عدد رقم 6 لسنة 2005
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
لا تشاكلوا هذا الدهر   من سلسلة: ما يسبق إختبارنا لمشيئه الله

بعد استعراض بديع لإنجيل الله، وعلاجه لأكبر مشكلتين تواجهان الإنسان وهما: الخطايا الفعلية، والخطية الساكنة فيه، حق للرسول بولس أن يختم رسالة رومية بالتحريض علي حياة التكريس الكامل للمسيح.  وفي افتتاحية هذا القسم العملي من الرسالة (رومية 12) ربط الرسول سريعًا بين حتمية التكريس للرب من الجهة الواحدة، وبين اختبارنا لإرادة الله الصالحة المرضية الكاملة من الجهة الأخرى في عدد واحد هو العدد الثاني.

هناك الملايين يعيشون في هذا العالم بلا هدف.  وهناك الملايين غيرهم يعيشون لأجل أهداف واهية أو رخيصة.  في حين يفتقد هؤلاء وأولئك الهدف السامي الذي لأجله خلق الله الإنسان منذ البدء ألا وهو «مجد الله» (إش43: 7)، فالإنسان – من زاوية أساسية– قصد الله أن يكون «هو صورة الله ومجده» (1كو11: 7).  وكل من لا يبحث عن غرض الله من وجوده في هذا العالم، نشك بشدة في صحة إيمانه وأصل علاقته مع الله من الأساس.

وحكيم ذلك المؤمن الذي يعرف أن لله غرضًا من حياته.  لكن المشكلة هي إننا نجتهد بشدة أحيانًا للبحث عن فكر الرب من جهة أمر معين، في حين نحيا نحن بعيدين عن فكر الله في شتى نواحي الحياة‍‍‍‍!  وعبثًا اجتهادنا حينئذٍ‍‍!  ولتوضيح هذه الفكرة بأكثر تفصيل دعنا أولاً نلقي نظرة على ترتيب الأفكار الإلهية في هذه الأعداد المقدسة:
«فأطلب إليكم أيها الأخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة، مرضية عند الله عبادتكم العقلية. ولا تشاكلوا هذا الدهر.  بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم.  لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة» (رو12: 1، 2).

  ***

* ترتيب الكلام.. وترتيب الأوضاع:
لعلنا لاحظنا ترتيب الأفعال في العدد الثاني:

  1. لا تشاكلوا ..                  
  2. تغيروا ..                   
  3. لتختبروا ..

وعبثًا نحاول كمؤمنين اختبار مشيئة الله، قبل أن نتعلم:

أولاً:  أن لا نشاكل هذا الدهر.
ثانياً: أن نتغير بتجديد أذهاننا.

قد نُكثِر الأصوام، ونُطِيل الصلوات، ونُكثِر التفكير والمناقشات، ومع الخدام نُكثِر الأسئلة والجلسات، ونحضر الفرص الروحية ونسمع العظات، ونقرأ الكتب والمحاضرات.  ولكن دون مراعاة هذا الترتيب ستضيع جهودنا هباءً، ولن نجني في النهاية ثمرًا يذكر.

إنني كمؤمن حقيقي، استفدت فعليًا من «إنجيل الله»، فمن المنطقي أن اشتاق طواعية لحياة التكريس: التفاني في عمل مشيئة الله (العدد الأول).  وهذا يدفعني تلقائيًا إلى التساؤل عن هذه المشيئة في حياتي، فيأتي العدد الثاني ليقدم لي الجواب «كيف تختبر» هذه الإرادة الصالحة والمشيئة الإلهية.

مشاكلة هذا الدهر:

لكن ماذا يعنى أن لا نشاكل هذا الدهر؟؟

يلزمنا مبدئيًا التوقف أمام كلمتي: «مشاكلة»، و«الدهر» لنفهم المعنى المقصود بدقة.
كلمة«مشاكلة» تعني حرفيًا: مطابقة، أو مشابهة تامة، وهي ترد بنفس المعني في ترجمة داربي الإنجليزية (confirm).

أما كلمة «الدهر» فالمقصود بها هنا – كما في عدد من المواضع الأخرى في العهد الجديد – ’العالم‘؛ النظام الذي أسسه ويرأسه الشيطان ليحتفظ بالإنسان بعيدًا عن الله.  وقد وردت – كما أسلفنا – أكثر من مرة بهذا المعنى، فإبليس مثلا هو «إله هذا الدهر (أي العالم)» (2كو4: 4). «وكل ما في العالم: شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظم المعيشة ليس من الآب بل من العالم. والعالم يمضي وشهوته» (1يو2: 16، 17، انظر أيضًا يع5: 4).

ومن الملاحظ أن التحريض على عدم المشاكلة ورد مرتين فقط في كل العهد الجديد:

  • المرة الأولى ذكرها الرسول بولس – هنا – بخصوص عدم مشاكلة العالم.
  • والمرة الثانية استخدمها الرسول بطرس بخصوص ’الجسد‘ الذي فينا إذ يقول: «كأولاد الطاعة لا تشاكلوا شهواتكم السابقة ‍في جهالتكم.  بل نظير القدوس الذي دعاكم، كونوا أنتم أيضاً قديسين في كل سيرة» (1بط1: 14، 15).

فنحن المؤمنين، قصد الله في اختياره وتعيينه لنا أن نكون مشابهين صورة ابنه (رو8: 29) لا مشاكلين هذا العالم في مبادئه.

تخيلّ لو أن سفيرًا لدولة عظمى، راقية ومتحضرة، يرتضي أن يشابه أهل البلاد التي هو مُوفَد إليها، وتلك الأخيرة ما هي إلا بلاد متخلفة وفقيرة، يعمها الجهل وتسودها عادات بدائية!  إنك لو أمكنك أن تستسيغ وضعًا كهذا، فإنه محال أن يقبل عقلك أن أشخاصًا سماويين، ليسوا من هذا العالم (يو17: 14، 16) يعيشون على كوكب الأرض وقدوتهم: سكانها، فيحتذون بعادات شعوبها!!  إن هذا التشبيه البسيط لهو أقل جدًا من الواقع.  فنحن المؤمنون هنا لسنا فقط نسعى كسفراء عن المسيح، ولكننا نقول إننا مرسلون إلي العالم من قبل المسيح شخصيًا، وذلك حسب صريح كلماته هو – له المجد – «كما أرسلني الآب، أُرسلكم أنا» (يو20: 21).  فيا لشرف الامتياز!  ويا لجسامة المسئولية في آنٍ واحد!

إن مشاكلة هذا العالم، بناسه وأفكاره لهي خطية عظمي، وخسارة فادحة، وعدم تقدير لما أوصلتنا إليه نعمة الله ليس من جهة مقامنا الشرعي فحسب، ولكن أيضًا من جهة دورنا وتأثيرنا هنا على الأرض، وفوق الكل عدم تقدير لرفض هذا العالم لسيدنا وربنا المعبود، فالصليب فصل بيننا وبين هذا العالم أدبيًا وروحيًا (غل6: 14)، وبعمل الصليب أنقذنا المسيح من هذا العالم الحاضر الشرير.

لقد شاكل لوط في يومه هذا الدهر، فخسر شهادته، وخسر مكافأة الأمانة، خسر عائلته، وخسر كرامته، خسر أفراحه، وخسر كل ممتلكاته، خسر زوجته، وخسر شرفه، بالإجمال: خسر كل شيء ما عدا نفسه، لا لشيء إلا لأنه كان بارًا ولكن بكل أسف – «معذباً»! (2بط2: 7، 8).

على النقيض من ذلك يقف أبو المؤمنين إبراهيم، الذي عرف أنه ليس إلا غريبًا ونزيلاً، فلم يطبعه العالم بطباعه، بل ترك هو تأثيره على العالم المحيط به كرئيس من الله بينهم (تك23: 6).  وما أبعد المباينة!  تُرى في أي جانب تقف أنت الآن أيها القارئ المؤمن؟ والآن، وبعد أن فهمنا من ترتيب الكلام أن مُشاكلة هذا العالم تعطِّل اختبارنا لمشيئة الله، نأتي إلى السؤال التالي:

كيف تُعطِّل مشاكلة هذا الدهر اختبارنا لمشيئة الله؟

أو دعنا نُصيغ السؤال بشكل آخر فنقول: كيف أعرف إن كنت أحيا مُشاكلاً لهذا العالم أم لا؟  أو بلغة أكثر تفصيلاً: ما هي أوضح الصور المنتشرة بيننا وحولنا التي يمكننا أن نرى فيها بوضوح: مشاكلة هذا الدهر؟

أُلخصها للإيجاز في ثلاث دوائر رئيسية، أحسب أنها الأهم، والأكثر شيوعًا.

  • مُشاكلة هذا الدهر دينيًا  (العالم الديني).
  • مُشاكلة هذا الدهر أدبيًا  (المبادئ الأدبية لهذا العالم).
  • مُشاكلة هذا الدهر اجتماعيًا  (المبادئ الاجتماعية التي تحكم أهل العالم).
    ولنعد إلى هذه الثلاثية الخطيرة بشيء من التفصيل في العدد القادم إنشاء الله.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com