عدد رقم 2 لسنة 2008
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الروحاني والانفصال  

إن الإنسان الروحي ليس شخصًا خياليًا حالمًا، يحلِّق فى أجواء عالية وحده، ويعيش فى برجٍ عالٍ منفصلاً عن العالم والناس من حوله؛ لكنه يعيش في العالم ويتواصل مع الناس، دون أن تتسرب إلى قلبه وحياته مبادئ العالم وتوجّهات الناس.  فليس قصد الله لنا أن يجعل منا جُزُرًا منعزلة عن العالم، بل على النقيض تمامًا من ذلك قال الرسول بولس «تضيئون بينهم كأنوار في العالم» (في2: 15)، وقال المسيح لأتباعه «أنتم ملح الأرض، ولكن إن فسد الملح بماذا يملح ؟...  أنتم نور العالم، لا يمكن أن تُخفى مدينة موضوعة على جبل، ولا يوقدون سراجًا ويضعونه تحت المكيال، بل على المنارة فيضيء لجميع الذين فى البيت؛ فليضئ نوركم هكذا قدام الناس» (مت 5: 13-16).

فالإنسان الروحى يحتكّ بالعالم وأهله، شاهدًا فيه لنوعٍ آخر - نوع راقٍ - من الحياة لا يعرفه أهل العالم، فينشئ فيهم شوقًا إلى اختباره.  وهو يعلن نوعًا آخر من التوجّهات لا يتوقعه الناس ولا يخطر لهم على بال.

وفي هذا المعنى يكتب الرسول بولس إلى أهل أفسس «لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدّها لكي نسلك فيها» (أف 2: 10).  ونعرف أن كلمة ”عمله“ هنا، تعنى ”تحفته الرائعة“.  وما الفائدة من أن يصنع المرء آلة جميلة غاية فى الإبداع في تصميمها وفي دِقّتها ثم يضعها فى مكان منعزل ليتفرج عليها دون أن يستخدمها أو يوظِّفها؟!  إن الله قد أعدَّ لنا عملاً، وجهَّز لنا رسالة نؤديها فى هذا العالم، وجهَّزنا وأعدَّنا لننهض بهذه الرسالة. 

وفى هذا المعنى أيضًا يكتب إلى أهل كورنثوس «إذًا نسعى كسفراء عن المسيح، كأنّ الله يعظ بنا» (2كو5: 20).  لسنا نحن الذين نعظ، لكننا العظة التى يقدِّمها بنا الله أثناء وجودنا في العالم، ونحن أيضًا رسالته «ظاهرين أنكم رسالة المسيح» (2كو3: 3).  إن السفير يعيش وسط الناس فى البلد الموفَد إليه، ويتفاعل معهم، وإن كان لا ينتمي إلى ثقافتهم، وله وطن آخر وثقافة أخرى؛ لكن عليه أن يمثِّل دولته خير تمثيل. 

المؤمن الروحي دعوته سماوية وسيرته فى السماويات وحياته الحقيقية مستترة مع المسيح الممجَّد فى السماء، لكن مسيرته هي هنا على الأرض، وهي مسيرة تشهد لوطنه السماوي.

والمؤمن الروحي دعوته سماوية وسيرته فى السماويات وحياته الحقيقية مستترة مع المسيح الممجَّد فى السماء، لكن مسيرته هي هنا على الأرض، وهي مسيرة تشهد لوطنه السماوي.  وهو له وطن هنا على الأرض، لديه التزامات تجاهه.  وحوله بشر هو، بصورة أو بأخرى، مسؤول أن يخدمهم ويسدّد احتياجاتهم الروحية والمادية أيضًا، قدر ما يستطيع، وبينما هو فاعل هذا، يشهد لسيده، ويقدِّم المسيح ظاهرًا في حياته. 

والإنسان الروحي ليس شخصًا منكفئًا على ذاته.  يقضي كل وقته في الصلاة وقراءة الكتاب المقدس لتسديد احتياجاته الروحية، مهملاً لرسالته في العالم وسط الناس؛ إن هذا نوع خاص من الأنانية.

إن الغذاء الروحى ليس فقط في الصلاة وقراءة الكلمة، على أهميتهما البالغة، لكن هو أيضًا في تنفيذ إرادة الله في حياتنا.  فما أروع قول السيد «طعامى أن أعمل مشيئة الذي أرسلني، وأُتمِّم عمله» (يو4: 34).  وما أجمل التوازن البديع في حياته!  لقد كان وقته مشحونًا بالعمل بين الناس ولأجلهم من الصباح إلى المساء «الذي جَال يصنع خيرًا، ويشفي جميع المتسلِّط عليهم إبليس» (أع 10 : 38)، لكنه كان متمتّعًا بكمال الشركة مع أبيه، وكان يعتزل الناس كثيرًا ليصلّي دون أن تطغى خدمته على شركته أو العكس. 

إن العمل الذي يعطيه الله لنا في هذا العالم ليس شيئًا ثانويًا أو هامشيًا.  فلقد تعوَّدنا أن يقتصر مفهومنا للخدمة على أنها الخدمة الروحية فقط، سواء خدمة الكلمة أو التدبير أو العمل الفردي، ولم نتعود على النظر إلى أعمالنا اليومية التي أعطانا الله إياها على أنها على نفس الدرجة من الأهمية لمجد الله ولبركة إخوتنا في الرب، أو إخوتنا بالمفهوم الإنساني العام.  لقد تعوّدنا على التقسيمات الحادة القاطعة، والأحكام النهائية؛ فهذا خادمٌ للرب وهذا شخص مهني ناجح (مثلاً)..  لماذا لا يكون الإنسان ناجحًا في عمله الزمني وفي الوقت نفسه خادمًا أمينًا مطيعًا للمسيح. 

فالخُدّام ليسوا فقط هم من تفرغوا للخدمة الروحية، بل إن كل مؤمن بالمسيح سكن فيه الروح القدس هو خادم للمسيح في مجاله، وكل واحد له رسالته الخاصة.  ولو هجر العالِم المؤمن أبحاثه، والطبيب المؤمن مستشفاه ومرضاه، والمحامي المؤمن مكتبه، ليقوموا بالخدمة الروحية متفرغين؛ لخسرنا، وخسر العالم، الكثير. 

نحن نحتاج في حياتنا اليومية إلى الطبيب والمحامي والمهندس والعامل والعالِم؛ فماذا لو كان هؤلاء جميعًا مؤمنين مكرَّسين؟!  لِمَ لا تكون البركة لنا وللناس من حولنا، ونحن نأخذ في حياتنا اليومية بالتقدّم العلمي ومعطياته الحديثة، وبالتكنولوجيا المتقدِّمة في كافة المجالات.  فهل ينبغي أن نبقى مستهلكين لهذا كله، أم نحن نشارك في صنعه لا فى استخدامه فقط؟

إن الإنسان الروحي هو الذي يسلِّم القيادة للروح القدس في حياته وفي خدمته، لكن هل يتعارض هذا مع كونه يأخذ بالتفكير العلمي والتجريبي، ومع أن يكون له العقل المنطقي النقدي والقدرة على الحكم الموضوعي في الأمور؟!

الروحي يسلِّم القيادة للروح القدس في حياته وفي خدمته، لكن هل يتعارض هذا مع كونه يأخذ بالتفكير العلمي والتجريبي، وأن يكون له العقل المنطقي النقدي والقدرة على الحكم الموضوعي في الأمور؟!

إن الله، حين يطلب منا أن نقدم أجسادنا له ليستخدمها، وعندما يطلب منا أن نمجِّده في أجسادنا وأرواحنا التي هي له، فهل يريد أن نقدِّم له أجسادًا هزيلة لا تصلح لشيء؟  وعقولنا - وهي بعض أجسادنا - هل نقدِّمها له عقولاً فارغة، أم عقولاً متسلّحة بالعلم والمعونة والخبرات؟!

إن الله أعطانا عقولاً لها إمكانيات مذهلة وقدرات متنوعة ومتنامية، وهو يطلب منا أن ننمّي عقولنا ومداركنا وخبراتنا الحياتية، حتى يستخدمها جميعًا لمجده.

وفي الحقيقة أن الكتاب المقدس، والحياة العملية أيضًا، يحفلان بالأمثلة على رجال مكرَّسين لله وفي نفس الوقت لهم إسهامات مرموقة في العالم، فلا تعارض - أو لا ينبغي أن يكون - بين كون الإنسان ناجحًا روحيًا وكونه ناجحًا في مناحي الحياة العملية أو العلمية.

كان يوسف «رجلاً فيه روح الله»، على حدِّ تعبير فرعون، وكان متسلّطًا على كل أرض مصر، وأطلق عليه فرعون اسم «مخلّص العالم».  وكان داود رجلاً بحسب قلب الله، وكان ملكًا.  وكان دانيآل التقي والفتية الثلاثة على ولائهم وتكريسهم لله «حاذقين في كل حكمة وعارفين معرفة وذوي فهم بالعلم» (دا 1: 4)، وقد تبوّأوا أعظم المناصب في بابل. 

ويعرف التاريخ مسيحيين مكرسين وعلماء ورجال دولة ورؤساء دول وملوك، وهم في نفس الوقت رجال الله.
ولولا أننا لا نرغب في تمجيد الناس لَذَكرنا أمثلة حيّة معاصرة لإناس روحيين ناجحين وبارزين، وهم بركة فى الأوساط التى وُجدوا فيها.  بل إني أقول إن النجاح في الحياة العملية - على نحو ما - يعطي مصداقية واحترامًا للشخص في خدمته الروحية. 

إن الأمر في النهاية يحتاج توازنًا دقيقًا..  كيف أحيا في العالم، وفي نفس الوقت أنفصل عن مبادئه.  وكيف أحتَّك بالناس، دون أن تتسرب إلى حياتي أهدافهم وتوجهاتهم..  هذا هو التحدّي الحقيقي. 

إن مبادئ العالم تجعل من الذات محورًا، وبالتالي فالدوافع كلها دوافع أنانية.  فالناس في العالم تتحرك مدفوعة بحب الظهور وتعظيم الذات ونوال المديح والشهرة وجمع المال دون قيود أو ضوابط.  وحيث الغايات، في أحيان كثيرة، تبرِّر لهم الوسائل.  أما رجال الله الأتقياء فتحرِّكهم المحبة لله، والمحبة للناس الذين خُلقوا على صورة الله، ويحرِّكهم مجد المسيح ورغبتهم في إظهاره للعالم والاستخدام الأمثل للوزنات التي ائتمنهم الله عليها؛ وفي سبيل تحقيق غاياتهم فإنهم يتبعون أنبل الوسائل. 

خلاصة القول: إن الإنسان الروحي يرفض مبادئ العالم، لكنه لا يرفض معارفه وخبراته وبعض فنونه؛ بل يأخذ بها ويطوِّعها ويستخدمها لمجد المسيح.  والإنسان الروحي لا ينعزل عن أهل العالم ولا يرفضهم بل يتواصل معهم، في حين يرفض شرهم وخطيتهم.  إنه يخالطهم ولكن لا يختلط بهم. 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com