أشرنا فيما سبق عن صمت الحمامة، كما عرفنا أن الكتاب يشير إلى صوت أو هدير الحمامة أكثر من مرة، حيث أنه في كل مرة يحمل هديرها معنًى خاصًا، ولقد تكلمنا أيضًا عن ثلاثة أنواع من الهدير في المقال السابق، والآن نستكمل حديثنا عن باقي هذه المرَّات:
4- التَحسُّر على أمجاد قد زالت
«وهُصَّب (سيدة القصر) قد انكشفتْ (صارت عارية). أُُطلِعَتْ (سيقت للأسر). وجواريها تئن كصوت الحمام ضاربات على صدورهنَّ» (نا2: 7).
إننا أمام حالة تختلف تمامًا عن كل ما سبق، فالهدير هنا ليس صادرًا من شعب الرب، كما أنه ليس ناتجًا عن معاملات تأديبية، الغرض منها هو تصحيح مسار الشعب، والارتقاء بهم روحيًا، إنما نحن أمام قضاء الله على مدينة أممية، والتي كانت عاصمة الإمبراطورية الآشورية، وما نسمعه من هدير هنا، إنما صادر من جواري القصر تحسرًا على ما أصاب المدينة من خراب ودمار، وما آل إليه عظماؤها وأشرافها.
إن سفر ناحوم بأكمله مشغول بفكرة واحدة، ألا وهي القضاء والدمار الذي سيقع على هذه المدينة، حتى أن ناحوم يستهل سفره بالقول: «وحي على نينوى».
وقد نتعجب أن نرى الكاتب الإلهي يخصِّص سفرًا بأكمله للحديث عن خراب هذه المدينة الأممية، كما نجد أيضًا صفنيا يشير في سفره إلى ذات الخراب الذي سيحل عليها (صف2: 13-15).
وقد يزول تعجبنا إذا عرفنا وضع ومركز نينوى، سواء بالنسبة لمكانتها التاريخية أو بالنسبة للرب نفسه. لم تكن نينوى مجرد مدينة عادية، بل كانت من أعظم وأكبر المدن آنذاك. (كانت مساحتها تبلغ 100- 120 كم «مسيرة ثلاثة أيام» (يون 3:3)؛ ومسيرة اليوم الواحد حوالي 33-40 كم، وتعداد سكانها أكثر من 120 ألف نسمة، فكانت بحق فخر وزينة الممالك.
لكن هناك أمر آخر يجعل لهذه المدينة مكانة خاصة، وهو اهتمام الرب الخاص بها، ألم يرسل إليها يونان النبي مناديًا بخرابها، وكان قصده من ذلك أن يقودهم للتوبة والتذلل، وبذلك لا يوقع عليهم دينونته، وهذا حقًا ما حدث كما نفهم من سفر يونان، حتى أن يونان اغتاظ من ذلك، وكان جواب الرب له يُظهر مدى إشفاقه ورأفته عليهم (يون4: 9-11).
غير أن توبة هذه المدينة لم تدم كثيرًا، وسريعًا ما طغى الشر والفساد، وعم الدنس والنجاسة مرة أخرى، ولذلك يأتي الحديث في سفر ناحوم عن خرابها الحتمي والنهائي.
والآية موضوع تأملنا تُصوِّر لنا جزءًا من مشهد خراب هذه المدينة المتباهية، فها سيدة القصر، بكل ما لها من عظمة وجاه، والمحاطة بكل أنواع الترف والبزخ، ها قد صارت عارية، تُقاد بكل احتقار وازدراء إلى السبي، حتى أن جواريها من هول ما شاهدوه لم يستطعن أن يُخرجن أصواتًا تعبر عما بداخلهن من لوعة وأسى وحسرة، بل كل ما سُمع منهن كان مجرد أنين (كهدير الحمام)، وهنَّ يضربن على صدورهنَّ.
كيف لا وكل شيء قد انهار وضاع وتلاشى، وأمست هذه المدينة العظيمة –كما يُصورها ناحوم «فراغ وخلاء وخراب، وقلب ذائب وارتخاء رُكب ووجعٌ في كل حقوٍ. وأوجه جميعهم تجمع حُمرة» (نا 10:2)، وكما يصورها صفنيا «خرابًا، ومربضًا للحيوان! كل عابر يصفر ويهز يده» (صف 15:2).
نعم هذه هي النهاية الحتمية لأمجاد هذا العالم الزائلة. فمَنْ كان يتصوَّر هذه النهاية المأساوية لمدينة متعاظمة كنينوى. لقد انطبق عليها القول: «حينما يقولون: سلام وأمان، حينئذ يفاجئهم هلاك بغتةً، كالمَخاض للحبلى، فلا ينجون» (1تس5: 3). أليس هذا هو الدرس المتكرر على مر الأجيال والدهور؟
فما حدث هنا من خراب ودمار سريع لمدينة عظيمة ومقتدرة كنينوى، نراه يحدث أيام بيلشاصر الملك، لمملكة بابل المتشامخة. ففي ليلة مجده وعظمته والتي فيها صنع وليمة لعظمائه الألف، قُتل وانتهى ملكه، بل وانتهت مملكة بابل إلى الأبد، مفسحة المجال لبداية مملكة جديدة، هي مملكة مادي (دا 5: 1، 30، 31).
مسكين الإنسان الذي يتناسى جبلته الهشة، ويتجاهل أن حياته هي مجرد بخار يظهر قليلاً ثم يضمحل (يع4: 14)، يقول الرسول بطرس: «كل جسد كعشب، وكل مجد إنسان كزهر عشب. العشب يبس وزهره سقط» (1بط1: 24). (راجع أيضًا مز102: 11،103: 15).
ألم يُمنِّي الغني نفسه، عندما أخصبت كورته بحياة مترفة قائلاً: «يا نفسُ لك خيرات كثيرة، موضوعة لسنين كثيرة. استريحي وكلي واشربي وافرحي!». غير أنه سمع صوت الله القاطع والصريح: «يا غبي! هذه الليلة تُطلب نفسك منك، فهذه التي أعددتها لمَنْ تكون؟». ويُعلِّق الرب على ذلك بالقول: «هكذا الذي يكنز لنفسه وليس هو غنيًا لله» (لو 16:12-21).
إن كان هذا هو حالة العالم ونهايته الحتمية. الأمر الذي أكده الرسول يوحنا «العالم يمضي وشهوته»، فأي حياة ينبغي أن نعيشها؟ يقول الرسول بطرس في هذا الصدد: «ولكن سيأتي كلص في الليل، يوم الرب، الذي فيه تزول السماوات بضجيج، وتنحل العناصر محترقة، وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها. فبما أن هذه كلها تنحل، أيّ أُناس يجب أن تكونوا أنتم في سيرة مقدسة وتقوى؟» (2بط3: 10، 11).
لقد خسر لوط كثيرًا عندما ورَّط نفسه واندمج مع أهل سدوم الأشرار (تك13: 13)، وارتضى أن يسكن في وسطهم، وأن يربط مصيره بمصيرهم. إذ أن عيني إيمانه لم تستطعا أن تريا ما رآه إبراهيم .. «المدينة التي لها الأساسات، التي صانعها وبارئها الله» (عب11: 10). وبدلاً من أن يسكن مع عمه إبراهيم في خيام، بنى لنفسه بيتًا في سدوم (راجع تك14: 12 مع تك19: 2، 4)، متجاهلاً مركزه كغريب ونزيل في الأرض، إذ كان يأمل في أن يجد هناك الغنى والكرامة والراحة, غير أنه رأى بعينيه دمارها وخرابها؛ «دخانها يصعد كدخان الأتون» (تك19: 28)، كما خسر امرأته، والتي صارت على مر الأجيال عبرة لمن يعتبر (لو17: 32)، كما خسر طهارة ابنتيه اللتين تدنست أفكارهما من مخالطة أهل سدوم الأشرار.
ليتنا ونحن نستمع إلى هدير الجواري هنا، من ناحية نتحذر، فندرك بُطل وخواء هذا العالم، والذي نهايته حتمًا الخراب والدمار، فنأبى كل عطاياه، ونضم صوتنا مع دانيال الحكيم، قائلين لكل من يحاول أن يغرينا بمباهج زائلة: «لتكن عطاياك لنفسك وهب هباتك لغيري» (دا5: 17). ومن ناحية أخرى نُعظم نعمة الرب، إذ أن ما نتوقعه بالإيمان ليس ملكوتًا أرضيًا، مصيره الضياع والدمار، بل ملكوتًا سماويًا ثابتًا ثبات الأزل، وبذلك نضم صوتنا مع الرسول بولس المغبوط قائلين: «ونحن قابلون ملكوتًا لا يتزعزع، ليكن عندنا شكر به نخدم الله، خدمة مرضية بخشوع وتقوى» (عب12: 28).
(يتبع)