عدد رقم 2 لسنة 2008
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
إن كان أحد يحسب نفسه روحيًا ...؟  

1كورنثوس14: 37، 38

هل يوجد بين المؤمنين الحقيقين من يحسب نفسه روحيًا وهو ليس كذلك؟

اسمح لي، عزيزي القارئ، أن أعبِّر عن الألم الشديد الذي ينتابني وأنا أتجوَّل وأتأمل حال إخوتي، فهم القديسون والأفاضل الذين في الأرض، لكنني أرى الكثيرين منهم، كبارًا وصغارًا، رجالاً ونساءً، قد تفرقوا واختلفوا شيعًا كثيرة، من جهة مفهوم كل منهم للروحانية الحقة!  كل فريق في طريق، وفي كل طريق الكثير من الحواري والأزقة!  وأشد ما يؤلم هو أن كل منهم مقتنع بأن منهجه وطريقه هو طريق الروحانية الكتابية الصحيح، بل والوحيد!

هذا جعلني أتساءل:

هل يوجد في الكتاب ما يشير إلى إمكانية سقوط المؤمن الحقيقي في حالة من التيهان الروحي؛ تجعله يتجه صوب صورة غير حقيقية للروحانية، وبالتالي يحسب نفسه روحيا وهو ليس كذلك؟

أعتقد أن كلمات الرسول بولس لإخوة كورنثوس، والتي هي عنوان هذا المقال، تجيبنا بنَعَم.  فهو يقول: «إن كان أحد يحسب نفسه روحيًا»!!!  ولم يقل: ”إن كان أحد روحيا“، بل هو يحسب نفسه كذلك!!  لذا يبدو أن هذه المشكلة قديمة قِدَم الكنيسة، فمن الأيام الأولى سقط كل من إخوة كورنثوس وإخوة غلاطية فيها، فاستوجبوا توبيخ الرسول، لكن ليس بدون علاجه:

فإخوة كورنثوس ظنوا أن الروحانية هي الحصول على مواهب الروح القدس، وعلى الغنى في كل كلمة وكل علم؛ فساروا في طريق خاطىء وكانت النتيجة هي التحزّب والانقسام وجلب العار. 

وإخوة غلاطية ظنوا الروحانية على أنها إضافة نوافل ووصايا من العهد القديم لعمل الروح القدس فيهم؛ الأمر الذي جعلهم ينهشون بعضهم بعضًا حتى كادوا يفنوا بعض!!

واليوم نحن نعايش الكثيرين من أحبائنا القديسين الذين سقطوا في فخاخ صور خاطئة للروحانية، تستهلك من أعمارهم الكثير، بل وقد ينتهي العمر بهم دون أن يستفيقوا من وهمهم الكبير!  وإليك بعض الأمثلة:

  • فهذا أخ نشيط غارق في اهتمامه بالخدمة والنفوس، دائم الركض لذات اليمين ولذات اليسار، يتابع دائمًا، وبشغف، أخبار الخدام ولا سيما المشهورين.  لكنك لا تشتم في حياته أبدًا رائحة المسيح، ولا تتنسم في حضوره أبدًا عبير المقادس.
  • وهذه أخت ثانية تحكي لك بهيام عن مشاعرها الفيَّاضة في فرص الصلاة، وعن آثار هذه المشاعر على جسدها الذي لا يتحمل فيض الأحاسيس.  لكنك تجد نفسك أمام إنسانة تدور حول ذاتها حتى النخاع.
  • وهذا أخ ثالث ساخط على جميع إخوته لأنهم، من وجهة نظره، إخوة متسيبون وغير ملتزمين، وبالتالي فهم ليسوا مثله روحيين، إذ هو حريص كل الحرص على حضور الاجتماعات وفي الميعاد!!  لكنك من الجانب الآخر تجد أسرته تشتكي مُرَّ الشكوى من قسوته في البيت، وعدم أمانته في أمور يعتبرها صغيرة، كذلك زملاؤه في العمل لا يحملون أي انطباع جيد عنه، ولم يُظهر لهم أبدًا وداعة المسيح ومحبته!
  • وهذه أخت رابعة تحكي لك بانبهار عن روعة مواهب الروح القدس التي اختبرتها، وعن أسفها الشديد على بقية الإخوة لأنهم محرومين منها!  لكن يلفت نظرك بشدة في حديثها، رائحة العُجب وهي تفوح منها، ومشاعر الإدانة القاسية وهي تقطر من بين شفتيها.
  • وهذا أخ خامس لا مشغولية عنده سوى بأخبار الإخوة في الداخل والخارج!  من منهم ثابت على المبدإ ومن منهم انحرف عن السبل القديمة؟  مَن انقسم على مَن؟  ومَن انفصل عن مَن؟  ومَن قَبِلَ مَن؟  ومَن عَزَل مَن؟  ومَن عليه الدور في العزل؟  ومن عليه الدور في الانقسام؟  كل هذا دون أن يذكر لك شيئا عن الحبيب، أو يأتي لك بحديث ينفي الكدر!  لا يحدثك عن فرحه بنفوس قد خلصت أو أشواقه لنفوس تخلص، وإن حدّثك عن إخوته فهو ينظر إليهم من وجهة نظر واحدة هي مدى طاعتهم لما يسميه ”مبادئ الإخوة“ ،  تشعر في جلستك معه أنه قد نَحَتَ شعارًا جديدًا وغريبًا هو ”لي الحياة هي الكنيسة، والانفصال هو ربح“!!  هذا النوع من المؤمنين قد اعتبر أن الاهتمام الشديد بأمور الكنيسة هو الروحانية الحقة!  بينما في الواقع هو لا يهتم بالكنيسة بل بمبادئ كنسية، وما أبعد الفارق بين الاهتمام بكنيسة الله وبين الاهتمام بمبادئ كنسية.  هذا لأن الكنيسة ببساطة هي جماعة القديسين، وبينما صاحبنا غارق في الاهتمام بمبادئ كنسية، ربما لم يكلِّف نفسه عناء فهم أُسسها الكتابية.  تجده لا يظهر أي اهتمام بحال القديسين، والذين هم الكنيسة، فلا تجد في حديثه ما ينم عن حب لضعيف قد زَلّ، أو رغبة لإنهاض عاثر قد سقط، أو دمعة حزن في صلاة حقيقية من أجل قديس قد أخطأ!  هذه الخدعة الكبيرة هي، من وجهة نظري، هروب مخزٍ من جهاد ومعاناة وتكلفة الروحانية الحقيقية، إلى الكسل الروحي بكل معانيه ومخازيه، إلا أنه يتميز عن بقية أساليب الهروب المخزي أنه يجعل صاحبه لا يشعر بأي شيء من العار الذي ينبغي أن يشعر به المؤمن الكسول، بل على العكس هذا النوع من الهروب يجعله يضع نفسه على قمة جبل الروحانية ناظرًا من عليائه بازدراء وإدانة، ليس فقط للمؤمنين من كل الطوائف لأنهم لم ينفصلوا عن الأنظمة البشرية، بل حتى أيضًا لإخوته الذين لا يسيرون معه في ذات الطريق، والذين لا يحمدون الله من أجله؛ إذ أبقاه ذُخرًا لهذا الجيل كحامي حمى المبادئ الأخوية وآخر عنقود البقية التقية.
  • وهذا أخ سادس متبحِّر في معرفة الكتاب، يشعر بأنه قد درس المنهج وحفظه جيدًا ومستعد بقوة لأي امتحان، وبالتالي لا يكُفّ عن أن يُتحف إخوته بالتعاليم والتعليمات، ويا ويل من يخطئ منهم في تأمل أو حتى في صلاة.  تجده يكثر من الأسئلة العويصة إذا رأى معلّمًا، ويكثر من طرح آراء كبار الشرّاح إذا رأى تلميذًا.  لكن إذا أتيحت لك الفرصة، رغما عنك، لترى حياته العملية؛ فإنك لا تجده يظهر هذا الحرص على طاعة الكتاب بقدر الحرص على معرفته!
  • وهذا أخ سابع لا حديث عنده إلا عن زمان، وإخوة زمان، وخدّام زمان!  والروحانية عنده هي التمسك بما كان زمان، بغضِّ النظر إن كان هذا الذي كان زمان يتفق مع الكتاب أم لا؟!  هو لا يقيس الشيء على كلمة الله، لكنه يقيسه على ما كان يحدث زمان!  والمضحك المبكي أن زمان هذا عنده هو أمر شخصي بحت لا يتعدّى بضع عشرات من السنين!  لأنه لو كان يتمسك بالقديم فعلاً فعليه أن يرجع لما هو أقدم، للذي كان من البدء، أي يرجع للكتاب لكي يقيس عليه فهو الأقدم والأثبت. 
  • ناهيك عن عدد ليس بقليل من المضطربين نفسيًا، وما أكثرهم داخل الكنائس، والذين وجدوا في الصور الخاطئة للروحانية مُسكِّنًا قويًا لاضطراباتهم النفسية؛ فأمسكوا بها بشدة، وصاروا يدافعون عنها باستماتة، بل والمصيبة أنهم يجتهدون لفرضها على بقية المؤمنين على أنها النموذج الأمثل للروحانية! 
  • وعلى الجانب الآخر لكل هذا تجد بعضًا من القديسين، شعر أنه بحكم تكوينه الشخصي، ومن خلال علاقته الشخصية مع الله في مخدعه، لا يمكنه أن يكون أيًّا من هذه النماذج السابقة أو غيرها مما يقدمه المجتمع المسيحي على أنها الروحانية.  وبالتالي اعتقد في نفسه أنه لا يمكن أن يكون شخصًا روحيًا، على الرغم من شوقه لذلك، فيظلّ قابعًا على ضفاف الحياة الروحية، خائفًا من العمق أو رافضًا إيّاه، إذ أن العمق في نظره هو أن يكون أحد هؤلاء وهذا ما يرفضه.

ولا شك عندي أن المخلصين من كل الفئات السابق ذكرها، وغيرها، إن كانوا مسيحيين حقيقيين، سيكتشفون - إن آجلاً أو عاجلاً - زيف هذه الصور.  وعندئذ سيخجلون، بل وسيحزنون بشدة على السنين التي ضاعت في هذا الوهم الخادع.  وأشد ما يخيفني عليهم هو ردود الفعل الخاطئة لهذا الاكتشاف المؤلم:

    • فبعضهم يصاب بحالة من الإحباط الشديد الذي يجعله يقبع بقية عمره على شاطئ الحياة الروحية رافضًا الدخول إلى أي عمق جديد.
    • وبعضهم ينظر بشك وارتياب للروحانية الحقّة!  خائفًا أن تكون مزيفة كتلك التي سبق وعاشها.  وبالتالي تضيع منه اختبارات رائعة وفرص كثيرة لخدمة السيد الحبيب.
    • وبعضهم يقع في فخ إبليس، فيتجه بعنف نحو الصورة العكسية تمامًا للصورة الوهمية التي عاش فيها، غير مدرك أن إبليس يرسل الضلالات أزواجًا، أي يرسل الضلالة ومعها آخرى عكسها تمامًا!  متوقعًا أن الإنسان بطبعه يميل للتطرف وعدم الاتزان، فعندما يكتشف أنه خُدع وسار في اتجاه خاطئ يتجه على الفور للصورة العكسية تمامًا، والتي هي أيضًا صورة وهمية وربما تكون أسوأ من نقيضتها.
    • وبعضهم يعيش عدة سنوات وقلبه ممتلئ بالمرارة تجاه الخدام أو القادة الذين رسموا هذه الصور الخاطئة أو شجعوا عليها.  وبالتالي يحزن روح الله في داخله ويخسر صاحبنا فرحه وقوته.
    • أما أخف ردود الأفعال وطأة وأقلها ضررًا، فهو الغيظ الشديد من النفس، التي بسذاجة سارت في طريق خاطئ؛ فأضاعت من العمر ما كان من الممكن أن يُستثمر أعظم استثمار لمجد المسيح.

وهنا اسمحوا لي أن أذكر لكم موقفا شخصيًا حدث معي منذ سنوات طويلة في أمريكا، ربما يوضِّح الفكرة ويلقي بعضًا من الضوء على المزيد من جوانبها. 

كنت أخدم الرب في إحدى ولايات أمريكا، وكان عليَّ أن أذهب لمكان ما، على بعد حوالي مائة ميل (أي مائة وستين كيلومترًا) من مكان إقامتي، وأصرّ أحد الإخوة مشكورًا على أن يقوم هو بتوصيلي.  ولا أعرف لماذا لم أكن مطمئنًا له، ربما لأني لاحظت فيه، أثناء اشتراكه في مناقشات الإخوة معًا، أنه لم يكن يزن الأمور جيدًا قبل أن يتكلم.  على أي حال قد انتهى الأمر باستسلامي، تقديرًا لمحبته ولإصراره على أن يخدمني.  وفي اليوم التالي أتاني الأخ حسب الاتفاق، وانطلقنا متأخرين بعض الشيء عن الميعاد حسب عادتنا كمصريين.  وبعدما طلبنا وجه الرب لحمايتنا في الطريق، سألت الأخ إن كان متأكدًا من معرفته بالطريق، فأجاب بابتسامة الواثق مستنكرًا من الأصل مجرد السؤال.  فاعتذرت، ولم أجرؤ على تكرار السؤال ثانية.  لكن بعد حوالي ساعة ونصف، لاحظت أننا قطعنا أكثر من مائة ميل بقليل ولم نصل للمكان المقصود!!  فبدأ الشك يساورني فتجرأت وسألته ثانية: ”هل أنت متأكد أننا في الطريق الصحيح؟“.  فأجابني: ”ليس بالضرورة أن تكون المسافة مائة ميل بالضبط، فربما تكون أكثر من هذا بقليل“.  فسكت ثانية، لكن على مضض، وحاولت أن أخفي قلقي، وأن أستمر في إجابة أسئلته التي لم تتوقف طوال الطريق.  لكن، للصدق، بدأت نغمة صوتي تختلف، وإجاباتي أمست مختصرة، ونظراتي إلى ساعة معصمي قد كثرت.  وظللت على هذا الحال متوترًا لما يقرب من نصف ساعة أخرى، قطعنا فيها أكثر من ثلاثين ميل.  وعند ذاك لم استطع تحمل المزيد، فها نحن قد قطعنا حوالي مائة وأربعين ميلاً ولم نصل، ولم يزل أخونا الحبيب على ثقته الزائفة بنفسه.  فوجدت نفسي بكلمات حاسمة وصارمة ألزمه بأن يتوقف فورًا، وبأن يريني الخارطة لكي أعرف أين نحن.  وللأسف لم يكن معه خارطة، فطلبت منه أن يواصل السير إلى أقرب محطة بنزين لكي نسأل أو على الأقل لكي نحصل على خارطة.  وهناك كانت الصدمة إذ اكتشفنا أننا على الطريق الصحيح لكننا في الاتجاه العكسي!! 

بالطبع يمكنكم تصور مدى خجله، وشدة ارتباكه.  وأعترف أن محاولاتي الحثيثة لرفع الحرج عنه لم تنجح في أن تخفي غيظي وضيقي من الموقف، بل ومن نفسي لأنني استسلمت له.  فقد كان عليَّ عندئذ، إذا أردت إتمام المهمة التي من أجلها خرجت، أن أرجع في الاتجاه العكسي لمسافة حوالي أربعمائة وخمسين كيلومترًا ثم أعود لمسافة مائة وستين كيلومترًا!  وعلي بعد هذا أن أحضر الاجتماع في الميعاد وأخدم!!  وبالطبع كان كل هذا مستحيلاً فلم يكن أمامي سوى العودة بخفي حنين وإلغاء هذه المهمة. 

في نهاية اليوم ألفيت نفسي حزينًا للغاية، لأني خسرت أكثر من أربع ساعات في اتجاه خاطئ.

أحبائي: كم يكون الأمر مؤلمًا عندما لا تكون المسألة مجرد أربع ساعات، بل أربع سنوات!  أو أربعة عشر سنة!  أو أربعين سنة في اتجاه خاطئ؟  كم سيكون حجم الألم والضيق بل والغيظ عند مؤمن مُخلص يكتشف أنه أضاع سنينا من عمره وهو يسعى في طريق الروحانية ليكتشف في النهاية أن سعيه كان باطلاً، وأنه لم يزل شخصًا جسديًا ويسلك بحسب البشر؟

أ ليس هذا الشعور هو الذي خاف منه بولس عندما قال بخصوص أحد المواقف: «لئلا أكون أسعى أو قد سعيت باطلاً» (غل2: 2)؟  صحيح، كان الأمر هناك بخصوص الإنجيل وليس بخصوص الروحانية، لكن كم هو جميل هذا الاتضاع العميق من هامة عالية رفيعة كهامة بولس الرسول، عندما يفترض أنه قد يكون سعى باطلاً وهو الرسول العظيم؟!  وكم يدهشني هذا الاتضاع عندما أقارنه بالثقة الزائفة التي قد تميّز بعضنا، فتجعلنا نعتقد أننا في الطريق الصحيح، بينما نكون في الاتجاه العكسي سائرين!  كم أخشى من قلبي على هؤلاء الذين لا يتوقّفون مع أنفسهم ليفحصوا طرقهم، والذين لا تَرد على ألسنتهم أو حتى على قلوبهم هذه الكلمة الجميلة والحافظة من التيهان كلمة «لئلا».  هذا الشعور هو الذي جعل بولس يكتب لابنه الحبيب تيموثاوس محذِّرًا فيقول: «إن كان أحد يجاهد لا يكلَّل إن لم يجاهد قانونيًا» (2تي2: 5).  هذا الاتضاع العميق، الذي يجعل صاحبه يراجع نفسه ويخشى على نفسه من ضياع العمر في ما لا طائل من وراءه، ميَّز الأتقياء الحقيقيين على مر العصور.

كم أخشى من قلبي على هؤلاء الذين لا يتوقّفون مع أنفسهم ليفحصوا طرقهم، والذين لا تَرد على ألسنتهم أو حتى على قلوبهم هذه الكلمة الجميلة والحافظة من التيهان كلمة «لئلا».

والشيء المؤلم هو أنه ليس كل المخدوعين سوف يكتشفون الحقيقة هنا.  لكنهم بالطبع حتمًا سيكتشفونها هناك عند مجيء الرب.  وهناك، وبينما يرون إخوتهم أمام كرسي المسيح يبتهجون بالمكافآت، لن يبقى لهم سوى الخجل الشديد!  هذا الخجل الذي خاف منه رسول عظيم آخر ألا وهو يوحنا، عندما كتب لأولاده قائلاً: «أيها الأولاد اثبتوا فيه حتى إذا أُظهر يكون لنا ثقة ولا نخجل منه في مجيئه» (1يو2: 28).  بل ويكتب لهم في رسالته الثانية فيقول: «انظروا إلى أنفسكم، لئلا نضيِّع ما عملناه بل ننال أجرًا تامًا» (2يو8)!!

إلا أنه يبدو أن هؤلاء الساعون في طرق خاطئة، وراء أوهامهم وتصوراتهم الخاطئة عن الروحانية، يرون أنفسهم أعلى وأرقى من هذه الحالة التي تجعل أصحابها من المساكين نظير بولس خائفين من السعي الباطل هنا، أو نظير يوحنا خائفين من الخجل هناك!

والآن يمكنني أن أسأل سؤالين هامين:

  • هل من وصفة تحفظ المؤمنين من التيهان في سيرهم نحو الروحانية الحقيقية؟
  • وإذا حدث وضَلَّ أحدهم، وحسب نفسه روحيًا، وهو ليس كذلك؛ فكيف يستطيع اكتشاف حقيقة نفسه؟

أقول إذا عدنا للحادثة البسيطة التي ذكرتها منذ قليل، وسألتك: ما الذي جعلني أسير في طريق خاطئ؟

أعتقد أنك ستجيبني بأن السبب يكمن في: الصحبة الخاطئة، وعدم الاهتمام بالخريطة في أول المشوار.

وإذا سألتك كيف: اكتشفت أنني أسير في طريق خاطئ؟

أعتقد أنك ستجيبني: لأنك لم تصل للغرض المحدَّد على الرغم من مرور الوقت اللازم للوصول.

أعتقد أن هاتين الإجابتين يصلحان بقوة كإجابة عن سؤالينا الهامين كالأتي:

لكي لا يتوه المؤمن في سيره نحو الروحانية ولا يضيع من عمره الثمين في طرق خاطئة، ولكي أيضًا ما يكتشف الحقيقة بسرعة إذا ما ضل وتاه، هو يحتاج إلى أربعة أشياء:

  1. غرض محدَّد ينبغي الوصول إليه.
  2. صحبة جيدة.
  3. خريطة دقيقة.
  4. مراقبة الزمن المقطوع.

أولاً: الغرض المحدَّد

ما هو الغرض الواحد والوحيد والمحدَّد الموضوع أمام جميع المؤمنين، والذي عليهم جميعًا الوصول إليه، سوى أن يتصوَّر فيهم المسيح؟ 

إن من يقرأ بتدقيق الأصحاحين الثالث والرابع من رسالة غلاطية، لن يصعب عليه اكتشاف أن الرسول كان يعالج ما نتناوله الآن!  فهو حزين ومتحير في إخوته، وبدأ توبيخهم بشدة ووصفهم بالغباء، غباء من قَبِلَ الخداع، هذا لأنهم بعدما بدأوا بالروح ساروا في طريق خاطئ، صوب صورة خاطئة للروحانية، رسمها لهم المعلمين الكذبة المهوّدين للمسيحية.  لقد وضعوا أمامهم غرضًا غير الذي وضعه الرسول أمامهم من البداية ألا وهو شخص المسيح.  ففي أول عبارة يقول لهم: «أنتم الذين أمام عيونكم قد رُسم يسوع المسيح بينكم مصلوبًا» (غل3: 1)، وفي آخر عبارة يقول: «ياأولادي الذين أتمخض بكم أيضًا إلى أن يتصور المسيح فيكم» (غل4: 19).  لقد تمخّض بهم أولاً حتى يعرفوا المسيح كالمخلِّص، ويتمخض بهم أيضًا، وسيظل يتمخض، إلى أن يتصور المسيح فيهم؛ حيث لا غرض أخر غير هذا.  على النقيض من هذا قد وضع المعلمين الكذبة أمامهم منهجًا يتكون من ممارسة الختان وطاعة الناموس وحفظ أيام وشهور وأوقات وسنين!

واليوم قد لا نجد أحدًا يضع هذا المنهج الخاطئ نفسه أمام القديسين، لكنني أعرف عشرات المناهج الأخرى في مختلف الطوائف والجماعات، لم يزل المعلمين والقادة يضعونها أمام القديسين.  تختلف هذه المناهج عن بعضها في كل شيء، لكنها تتفق كلها في شيئين هما:

  • كل منها يؤكد أن طريقه هو الطريق الوحيد الصحيح للروحانية الحقيقية، وأن غيره من الطرق ليس سوى تعاليم كاذبة ومضلة!
  • الشيء الثاني هي أنها جميعا تحوّلهم عن شخص المسيح كالغرض الوحيد!

ولا أستثني من هؤلاء من يضع أمام القديسين بعضًا من الأغراض النبيلة، مثل ربح النفوس، أو مواهب الروح، أو الكنيسة، أو غيرها؛ كبديل للغرض الكريم: شخص ربنا يسوع المسيح.  أقول عن هؤلاء جميعًا ما قاله الرسول: «ولكن الذي يزعجكم سيحمل الدينونة أيَّ من كان».  وقوله ”يزعجكم“ يصف أثره عليهم، فهو كالذئب الذي يدخل وسط قطيع من الخراف فيزعجها، ويجعلها من الخوف تحوّل أعينها عن راعيها السائر أمامها.  وقوله ”أيَّ من كان“ يشير من جانب إلى تنوع هؤلاء المعلمين، ومن جانب آخر إلى عدم إفلات واحد منهم من دينونة الله مهما كان نوع المنهج الذي يتبناه!

هذه هي الروحانية الحقة في أبسط وأصدق صورها: أن يسعى المسيحي باجتهاد ليكون صورة مكرَّرة من سيده ومصدره، يتغير من مجد إلى مجد إلى تلك الصورة عينها.

وإذا مررنا على تعليم العهد الجديد، نجده كله يؤكِّد على هذه الحقيقة، وليس رسالة غلاطية فقط؛ فالمسيحي يسعى طوال عمره ليعرف المسيح (في3: 10؛ 1يو2: 13)، ويعيش مثبِّتًا النظر على المسيح (2كو3: 18)، ويحيا على أكل المسيح (يو6: 57)، ويتأيد بالروح لكي يمتلئ بالمسيح (أف3: 17)، ويقضي عمره يتعلّم المسيح (أف4: 20)، ويسلك في المسيح (كو2: 6)، ويجتهد أن يتشبه بالمسيح (في3: 10)، ويتغيَّر يوميًا روحيًا إلى صورة المسيح (2كو3: 18)، حتى ينتهي به الأمر إلى المشابهة الحرفية والجسدية للمسيح (رو8: 29؛ 1يو3: 2).  هذه هي الروحانية الحقَّة، وهي مياه سباحة نهر لا يُعبَر، بمعنى أنه ولا حتى بولس عبرها، لكنه ظل لنهاية حياته يسبح فيها.  هي طريق له بداية لكن ليس له نهاية، هذا ما نتعلمه من بولس في فيلبي3، ومن الأباء في عائلة الله في 1يوحنا2.  وقد يختلف الروحيون الحقيقيون أحدهم عن الآخر في مقدار الشوط الذي قطعه كل منهم في هذا الطريق، إلا أنهم جميعا في ذات الطريق. 

الروحانية الحقَّة هي طريق له بداية لكن ليس له نهاية.  وقد يختلف الروحيون الحقيقيون أحدهم عن الآخر في مقدار الشوط الذي قطعه كل منهم في هذا الطريق، إلا أنهم جميعا في ذات الطريق.

ثانيًا: الصحبة الجيدة

في الرسالتين اللتين فيهما ناقش الرسول حالة الزيغان عن الروحانية الحقّة، وفيهما وبَّخ المؤمنين على الوضع الذي صاروا فيه، والذي يتناقض مع الروحانية، أشار إلى الأثر السيء لشركتهم مع أشخاص غير أصحاء أدبيًا أو تعليميًا، فكرَّر نفس العبارة «خميرة صغيرة تخمر العجين كله» (غل5: 9؛ 1كو5: 6).

والواقع العملي الذي أراه في تجوالي بين القديسين يجعلني على يقين من أهمية الشركة مع مؤمنين روحيين لكي يعيش الواحد روحيًا.  والعكس صحيح، فمن الصعب جدًا أن تجد مؤمنًا يعيش وسط مؤمنين غير روحيين ويبقى هو روحيًا.  هذا ما جعل الرسول يعلِّم قائلاً: «أَمَّا الشَّهَوَاتُ الشَّبَابِيَّةُ فَاهْرُبْ مِنْهَا، وَاتْبَعِ الْبِرَّ وَالإِيمَانَ وَالْمَحَبَّةَ وَالسَّلاَمَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ الرَّبَّ مِنْ قَلْبٍ نَقِيٍّ» (2تي2: 22).  وماذا يكون القلب النقي سوى القلب المثبَّت على الغرض الكريم، على شخص المسيح؟

ثالثًا: الخريطة الدقيقة

وهل من خريطة دقيقة سوى كلمة الله المكتوبة؟

كم يحتاج المؤمنون الأحداث، بصفة خاصة، لمعرفة كلمة الله معرفة جيدة!  وعندما أقول: ”معرفة جيدة“ أقصد جيدة في نوعها، وليس في كمِّها.  هذا لأن الكمّ حتما سيأتي مع الزمن، لكن المشكلة الكبرى هي أن من يبدأ حياته بأسلوب خاطئ في قراءة الكتاب يصبح من الصعب تغييره فيما بعد!  لذلك لم يقُل الرب يسوع للناموسي ”ماذا تقرأ؟“ ولا ”كم تقرأ؟“ لأنه يعرف أن الناموسي يقرأ كثيرًا ويحفظ ما يقرأ عن ظهر قلب، لكن الرب سأله: «كيف تقرأ؟» (لو10: 26).

كثيرون من القديسين لا يجدون من يعلِّمهم في البداية كيف يقرأون الكتاب ليستقبلوا، لا ليسترجعوا؛ أقصد يستقبلوا رسالة الله لهم من خلال الجزء الذي يقرأوه، لا ليسترجعوا ما سمعوه من قبل أو قرأوه في هذا الجزء.  كثيرون نسوا أن الكتاب قبل أن يكون كتابًا نعظ منه هو كتاب قد كُتب لكي نحيا به.  لم يجدوا من يعلّمهم حاجتهم الشديدة لدراسة الكتاب بطريقة تجعلهم ينجحوا في امتحانات الحياة، وليس في امتحانات العقائد والمعلومات.

كم أشتاق واصلي من إجل إخوتي الشباب، ولا سيما الصغار، لكي لا يبدأوا أي انطلاق في أي اتجاه إلا بعد أن يدرسوا الخريطة جيدًا، وأن لا يتحركوا من مكان إلى مكان إلا وبصحبتهم هذه الخريطة.  لا ينتظروا لكي يفحصوها بعد ما يضلوا، بل يفعلوا ما فعله أهل بيرية قديما الذين قال عنهم الكتاب: «وَكَانَ هؤُلاَءِ أَشْرَفَ مِنَ الَّذِينَ فِي تَسَالُونِيكِي، فَقَبِلُوا الْكَلِمَةَ بِكُلِّ نَشَاطٍ فَاحِصِينَ الْكُتُبَ كُلَّ يَوْمٍ: هَلْ هذِهِ الأُمُورُ هكَذَا؟» (أع17: 11).  إن سرّ شرفهم يكمن في أنهم فحصوا من البداية، كما أنهم فحصوا من البداية الكلام في نور الكتاب، كما أنهم فحصوا الكلام في نور الكتاب على الرغم من كونه كلام رسول تجري على يديه أعجب المعجزات!!

رابعًا: مراقبة الزمن المقطوع

الزمن عامل مهم في حياة المسيحي، فهو كأي كائن حي يحتاج وقتًا للنمو.  لكن ليس من المفروض أبدًا أن يظل المؤمن طفلاً، كما حدث مع إخوة كورنثوس؛ فقال لهم الرسول أنه يكلمهم «كأطفال في المسيح!» (1كو3: 1).  وليس من المفروض أبدًا أن يطول الزمان دون أن يكون المسيحي قد قطع شوطًا في طريق الروحانية الحقّة، التي من أهم سماتها القدرة على الحكم الصحيح والتمييز الجيد بين الخير والشر.  هذا ما لم يحدث مع الإخوة العبرانيين فقال لهم الرسول «كان ينبغي أن تكونوا معلّمين لسبب طول الزمان» (عب5: 12). 

المسيحي كأي كائن حي يحتاج وقتًا للنمو.  لكن ليس من المفروض أبدًا أن يظل المؤمن طفلاً، وليس من المفروض أبدًا أن يطول الزمان دون أن يكون المسيحي قد قطع شوطًا في طريق الروحانية الحقّة.

من المفروض أن المسيحي يراقب نفسه باستمرار على كل محاور حياته: في العمل وفي الاسرة وفي الكنيسة، يراقبها لكي يقيس تصرفاته في كل هذه المجالات على المقياس الصحيح، ألا وهو شخص المسيح.  وعندما يلحظ أي قصور عليه أن يراجع نفسه ويضبط من سرعته واتجاهاته وإلا سيمضي العمر وهو في اتجاه خاطئ.

أخيرًا

أقول هناك بعض الملامح التي يشترك فيها جميع المخدوعين، أراها أيضًا في هذه الحادثة التي حدثت معي مثل:-

عدم وزن الأمور جيدًا في الحديث، الثقة الزائدة في النفس التي تجعل الشخص لا يكلِّف نفسه عناء المراجعة والتدقيق، الحساسية الزائدة التي تجعله يرى أي انتقاد أو حتى تساؤل هو انتقاص من الكرامة، التأثر بثقافة وعادات البيئة المحيطة، السير بصحبة من له غرض آخر غير المسيح (كنت أنا أبغي الوصول للمكان أما صديقي فقد كان غرضه قضاء وقت معي، لذلك لم يكن مهتمًا كثيرًا بصحة الطريق الذي فيه نسير، وكثيرون يستمتعون بمجرد الصحبة في أنشطة وخدمات كثيرة بغضّ النظر إن كان غرضها المسيح أم لا)، الاعتماد على التخمين في إجابة الأسئلة دون البحث عن دليل.  وغيرها.

سيدنا الكريم:

كثر الظلام من حولنا، وغابت القدوة من عالمنا، وأنت تعلم فساد طبيعتنا، فارحمنا.

أشرق بنورك من جديد في داخلنا لكي لا نحسب أنفسنا من الروحيين ونحن لسنا هكذا. 

علّمنا طاعة قولك العظيم: ليمتحن الإنسان نفسه، وليمتحن الإنسان عمله، وذكِّرنا دائما بقولك «إن ظن أحد أنه شيء وهو ليس شيئًا فإنه يغش نفسه». 

احفظنا ياسيدنا من غش أنفسنا فنخسر أعز ما نملك، ألا وهي أعمارنا ونحن غير مدركين.

  كم أبغض هذا التعبير؛ لأنه يصفنا كإخوة بما لا يشرّفنا، إذ يجعلنا طائفة لها مبادئ خاصة بها، بدلا من أن نكون مسيحين نتبع مبادئ الكتاب.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com