عدد رقم 2 لسنة 2008
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الإنسان الروحي والمعرفة الكتابيَّة  

المعرفة، بصفة عامة، أمرٌ شيق ومثير، بل ومُلِح؛ فهي تُعطي للإنسان إمكانية لحياة أرقى وأسمى.  وإنْ كان هذا ينطبق على الحياة الزمنية، فبالأولى كثيرًا ينطبق على الحياة الروحيَّة.  فمن خلال المعرفة الصحيحة عن الله، كما هو مُعلن في كلمته، يمكنني أنْ أُكوِّن علاقة صحيحة مع الله، ومع نفسي، وأيضًا مع مَن هم حولي؛ وهذا ما أشار إليه الرسول بولس: «التَّعْلِيمَ الَّذِي هُوَ حَسَبَ التَّقْوَى» (1تي6: 3). 

غير أنَّ هناك خطورة كبيرة في أنَّنا ننجذب نحو المعرفة في حدِّ ذاتها، فما من شك أنَّه لا توجد حياة روحية صحيحة بدون معرفة كتابية صحيحة، ولكن المعرفة الكتابية وحدها لا تصنع إنسانًا روحيًّا، فما أكبر الخطورة من أنْ أقترب من كلمة الله وأتعامل معها كمجرَّد ”علم“، وأفصل نفسي تمامًا عن ما أدرسه.  نعم، إنك ستجد في كلمة الله ما يُبهر وما يُدهش، فلقد شهد عنها المرنِّم قائلاً: «لِكُلِّ كَمَالٍ رَأَيْتُ حَدًّا، أَمَّا وَصِيَّتُكَ فَوَاسِعَةٌ جِدًّا» (مز119: 96)؛ ولكن إنْ لم تجعل كلمة الله تتفاعل أولاً معك شخصيًّا، إنْ لم تنتبه أنَّ كل ما كُتب، كُتب لأجل تعليمنا (رو15: 4)، وليس لأجل ”التعليم“ في حدِّ ذاته، وأنَّ ما بين أيدينا في كلمة الله من أحداث وسِيَر لشعوب أو لأفراد، ليس لمجرَّد أن نتبحَّر في بحثها ونتلذَّذ في سردها، بل «هَذِهِ الأُمُورُ جَمِيعُهَا أَصَابَتْهُمْ مِثَالاً، وَكُتِبَتْ لإِنْذَارِنَا نَحْنُ الَّذِينَ انْتَهَتْ إِلَيْنَا أَوَاخِرُ الدُّهُورِ» (1كو10: 11).

وهذا يجعلنا نتوقف لنتساءل:  هل من أمثلة من كلمة الله تؤكِّد هذه الحقيقة؟  أ يوجد أناس كانت لهم معرفة، ولكن لم يكن لهم جذور روحية، فكانت حياتهم بعيدة تمامًا عن ما حصَّلوه من معرفة، بل وآلت نهايتهم إلى ما يقرب من الدمار والهلاك؟  وعلى النقيض، هل يوجد من كان لهم معرفة، بل واجتهدوا في أنْ تتزايد معرفتهم، وكان نتيجة ذلك أنَّنا رأينا رجالاً أتقياء استطاعوا أنْ يُطبِّقوا ما عرفوه على أنفسهم أولاً، وبالتالي كان تأثيرهم على من حولهم فعَّال ومبارك؟ 

ما أكبر الخطورة من أنْ أقترب من كلمة الله وأتعامل معها كمجرَّد ”علم“، وأفصل نفسي تمامًا عن ما أدرسه.

دانيآل

لقد كان دانيآل دارسًا جيدًا للنبوات، وكذلك كان رؤساء الكهنة وكتبة الشعب أيَّام الرب يسوع بالجسد، ولكن ما أبعد الفارق بين الفريقين.  لقد اعتاد دانيآل من صباه أنْ يُطبِّق كل ما يعرفه من كلمة الله على حياته الشخصية، فلقد عرف من تثنية 32: 38؛ حزقيال 4: 13، 14 أنَّه مكروه عند الرب الأكل أو الشرب مِمَّا ذُبح للأوثان.  من أجل ذلك، عندما تعرَّض للسبي وهو ما زال صبي صغير، استطاع أنْ يرفض ”أَطَايِبِ الْمَلِكِ وَخَمْرِ مَشْرُوبِهِ“، لأنه ببساطة «جَعَلَ فِي قَلْبِهِ».  فلم تكن كلمات الرب بالنسبة له مجرَّد حقائق للذهن يُعجب ويتشدَّق بها، بل وصايا غالية وثمينة، يحرص أنْ يعيشها ويُنفِّذها. 

كما نجده أيضًا قد تعلَّم من كلمة الله، أنَّ الله سامع الصلاة (مز65: 2)، وكم وجد من أمثلة كثيرة في كلمة الله عن رجال ونساء طلبوا الرب، والرب استجاب لهم، كحنة أم صموئيل (1صم1)، وداود الملك (مز34: 4، 6).  من أجل ذلك، حينما تعرَّض هو وأصحابه الثلاثة لموقف لم يسبق لهم أن تعرَّضوا لنظيره من قبل، نجده أيضًا ببساطة يدخل إلى الملك طالبًا مهلة فيها يتضرَّع للرب، ومن ثم يجيبه عن ما يريد (دا 2: 12-18).  لاحظ إنه لم يقُل إنَّه ربما يجيبه أو لا.  إنَّه لم يكن عنده أدنى شك في إجابة الرب له.  إنَّه لم يتعلَّم من كلمة الله مجرد حقيقة أنَّ الله يسمع الصلاة، بل حتمًا اختبر هذا الإله الذي يسمع الصلاة.

وإذ نمت معرفته بكلمة الله، ونضجت حياته الروحية مع الله، وقد انشغل بحال شعبه وهم يُعانون من السبي، نجده ينكَّب على دراسة النبوات، ليعلم ما هو مصير شعب الرب؟  ومن خلال دراسته فَهِم من نبوة إرميا عدد السنين التي بعدها سيُرجِع الرب شعبه إلى الأرض مرة أخرى (راجع دانيآل 9: 2 مع إرميا 25: 11، 12؛ 29: 10).  لم تكن دراسته للنبوات لمجرَّد إشباع رغبة المعرفة عنده، ولا لتُزيده تفوُّقًا وتميُّزًا، بل لتثقُّله بحال إخوته، وتلهُّفه لمعرفة ما سيؤول إليه مستقبلهم، ولذلك بعد أنْ عرف توقيت رجوعهم نتعجَّب مِمَّا قاله وفعله، وهذا ما نقرأه في الأصحاح التاسع من نبوَّته: «فَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَى اللهِ السَّيِّدِ طَالِبًا بِـالصَّلاَةِ وَالتَّضَرُّعَاتِ، بِـالصَّوْمِ وَالْمَسْحِ وَالرَّمَادِ، وَصَلَّيْتُ إِلَى الرَّبِّ إِلَهِي وَاعْتَرَفْتُ، وَقُلْتُ:...» (ع3،4).  ما أروع وأجمل هذا!  إنَّ دراسته للنبوَّات لم تُنشئ منه مجرَّد دارس ومُعلِّم ”لعلم النبوَّات“ إنْ جاز لنا أنْ نقول.  إنَّه لم يتعامل مع النبوَّات كعلم يُدرَّس ويُمحَّص ويُنمَّق، بل ككلمة الله الفاحصة والمقوِّمة.  ولذلك نراه ليس واقفًا يُعلِّم الشعب مبهرًا إياهم بأفكاره المتلاحقة، مبرزًا مفارقات ومبايانات في النبوَّات، بل نسمعه يقول: «وَصَلَّيْتُ إِلَى الرَّبِّ إِلَهِي وَاعْتَرَفْتُ وَقُلْتُ: ...  أَخْطَأْنَا وَأَثِمْنَا وَعَمِلْنَا الشَّرَّ وَتَمَرَّدْنَا وَحِدْنَا عَنْ وَصَايَاكَ وَعَنْ أَحْكَامِكَ...» (ع3-19).  لقد فَطِن دانيآل من النبوَّات أنَّ موعد انتهاء فترة السبي، وعودة الشعب إلى أرضهم قد حانت، وما انشغل به الآن هو تهيئة الشعب بالتوبة والاعتراف ليرجعوا أوَّلاً بقلوبهم للرب، قبل أن يرجعوا بأجسادهم للأرض.  وبصلاة نابعة من قلبه المنكسر، يتوحَّد مع الشعب في تقديم الاعتراف والتوبة للرب.

وببراعة المقتدر في دراسة النبوَّات يذكر في تضرعه أمام الرب: كيف أنَّ اللعنة التي أصابتهم قد سبق الرب وأنبأ بها إنْ حادوا وتحوَّلوا عنه (قارن ع11 مع تثنية 27: 15-26)، وأنَّ ما جلبه عليهم من شر عظيم (ع12 مع مراثي 1: 12؛ 2: 13؛ حزقيال 5: 9)، هو تمامًا ما قد سبق وذُكِر في شريعة موسى (ع13 مع لاويين 26: 14-46؛ تثنية 28: 15-68).  وهكذا تُختم هذه الصلاة الرائعة بتضرُّع أمام الرب: «فَاسْمَعِ الآنَ يَا إِلَهَنَا صَلاَةَ عَبْدِكَ وَتَضَرُّعَاتِهِ وَأَضِئْ بِوَجْهِكَ عَلَى مَقْدِسِكَ الْخَرِبِ مِنْ أَجْلِ السَّيِّد.  أَمِلْ أُذُنَكَ يَا إِلَهِي وَاسْمَعْ.  افْتَحْ عَيْنَيْكَ وَانْظُرْ خِرَبَنَا وَالْمَدِينَةَ الَّتِي دُعِيَ اسْمُكَ عَلَيْهَا» (ع17-19).  هكذا كانت حياة دانيآل دارس النبوَّات، عندما لم ينظر إليها كمجرَّد علم يزداد إثارة كلَّما تعمَّق في دراستها، بل يزداد خشوعًا وتقوى وتكريسًا للرب كلَّما اقترب منها وفكَّ رموزها وربط بينها، من أجل ذلك ليس عجيبًا أنَّ الرب يُصنِّف دانيآل من رجال ثلاثة يخلصون ببرّهم (حز14: 14، 20)!  كما يُضرب به المَثَل في الحكمة (حز28: 3)!

رؤساء الكهنة

وإذ نتحوَّل عن دانيآل التَّقي إلى رؤساء الكهنة، نتعجَّب في البداية من مقدرتهم العجيبة في استيعاب النبوات وحفظها؛ فعندما جمعهم هيرودس ليستخبرهم عن مكان ميلاد المسيح، نجدهم لم يطلبوا مهلة ليرجعوا إلى كتبهم ويبحثوا عن إجابة لسؤاله، بل بادروا مباشرة بالإجابة: «فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ، لأَنَّهُ هَكَذَا مَكْتُوبٌ بِالنَّبِيِّ: وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا، لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ» (مت2: 5، 6).  لقد حدَّدوا الموضع ”بَيْتِ لَحْمِ“، كما أشاروا أنَّ ذلك كان نبوَّة قد ذُكرت «مَكْتُوبٌ بِالنَّبِيِّ»، ثم ذكروا النبوة دون الاحتياج للرجوع إلى نص النبوة، كما هو وارد في نبوة ميخا الأصحاح الثاني، إذ هم يحفظونها عن ظهر قلب! 

لكن السؤال الهام: هل تفاعلوا مع أقوال النبوة؟  هل جَدُّوا بالبحث والتفتيش في صفحات النبوة عن تبعات مجيء المسيح؟  وأي حالة ينبغي أنْ يكونوا عليها لاستقبال المسيح المخلِّص؟  هل اجتهدوا أنْ يُعدُّوا أنفسهم، كما يُعدُّوا الشعب أيضًا - وهذا دورهم كرؤساء كهنة - لاستقبال المسيح؟ 

نتعجَّب أنَّ خبر ميلاد المسيَّا المَلك كان له صدى أكبر عند هيرودس وجميع أورشليم أكثر من صداه عند رؤساء الكهنة، حتى يقول لنا البشير متى: «فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ اضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ» (مت2: 3)، ولم نقرأ أنَّ رؤساء الكهنة اضطربوا عندما سمعوا ذات الخبر!!  فلم تكن دراسة النبوات بالنسبة لهم أكثر من ”علم“، عليهم أنْ يُتقنوه.  إنهم بكل أسف لم يتعلَّموا كما تعلَّم دانيآل من صباه أنْ يتفاعلوا مع كلمة الله ويجعلونها تُجري تغييرًا في حياتهم.  إنهم يعلمون بالتدقيق، أين يولد المسيَّا، ولكنهم لا يريدون أن تكون لهم علاقة بهذا المسيَّا!!

لقد خلق الرب يومًا أعين لمولود أعمى، وجعله يُبصر, وهم يعلمون جيدًا كما ذكر الأعمى نفسه أنه: «مُنْذُ الدَّهْرِ لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ أَحَداً فَتَحَ عَيْنَيْ مَوْلُودٍ أَعْمَى» (يو9: 32)، وهذا صحيح، فهم كدارسين للنبوات يعلمون أنَّه من الأعمال الخاصة بالمسيَّا هو تفتيح أعين العميان (إش35)، فرغم كثرة المعجزات التي صنعها رجال الله من إقامة موتى وتطهير برص وإشباع جموع، لم نقرأ أنَّ أحدًا فتَّح عيني أعمى، من أجل ذلك ارتبك الجيران عندما رأوا المولود أعمى قد أبصر، فلا يستطيع أحد أنْ يفعل ذلك سوى المسيَّا المنتظر.  ولذلك أخذوه إلى قادتهم؛ لعلَّهم يجدون عندهم تفسيرًا لذلك (يو9: 13)، وكنَّا نتوقع من معلّمي ودارسي النبوات أنْ يراجعوا أنفسهم ويعودوا إلى كلمة الله، ويتحقَّقوا أنَّ الذي أمامهم هو المسيَّا الذي تكلَّمت عنه النبوات، ويُقرِّوا أمام الجموع أنَّ الذي فتَّح عيني المولود أعمى هو حتمًا المسيَّا، ولكنَّهم رغم الحقيقة الصريحة التي أمامهم، إلاَّ أنهم لم يريدوا أنْ يعترفوا به، لأنَّ اعترافهم به كالمسيَّا يتطلَّب منهم توبة واعتراف، وبغض للشر والإثم، وهم لا يرغبون في ذلك!

وجدير بالملاحظة أنَّ ذات هذه الحقيقة، وهي مَقدِرة المسيَّا وحده على تفتيح أعين العميان، هي التي صحَّحت مفاهيم يوحنا المعمدان عندما أُلقيَ في السجن، وارتبك من جهة حقيقة شخص المسيح، وأرسل للرب تلميذيه يسأله: «أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟»، فكانت إجابة الرب لهما: «ﭐذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ: اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ...  وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ» (مت11: 2-6).  ولقد قصد الرب أنْ يضع في أولى المعجزات التي يصنعها تفتيح أعين العُمي، وكأنَّه يقول ليوحنا: ”ألاَ تعلم من النبوات أنَّه من خصائص أعمال المسيا هو تفتيح أعين العميان؟!“، وكم هدَّأت أقوال الرب هذه قلب يوحنا المضطرب، ورأى فيها علاجًا لخواطره المرتبكة، وأفكاره المنزعجة، بل يمكنني القول: إنَّه بعد هذه الكلمات استطاع أنْ يواجه سيف هيرودس الدنس بكل شجاعة وثبات، وقد استقر إيمانه من خلال النبوات على حقيقة شخص المسيح.

بل ما أعجب ما يُظهره رؤساء الكهنة من مغالطة فيما يختص بالنبوات، طالما الأمر يرتبط بشخص المسيح، ومسؤوليتهم في الاعتراف به وقبوله، ومن ثم توبتهم، وذلك عندما اعترض نيقوديموس على رؤساء الكهنة والفريسيين، قائلاً لهم: «أَ لَعَلَّ نَامُوسَنَا يَدِينُ إِنْسَانًا لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ أَوَّلاً وَيَعْرِفْ مَاذَا فَعَلَ؟!»، فكانت إجابتهم: «أَ لَعَلَّكَ أَنْتَ أَيْضًا مِنَ الْجَلِيلِ؟  فَتِّشْ وَانْظُرْ!  إِنَّهُ لَمْ يَقُمْ نَبِيٌّ مِنَ الْجَلِيلِ» (يو7: 45-53).  وهل حقًّا هم فتَّشوا ووجدوا أنَّه لم يقم نبي من الجليل؟!  أ لم يكن يونان النبي من الجليل (2مل14: 25) ؟!  وهنا نرى خطورة ثانية، وهي أنَّ رؤساء الكهنة، ليسوا فقط ينظرون إلى النبوات كمجرَّد ”علم“، ولم يحاولوا بل أقول: لم يعتادوا أنْ يتفاعلوا مع كلمة الله ويجعلونها تؤثِّر على كيانهم من الداخل، إنَّما نجدهم أيضًا، لرغبتهم في الاستمرار في شرهم وبُعدهم، ينتقون في دراستهم للنبوات ما يتناسب مع ميولهم واتجاههم الغريب هذا!  إنني لن أقول إنهم لم يعرفوا أنَّ يونان كان نبيًّا من الجليل، وأرادوا أنْ يُغالطوا نيقوديموس في ذلك، بل سأقول إنَّ دراسة نبوة يونان لا تستهويهم من الأصل!  فكيف يتفاعلون مع نبوة تتكلَّم عن تعاطف الله مع مدينة من الأمم؟  وهم قومٌ يعتزون بجنسيتهم وتفوقهم؟!  وكيف يدرسون نبوة تتكلَّم بصورة مباشرة عن بغض الله للشر، وحتمية التوبة والاعتراف ليردَّ الله غضبه ودينونته؟!  إنهم لا يريدون ذلك ولا يرغبون في ذلك! 

لكن إلى أي مصير تعس أوصلتهم هذه الدراسة العقلية والنظرية للنبوات؟  إنَّ المشاعر غير المدرَّبة أمام كلمة الله والتي لم تعتد أنْ تحكم على نفسها، نجدها تمتلئ بالبغضة والغيرة تجاه أطهر وأبر من عاش على الأرض!  وكان لسان حال بعضهم لبعض: «ﭐنْظُرُوا!  إِنَّكُمْ لاَ تَنْفَعُونَ شَيْئًا!  هُوَذَا الْعَالَمُ قَدْ ذَهَبَ وَرَاءَهُ!» (يو12: 19)، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تحوَّلت البغضة إلى حسد مُرّ (مت27: 18)، نتج عنه تآمرهم الشرير لقتله، وقد تمَّ لهم مُرادهم!!

بأي روح نقترب من كلمة الله؟  وبأي كيفية نتفاعل معها كي ما نجعلها تُجري فينا تغييرًا، فتؤثِّر فينا أوَّلاً قبل ما نُؤثِّر بها على الآخرين؟ 

وهنا أتوقف قليلاً في دهشة وحيرة، بل وفي رعب، وأتساءل: من هم الذين قادوا الرب إلى الموت؟  هل هم حثالة المجتمع؟  أم قومٌ محترفون في السطو والاغتيال؟  أقول بكل العجب: لا..  إنَّهم لم يكونوا كذلك، بل صفوة الشعب، قادة الشعب، دارسي النبوات، معلمي الشريعة!!  أ يمكن أنَّ من يتعامل مع كلمة الله بالبحث والدراسة أنْ يصل به الأمر أنْ يخدع نفسه  ومَن حوله إلى هذا الحد، ويشترك في أبشع جريمة عرفها التاريخ على مر العصور؟!  أقول بكلِّ أسف: نعم.  ألاَ يجعلنا هذا نخاف ونسأل أنفسنا بإخلاص:  بأي روح نقترب من كلمة الله؟  وبأي كيفية نتفاعل معها كي ما نجعلها تُجري فينا تغييرًا، فتؤثِّر فينا أوَّلاً قبل ما نُؤثِّر بها على الآخرين؟ 

داود ومدى خضوعه لأحكام الرب

قد يتبادر إلى ذهننا، أنَّ ما نراه من رؤساء الكهنة في عدم تفاعلهم مع كلمة الله ناتج لكونهم من الأساس أشرارًا، ولا نتوقَّع منهم غير ذلك.  لكن قد نُصدم كثيرًا ونحن نتناول شخصية كداود، والذي شهد عنه يومًا الرب قائلاً: «وَجَدْتُ دَاوُدَ بْنَ يَسَّى رَجُلاً حَسَبَ قَلْبِي» (أع13: 22).  إنَّه صاحب اللقب الشهير: ”مُرَنِّمِ إِسْرَائِيلَ الْحُلْوِ“ (2صم23: 1)، وقد استخدمه الروح القدس في تدوين معظم المزامير التي بين أيدينا، والذي في حياته أظهر كثير من التجاوب مع كلمة الله، وكثير من التقدير لأمور الله، غير أنَّه كان هناك أمر غفل عنه تمامًا، ولا سيَّما أنَّه الملك الممسوح من الرب، والذي من واجباته الرئيسية هو أنْ يحكم بين الشعب بحسب أحكام الرب وشرائعه.  وهي كيفية تعامله هو مع أحكام الله؟  ومدى اجتهاده في تطبيق هذه الأحكام على نفسه أوَّلاً، قبل أن يحكم بها على الشعب؟ 

لقد كان حقًّا خبيرًا في أحكام الله، وكيف لا وهو ”مَلك“، فيوم أنْ لبس تاج المُلك، استلم سفر شريعة الرب، فهكذا رتَّب الله (تث17: 18)، ولذلك لم يستغرق وقتًا طويلاً ليحكم على الرجل الغني الذي اغتصب نعجة الرجل الفقير، فنجده وقد حميَ غضبه يصدر حكمه الصارم: «حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ؛ إِنَّهُ يُقْتَلُ الرَّجُلُ الْفَاعِلُ ذَلِكَ، وَيَرُدُّ النَّعْجَةَ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ» (2صم12: 5، 6).  ونتعجَّب من حُكمه هذا، فأنْ يرُدُّ النعجة أربعة أضعاف، فهذا حقًّا ما نصَّت بهِ شريعة الرب (خر22: 1)، ولكن من أين أتى بالحكم أنْ يُقتل سارق النعجة؟  لا توجد شريعة تنصُّ على ذلك، لكن ربَّما أصدر هذا الحكم القاسي، لتعاطفه الشديد مع الرجل الفقير، وإحساسه بقسوة وظلم الرجل الغني في أنْ يسلب من الفقير كل ما عنده، إذ يوضِّح حيثيات حكمه قائلاً: «لأَنَّهُ فَعَلَ هَذَا الأَمْرَ، وَلأَنَّهُ لَمْ يُشْفِقْ» (2صم12: 6)!! 

هل هو حقًّا يُقدِّر أحكام الله ويحترمها، بذات الكيفية التي يريد أنَّ الآخرين يُقدرونها ويحترمونها؟

ونتعجَّب من حُكم المَلك داود خبير الأحكام، والموكَّل من الله ليحكم في قضايا الشعب، فحكم الشريعة حاضر في ذهنه، كما أنَّ له من المقدرة أن يُصدِر حكمًا إضافيًّا بما يتناسب والحالة التي أمامه!  ولكن هل هو حقًّا يُقدِّر أحكام الله ويحترمها، بذات الكيفية التي يريد أنَّ الآخرين يُقدرونها ويحترمونها؟  هل يحرص على تنفيذها سواء على نفسه أو على شعب الرب؟  أم هي بالنسبة له مجرَّد مستندات قضائية، لا يلجأ إليها سوى فيما يختص بالحكم على الشعب، ولا يُفكِّر أنَّه عليه أنْ يخضع هو نفسه وبيته إلى ذات أحكام الله؟!  أ يُدرِك أنَّ ما أظهره من قسوة على الرجل الغني يُزيد من مسؤوليته هو أمام الله، لاستهانته في تنفيذ ذات أحكام الله على نفسه وعلى بيته؟!

هل نفَّذ حكم الشريعة على ابنه أمنون عندما اغتصب أخته ثامار (تث22: 28،29؛ 2صم13)؟  وهل نفَّذ حكم الشريعة على ابنه أبشالوم عندما قتل أخيه أمنون (خر21: 12؛ 2صم13: 29)؟  وهل حكم هو على نفسه عندما أخطأ في حق أوريا، وزنى مع امرأته؟  يا للأسف كان ملكًا، وخبيرًا في أحكام الله، وسريع البديهة في إصدار الأحكام، ولكن بكلِّ أسف ليس على نفسه أو بيته، ولا عجب أنَّ الملك المحبوب داود والذي لم يتعلَّم أنْ يمارس أحكام الله على نفسه وعلى بيته، بل كانت بالنسبة له مجرَّد مادَّة قضائية، يلجأ إليها عند الحكم على الآخرين فقط، عانى كثيرًا نتيجة ذلك، فنجد: ابنة له تعيش بعارها مستوحشة (2صم13: 19، 20)، وابن يستبيح لنفسه أنْ يُخطئ ضد أخته ويموت قتيلاً، وابن ثانِ يثأر لأخته ولا يتورَّع في أنْ يمد يده على أخيه ويقتله، كما لا يتورَّع بعد ذلك على أنْ يرفع يده على أبيه الملك نفسه، يبغي قتله (2صم15)، وابن ثالث يشق عصا التمرد عليه ويُنصِّب نفسه ملكًا في حياته (1مل1: 5)!!  أي نتائج مرَّة حصدها داود، لمجرَّد أنَّه تعامل مع أحكام الله على أنَّها مجرَّد نصوص قضائية يُمارسها على غيره دون أنْ يُخضِع نفسه وبيته لها؟!

يوشيَّا وتأثُّره بشريعة الرب

وعلى النقيض من ذلك نجد ملكًا آخر لم يَحظَ بكل الإمكانيات التي كانت لداود، بل حتَّى شريعة الرب التي كان عليه أنْ يستمدُّ منها فِكر الله وحُكمه، وهو يقود شعب الرب كانت مفقودة، إلاَّ أنَّنا نجده يسعى في بداية مُلكه، وهو بعد صبي صغير في ”عَمَلْ الْمُسْتَقِيمَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ“، وعندما صار شابًا واشتدَّ عوده ابتدأ يسعى لترميم بيت الرب، وعندئذ وُجد سفر شريعة الرب.  وما أروع تعامل الملك الشاب مع شريعة الرب!  فلم تكن بالنسبة له مجرَّد كتاب تاريخ، يحوي تاريخ شعب الرب يتلذَّذ به وهو يتابع أحداثه، ولا مجرَّد كتاب نبوي يُبهَر بما يحويه من نبوات تحقَّقت وأخرى لم تتحقَّق بعد، ولم تكن مجرَّد كتاب أحكام ووصايا؛ يُعجب بدقتها وعدلها، بل وجد فيها كلام الله له شخصيًّا وللشعب الذي معه، وجد فيها الرب مخاطبًا إياه ومخاطبًا الشعب، ولذلك عندما قُرأت على مسامعه أقوال شريعة الرب «مَزَّقَ ثِيَابَهُ، وَأَمَرَ الْمَلِكُ حِلْقِيَّا الْكَاهِنَ ...  قائلاً: اذْهَبُوا اسْأَلُوا الرَّبَّ لأَجْلِي (أولاً)، وَلأَجْلِ الشَّعْبِ (ثانيًا)، وَلأَجْلِ كُلِّ يَهُوذَا، مِنْ جِهَةِ كَلاَمِ هَذَا السِّفْرِ الَّذِي وُجِدَ».  لقد فطن أنَّ ما حدث لآبائه من قضاء كان لأنهم «لَمْ يَسْمَعُوا لِكَلاَمِ هَذَا السِّفْرِ لِيَعْمَلُوا حَسَبَ كُلِّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَلَيْنَا» (راجع 2ملوك 22).  وما أعظم النتائج الرائعة التي صارت للملك يوشيا وللشعب نتيجة تفاعله الرائع مع شريعة الرب، وخضوعه هو والشعب لأحكام الرب (راجع 2ملوك 23)، ولا عجب أنَّنا نراه يعمل فصحًا للرب، يُشهَد عنه أنه: «لَمْ يُعْمَلْ مِثْلُ هَذَا الْفِصْحِ مُنْذُ أَيَّامِ الْقُضَاةِ الَّذِينَ حَكَمُوا عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَلاَ فِي كُلِّ أَيَّامِ مُلُوكِ إِسْرَائِيلَ وَمُلُوكِ يَهُوذَا» (2مل23: 22)!

ما أروع تعامل الملك الشاب مع شريعة الرب! ... وجد فيها كلام الله له شخصيًّا وللشعب الذي معه، وجد فيها الرب مخاطبًا إياه ومخاطبًا الشعب

كلمة أخيرة

أختم حديثي بما بدأت به.  هناك جاذبية وإثارة للسعي وراء كل معرفة جديدة، طالما ستمنحني تميُّزًا وتفوُّقًا.  لكن دعني أهمس في أذنك أخي الشاب:

عندما تجلس أمام كلمة الله، عندما تستمع إلى خدمة مسجلة، عندما تقرأ أحد الكتب الروحيَّة ..  ماذا يعني هذا بالنسبة لك؟ 

هل هو لمجرَّد ازدياد حصيلة معلوماتك الكتابية لتساعدك على تحقيق أغراضك الخاصة لمزيد من الشهرة والنشوة؟ 

هل تتعامل مع كلمة الله على أنَّها كلام الله الموجَّه لك شخصيًّا، فتساعدك على تغيير منهاج حياتك، أم على أنها مادة تستخدمها في الوعظ فحسب، وبذلك تجتهد في دراستها لتحقيق هذا الهدف، فبدون أنْ تشعر تتعامل معها كمجرَّد حقائق وتعاليم ليس أكثر؟! 

عندما قصد الرب أنْ يُعطينا أنفاسه؛ وحي الله، لم يكن يقصد أنْ يكتب لنا كتابًا علميًّا يحوي حقائق ومعلومات، نتعامل معها فقط للبحث والدراسة المجرَّدة، إنَّ كلمة الله لم تكن قط مجرَّد أحرف وكلمات أتكلَّم عنها، ولا أجعلها تتكلَّم إليَّ!  أخاف أنْ ينطبق علينا كلمات الرسول: «لأَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ سَامِعًا لِلْكَلِمَةِ وَلَيْسَ عَامِلاً، فَذَاكَ يُشْبِهُ رَجُلاً نَاظِرًا وَجْهَ خِلْقَتِهِ فِي مِرْآةٍ، فَإِنَّهُ نَظَرَ ذَاتَهُ وَمَضَى، وَلِلْوَقْتِ نَسِيَ مَا هُو» (يع1: 23، 24). 

ليتَ الرب يُصحِّح مفاهيمنا، ويُعيد لكلمة الله سلطانها وتأثيرها على حياتنا، فتُشكِّل فينا وتُعيد تأهيلنا، لنكون بحق أواني نافعة للسيد مستعدَّة لكلِّ عمل صالح.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com