عرف الشخص الذي كان يصارعه، وعرف أنه وحده مصدر البركة. وهناك اختبر أول سمة تغيير في حياته؛ لقد تغير يعقوب ”المتعقب“ إلى إسرائيل ”أمير الله“. وعندئذ استطاع أن يقول «لانِّي نَظَرْتُ اللهَ وَجْها لِوَجْهٍ»؛لقد عاين الله.
وفي شكيم، بعد الأحداث المؤسفة، والصدمة النفسية الرهيبة التي تعرض إليها، نجد الله يدعوه للعودة لبيت إيل. فإذ بيعقوب يطلب من كل بيته «اعْزِلُوا الآلِهَةَ الْغَرِيبَةَ الَّتِي بَيْنَكُمْ، وَتَطَهَّرُوا وَابْدِلُوا ثِيَابَكُمْ. وَلْنَقُمْ وَنَصْعَدْ الَى بَيْتِ إيلَ». لقد تعلم أنه لكي يصعد إلى بيت الله يجب عليه أن يراعي أولاً مطاليب قداسة الله!
ولما حلّت به الطامة الكبرى في فقد عزيز القلب يوسف، وما أعقبها من أيام اجترار للحزن، ثم تفاقم الأزمة حين طُلب نزول بنيامين إلى مصر «أعْدَمْتُمُونِي الاوْلادَ! يُوسُفُ مَفْقُودٌ، وَشَمْعُونُ مَفْقُودٌ، وَبِنْيَامِينُ تَاخُذُونَهُ! صَارَ كُلُّ هَذَا عَلَيَّ!... تُنْزِلُونَ شَيْبَتِي بِحُزْنٍ الَى الْهَاوِيَةِ». ماذا كانت النتيجة؟! لقد كف عن استخدام ذكائه وإمكانياته. تعلم ألا يتحرك بدون الرب، فحتى في نزوله للقاء يوسف، تلك الرغبة المشروعة والأمل الذي أُحيا بعد موت، لم يتحرك إلا بعد أن قال له الله أن يفعل.
ثم انظر روعته وهو يقف أمام فرعون، ثم روعة عمل الإيمان الفطن يوم بارك ابني يوسف متجاوبًا مع الدرس الذي تعلمه طوال حياته أن «كبير يُستعبد لصغير». لذا حقَّ له أن يقول: ”علمت يا ابني علمت“.
لقد أجازه الله في الفقر والمشاكل والمرض والفضيحة وفقدان الأعزاء. لكنه تعلم ألا يتكل على الجسد، ولا يعوِّل على غير الله أو يتحرك بدونه، وتعلم الاستناد على مواعيده، بل عاينه وجهًا لوجه.
داود.. حتى حينما كان السبب
ترنّم داود كثيرًا في ضيقه، بشكل يجعلنا نرى كيف قرَّبه الضيق إلى إلهه. فمثلاً في مزمور 63، حين كان في برية يهوذا بظروف المعيشة الصعبة، مطَاردًا مهدَّدًا دون ذنب، بكل ما يسببه ذلك من ضغوط نفسية رهيبة، بدلاً من أن يولول على ما وصل إليه الحال نراه يخاطب الرب بأرق كلمات الشركة التي تربط القديس بإلهه «يَا اللهُ إِلَهِي أَنْتَ. إِلَيْكَ أُبَكِّرُ. عَطِشَتْ إِلَيْكَ نَفْسِي». كما تعلّم أن يطلب الله في كل أحواله وفي كل مكان، ليس في القدس وحده «لِكَيْ أُبْصِرَ قُوَّتَكَ وَمَجْدَكَ كَمَا قَدْ رَأَيْتُكَ فِي قُدْسِكَ»، «إِذَا ذَكَرْتُكَ عَلَى فِرَاشِي فِي السُّهْدِ أَلْهَجُ بِكَ»، وبالإجمال «اِلْتَصَقَتْ نَفْسِي بِكَ».
وفي مزمور 34، والذي يعنونه الروح القدس «لِدَاوُدَ عِنْدَمَا غَيَّرَ عَقْلَهُ قُدَّامَ أَبِيمَالِكَ فَطَرَدَهُ فَانْطَلَقَ»، وقد كتبه بعد خطئه بذهابه إلى عدو شعب الله حيث هناك تعرض لمحاولة القتل؛ فاضطرّ أن يتظاهر بالجنون. لقد كان يحصد نتيجة خطئه هذه المرة، ومع ذلك فقد كانت الظروف التي اجتازها سببًا في أن يكون أكثر روحانية. اسمعه وهو يقول عن نفسه «هذا المسكين صرخ»، لقد أدرك كم أنه، وهو صاحب الانتصارات المبهرة السابقة، لا يعدو أن يكون ”هذا المسكين“. ويا لسعادة من أدركوا ذلك و«طوبى للمساكين بالروح»!
ويكفي لاستعراض النتائج سرد ما قال: «أُبَارِكُ الرَّبَّ فِي كُلِّ حِينٍ... بالرَّبِّ تَفْتَخِرُ نَفْسِي. يَسْمَعُ الْوُدَعَاءُ فَيَفْرَحُونَ... طَلَبْتُ إِلَى الرَّبِّ... نَظَرُوا إِلَيْهِ وَاسْتَنَارُوا وَوُجُوهُهُمْ لَمْ تَخْجَلْ... ذُوقُوا وَانْظُرُوا مَا أَطْيَبَ الرَّبَّ! طُوبَى لِلرَّجُلِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ... اتَّقُوا الرَّبَّ يَا قِدِّيسِيهِ... هَلُمَّ أَيُّهَا الْبَنُونَ اسْتَمِعُوا إِلَيَّ فَأُعَلِّمَكُمْ مَخَافَةَ الرَّبِّ... عَيْنَا الرَّبِّ نَحْوَ الصِّدِّيقِينَ وَأُذُنَاهُ إِلَى صُرَاخِهِمْ... قَرِيبٌ هُوَ الرَّبُّ مِنَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ وَيُخَلِّصُ الْمُنْسَحِقِي الرُّوحِ... كَثِيرَةٌ هِيَ بَلاَيَا الصِّدِّيقِ وَمِنْ جَمِيعِهَا يُنَجِّيهِ الرَّبُّ».
وغيرهم..
وما سبق كان قليلاً من كثير، والمجال لا يسع لاستعراض الكل. فسنحتاج للوقت لنحكي عن رحلة الشعب وكيف كان ينبغي أن يتم القول: «أَذَلكَ وَأَجَاعَكَ»، حتى يعقب بالقول: «لِيُعَلِّمَكَ أَنَّهُ ليْسَ بِالخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ بَل بِكُلِّ مَا يَخْرُجُ مِنْ فَمِ الرَّبِّ يَحْيَا الإِنْسَانُ» (تث8: 3). وعن بولس وسيلا في السجن مضروبين، لكن في تفرغ عن الذات، وفرح حقيقي، واقتراب صادق لله. فالجسد كان مربوطًا بالمقطرة لكن الروح كانت حرة طليقة، فكانا يسبحان ثم يشهدان. وهكذا ميشائيل وحننيا وعزريا في الأتون، لم تقدر النيران إلا على وثقهم، وهذا ما تفعله الظروف معنا؛ أن تفك ربطًا نحن بها مربوطون. لكننا نرى شهادتهم تلمع (دا 3).
عملية التمحيص لازمة لكي تخرج المعدن النقي من وسط الشوائب فتنتج أشخاصًا روحيين. والصائغ الإلهي لن يكف عن أن يجلس ممحصًا، بالضيق بالفقر بالإحباط بالفشل بالمرض بالظروف المعاكسة، حتى يتصور فينا.
* * *
وهكذا نرى أن عملية التمحيص لازمة لكي تخرج المعدن النقي من وسط الشوائب فتنتج أشخاصًا روحيين كفّوا عن ذواتهم وألقوا رجاءهم بالتمام على إلههم ونعمته وعمل روحه. والصائغ الإلهي لن يكف عن أن يجلس ممحصًا، بالضيق، بالفقر، بالإحباط، بالفشل، بالمرض، بالظروف المعاكسة؛ حتى يتصور فينا.
وفي الختام نقول إن الروحي هو خريج مدرسة الريح المعاكسة، مدرسة الضيق والألم. وهي مدرسة تعطي بعض العطلات، فتجد نفسك في هدنة، لكن يعقبها العودة للدراسة مرة أخرى، و”الشهادة“ تصدر في النهاية!
لذا «اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَّوِعَةٍ، عَالِمِينَ أَنَّ امْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْرًا (وما أحلاه من ثمر روحي). وَأَمَّا الصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ» (يع1: 2-4).