أعتقد أن كل ابن لله يشتاق أن يكون شخصًا روحيًا بحق؛ فالطبيعة الروحية الجديدة التي نالها بالولادة من فوق تجعله يتوق إلى ذلك، كما أن الروح القدس الساكن فيه لم يفتأ يدفعه نحو ذلك. لكن السؤال الذي طالما ألح عليَّ هو: هل ما يطلبه أولاد الله الأعزاء، ويسعون وراءه، هو دائمًا الروحانية الحقة كما رسمها الكتاب المقدس؟ أم أنهم يسعون أحيانًا وراء صور خاطئة للروحانية هي من وحي خيال الناس ورؤى قلوبهم؟
ما هي الروحانية الحقة التي يصفها الكتاب المقدس، والتي يدفعنا نحوها الروح القدس؟ هل يمكننا الوصول إلى تعريف محدَّد لها، أو حتى مجرد رسم صورة صحيحة لها؟
وقبل أن ننطلق، عزيزي القارئ، مع صفحات هذا العدد لنرى كيف سيساعدنا كُتَّابنا الأحباء في محاولة رسم الصورة الصحيحة للروحانية، أسمحوا لي أن أتوقف معكم قليلاً عند المعنى اللغوي للكلمة، وكيفية استعمال الروح القدس لها؛ لعل هذا يساعدنا على الوصول إلى تعريف لها.
كلمة ”روحي“ أو ”روحاني“ في أصلها اليوناني كما، أوحى بها الروح القدس، وكما استعملها كُتّاب العهد الجديد هي: ”Pneumatikos“ مشتقة من كلمة ”الروح“. وبالتالي فقد جاءت دائمًا لتصف شيئًا مُرتبطًا بالروح، سواء كان الروح القدس، أو المسيح باعتباره آدم الأخير الروح المُحي، أو حتى الشيطان وأجناده. وقد وردت في العهد الجديد في 21 آية تصف الآتي:
- ناموس الله (رو7: 14).
- أفكار الوحي وألفاظه (1كو2: 13).
- رموز في العهد القديم لها مدلول روحي (1كو10: 3،4).
- المسيحي الحقيقي (1كو2: 15؛ 3: 1؛ 14: 37؛ غل6: 1).
- بركات المسيحي (رو15: 27؛ 1كو9: 11؛ أف1: 3).
- معونة تُقدَّم للمسيحي تساعده على الثبات (رو1: 11).
- إظهارات الروح القدس من خلال المسيحي (أعمال أو خِدَم أو مواهب - 1كو12: 1؛ 14: 1).
- أغاني المسيحي (أف5: 19؛ كو3: 16).
- نوعية أعداء المسيحي ونوع صراعه وبالتالي سلاحه (أف6: 12).
- وعية فهم المسيحي (كو1: 9).
- نوعية ذبائح المسيحي (1بط 2: 5).
- نوعية الجسم الجديد الذي سيأخذه المسيحي (1كو15: 44،46).
وأعتقد أنه يمكننا بسهولة، من النظرة الدقيقة لهذه المجموعة من الآيات، استنتاج أن الكلمة تنصرف إلى أمرين أساسيين هما: الوحي والمسيحي!!
فقد وصفت ناموس الله بصفة عامة في رومية7: 14، ثم في أفكاره وألفاظه في 1كورنثوس2: 13، بل وحتى في رموزه 1كورنثوس10: 3و4. وباقي الآيات كلها تنصَّب على وصف المسيحي في شخصه، وبركاته، ومعوناته، وخدماته، وأغانيه، وأعدائه، وفهمه، وذبائحه، وجسمه الذي سيأخذه في القيامة!
العلاقة بين الوحي والمسيحي
هنا لا بد أن نتساءل عن السر الذي جعل الروح القدس يقصر هذا الوصف: ”روحي“ على كل من الوحي والمسيحي؟ أعتقد أن السر يكمن في أنه، الآن في هذا العالم المادي المنفصل عن الله، وحيث الله لم يَرَه أحد قَطّ، لا توجد سوى وسيلتين إعلانيتين Revelatory يعلن بهما الله عن ذاته هما: الوحي والمسيحي!! مع فارق في غاية الأهمية هو أن الوحي، أي الكلمة المكتوبة، يعلن للبشر أفكار الله، أما المسيحي فهو يعلن حياة الله!
وهذا ليس بغريب إذا تذكَّرنا العلاقة التي لا تنفصم بين الكلمة المكتوبة(الوحي) والكلمة المتجسد (المسيح). فالكلمة المكتوبة كانت لإعلان أفكار الله، بينما الكلمة المتجسد صار جسدًا ليعلن حياة الله. وهذا القصد المجيد، ألا وهو إعلان حياة الله للبشر في وسط عالم منفصل عنه، لم ينتهِ بعودة المسيح إلى السماء، لكنه مستمر إلى الآن من خلال المسيحيين الحقيقيين. من هنا تأتي العلاقة بين المسيحي والوحي.
هذا الفكر، أن المسيحيين الآن هم امتداد للمسيح، يتضح ويتأكد لنا من خلال كل تعليم العهد الجديد. فعلى سبيل المثال لا الحصر:
- في يوحنا 12: 24 نفهم أن أحد أهم أسباب موت المسيح هو أن يوجد ثمرًا كجنسه.
- في رومية 8: 9و10 نفهم أن أحد أهم أسباب سكنى الروح القدس في المسيحي هو أن يطلق في كيانه الروحي حياة المسيح! حتى أن الفكر في هاتين العبارتين يتدرج بسرعة هكذا: روح الله ساكنًا فيكم.. روح المسيح فيكم.. المسيح فيكم! وهذا هو ما كان الرب قد سبق وأنبأ بحدوثه في يوحنا 14: 20 عندما قال في ذلك اليوم سيعلم التلاميذ أنه ليس فقط هو في الآب والآب فيه، وهذا ما صار بسبب تجسده، وما وبخ فيلبس على عدم معرفته، لكن الجديد أنهم هم سيكونوا فيه وهو سيكون فيهم!
- في 1كورنثوس 15: 45 نقرأ عن لقب جديد للمسيح هو: آدم الأخير، وهنا إذ يلقَّب بآدم، فهذا يعني أنه رأس جنس جديد، جنس يحمل ذات حياة رأسه. ولذلك اضاف الرسول موضِّحًا طبيعة هذا الجنس، واختلافه عن جنس آدم الأول، فيقول: «صار آدم، الإنسان الأول، نفسًا حية. وآدم الأخير روحًا محييًا». وبالتالي، فالإنسان المنحدر من الأول نفساني مثله (1كو2: 14). والإنسان المنحدر من الثاني لا بد أن يكون إنسانًا روحيًا مثل مصدره.
- حقيقة كون المسيحيين الآن هم جسد المسيح الموجود في السماء كرأسهم، تؤكِّد أنهم هنا ليعبِّروا عنه، وبالتالي ليواصلوا رسالته في إعلان حياة الله والتي كان قد بدأها بتجسده.
- ليس الرسول بولس فقط هو الذي علّم عن هذه الحقيقية، لكنها أيضًا واضحة ربما بصورة أكبر في كتابات الرسول يوحنا، فهو في رسالتة الأولى يرى أن غرض تجسد ابن الله، ألا وهو استحضار الحياة والنور والمحبة أمام أعين البشر، وهو الأمر الذي أوضحه في إنجيله، لم يزل مستمرًا حتى الآن يتحقق من خلال أولاد الله الحقيقين وهذا ما يوضحه في رسالته الأولى! (انظر على سبيل المثال 1يو1: 2،3؛ 2: 8؛ 4: 12).
ويمكننا توضيح العلاقة بين الوحي والمسيحي بطريقة أخرى من خلال 2كورنثوس3: 3؛ إذ يقول الرسول: «ظاهرين أنكم رسالة المسيح، مخدومة منا، مكتوبة لا بحبر بل بروح الله الحي، لا في ألواح حجرية بل في ألواح قلب لحمية».
الروحانية هي الهوية الجديدة لكل المسيحيين الحقيقيين، الهوية التي تميّزهم عن بقية الآدميين... أنهم يعيشون بحياة المسيح الروحانية التي تظهر فيهم كل الوقت في كل الظروف.
هنا يوضح الرسول أن الله من خلال الكنيسة يرسل رسالة جديدة للعالم، ليست مكتوبة على ألواح حجرية كما حدث في الناموس، لكنه أرسل المسيحيين وأسماهم ”رسالة المسيح“! بمعنى أنهم يظهرون الحياة الإلهية كما كان يظهرها المسيح.
من كل ما سبق يتضح أن الروحانية ليس المقصود بها مستوى روحي متميز يميّز بعض المسيحيين، لكنها الهوية الجديدة لكل المسيحيين الحقيقيين، الهوية التي تميّزهم عن بقية الآدميين؛ فبينما كل البشر من حولهم يعيشون بحياة آدم النفسانية، هم يعيشون بحياة المسيح الروحانية التي تظهر والتي ينبغي أن تكون واضحة فيهم كل الوقت في كل الظروف.
لكن، للأسف، ليس هذا هو الواقع دائمًا. فمن الناحية العملية؛ المسيحي روحاني بقدر المساحة التي يجدها الروح القدس فيه ليُظهر حياة المسيح من خلاله. هذا لأن هناك قوة أخرى تقاوم الروح القدس في إتمام هذه المهمة، ألا وهي قوة الجسد، وهو الكيان الآدمي الساقط الذي لم يزل قابعًا في داخل المسيحي، وإذا حدث وضعف المسيحي وانحاز للجسد، أو لم يخضع لقيادة الروح، تختفي الهوية الروحية له، ويسلك كباقي البشر. هذا ما جعل الرسول يقول للإخوة في كورنثوس:
«لأَنَّكُمْ بَعْدُ جَسَدِيُّونَ. فَإِنَّهُ إِذْ فِيكُمْ حَسَدٌ وَخِصَامٌ وَانْشِقَاقٌ، أَلَسْتُمْ جَسَدِيِّينَ وَتَسْلُكُونَ بِحَسَبِ الْبَشَرِ؟»
وأرجو أن تلاحظ هنا أنه لا يقول: ”لأنكم جسديون... وتسلكون بحسب الجسد“؛ لكن يقول: ”لأنكم جسديون... وتسلكون بحسب البشر“. كأنه يقول إن سلوككم بحسب الجسد أخفي هويتكم الجديدة وجعلكم تسلكون كباقي البشر.
وهنا يجدر بنا أن نشير، ولو إشارة سريعة، لجزء صغير في معرض حديث الرسول، أو بالحري توبيخه لإخوة كورنثوس، لما فيه من فائدة كبيرة في فهم معنى الروحانية الحقيقية. يقول الرسول:
«ولكن الإنسان الطبيعي (النفساني) لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة، ولا يقدر أن يعرفه لأنه إنما يُحكَم فيه روحيًا. وأما الروحي فيَحكم في كل شيء وهو لا يُحكم فيه من أحد، لأنه من عرف فكر الرب فيعلمه؟ وأما نحن فلنا فكر المسيح. وأنا أيها الإخوة لم أستطع أن أكلّمكم كروحيين بل كجسديين، كأطفال في المسيح» (1كو2: 14-3: 1).
من هذه العبارات نتعلم بعض الحقائق:
- استعمل الروح القدس في هذا المقطع الصغير ثلاث كلمات يونانية: الأولى هي ”نيوماتيكوس“ وقد وردت، كما أشرت من قبل، في 21 آية في العهد الجديد؛ وهي تُترجم ”روحي“ أو ”روحاني“. والثانية ”سوكيكوس“، وقد وردت في 5 آيات؛ وتُترجم ”طبيعي“ أو ”نفساني“. ثم ”ساركيكوس“، وقد وردت في العهد الجديد في 10 آيات؛ وتُترجم ”جسدي“. ولا نجد مقطعًا آخر في كل الكتاب يجمع الثلاث كلمات معًا (الروحي، النفسي، الجسدي) سوى هذا المقطع.
- الرسول يفسِّر عدم قبول الإنسان الطبيعي، أو النفساني، ما لروح الله من إعلانات وأفكار وأقوال، بأنه لا يقدر أن يعرفه!! لماذا؟ يقول: «لأنه (ما لروح الله) يُحكم فيه روحيًا»؛ بمعنى أن ما لروح الله يحتاج إلى جهاز استقبال روحي في كيان الإنسان لكي يقدر أن يستقبله، وهذا غير متوفر في كيان النفساني. وبالتالي فهو ليس ”لا يريد“، كلا، إنه ”لا يقدر“! وعليه أقول: إنك عندما تحاول أن تجعله يفهم ما لروح الله تكون كمن يحاول أن يجعل حصانًا يفهم ما هو الحق والخير والجمال!
- الرسول، وهو يضع الروحي في مقابلة مع الطبيعي أو النفساني، لم يكن يضع مستوى روحي متميز في مقابل مستوى روحي ضعيف، كلا، بل كنوع من الجنس البشري مقابل نوع آخر مختلف عنه تمامًا. ومن هذا نتعلم شيئين في غاية الأهمية، ألا وهما:-
- الروحي ليس هو مستوىً مسيحيًا عاليًاٍ، بل هو ما ينبغي أن يكونه المسيحي في وضعه الطبيعي!
- لا يوجد ما يسمّى ”المؤمن النفساني“؛ لأنه إما أن يكون مؤمنًا أو أن يكون نفسانيًا.
- الروحي «يحكم في (أي يميّز) كل شيء». أي أنه يميّز ما هو روحي وما هو غير روحي. لكن الطبيعي أو النفساني لا يميز أي شيء روحي ويعتبره جهاله.
- الروحي له «فكر المسيح»، وليس فقط يستطيع أن يميّز الأمور الروحية ويقبلها!! هذا دليل على أنه يمتلك حياة المسيح، وإلا لكان من المستحيل عليه امتلاك فكر المسيح. ومن جانب أخر هذا يؤكد استحالة معرفة فكر الله على الإنسان النفساني لأنه لا يمتلك هذه الحياة.
- الرسول لم يستطع أن يكلم المؤمنين في كورنثوس باعتبار هويتهم الروحية الجديدة، لكنه كلمهم كجسديين وليس كنفسانيين. واستعمل هذا الوصف «جسديين» ليرينا عدم وقوفهم في صف الروح القدس ضد هذا الكيان الفاسد الذي فيهم! فقد صارت أنشطتهم الاجتماعية، بل وحتى الكنسية، مسرحًا ومَرتَعًا للجسد يُعبِّر فيه عن نفسه، بدلاً من أن يعبِّر المسيح عن ذاته وحياته من خلال جميع أوجه نشاطهم .
- من هذا نستنتج ايضا أن المسيحي قد يسلك يومًا بحسب الجسد فيكون جسديا، لكن ليس من الممكن أن يرجع ليصبح طبيعيًا أو نفسانيًا. ومن الجانب الأخر ليس من الممكن أن يعيش طول العمر جسدي.
خلاصة:
مما سبق يمكننا وضع هذه الخلاصة:
الروحانية ليست مستوىً روحيًا عاليًا يميّز بعض المسيحيين،
بل هي الهوية الجديدة لكل مسيحي حقيقي.
لكن المسيحيين الحقيقيين يختلفون أحدهم عن الآخر في مقدار العيشة كروحيين.
ومقدار الروحانية في حياة المسيحي يُقاس بقدر المساحة المُتاحة للروح القدس في حياته، لكي ما يظهر من خلالها حياة المسيح التي فيه.
أو بلغة أخرى:
أنت روحاني ليس بقدر معرفتك الكتابية، أو خدماتك الكنسية، ولا بقدر أي شيء آخر؛ إلا بقدر ظهور المسيح في حياتك:
في كلامك وأفكارك، في مشاعرك وأعمالك، في توجّهاتك وأخلاقياتك.
مـــع نفسك ومع أسرتك، مـــــع إخــــــوتــك أو زمــــلاءك،
في الكنيسة أو في عملك، في الخدمة أو في السوق والشارع.
بالطبع هذا الوضع المؤسف لم يستمر كما نفهم من الرسالة الثانية (على سبيل المثال 2كو7: 11)؛ إذ أنهم تابوا وندموا وهذا يؤكِّد أن الجسدانية كانت حالة عابرة وليست عيشة مستمرة.