مذكرات الراحل الكريم كتبها بخط يده قبل رحيله بعام واحد

رسالتي إلى شباب العصر الحديث، رسالة عجوز قارب التسعين من العمر.  وطالت به الأيام ليرى الجيل الرابع.  حقًا لقد تغيرت الأيام والمفاهيم والاكتشافات العلمية والآداب السلوكية.  لقد وصل الإنسان إلى قمة التكنولوجيا ليعرف أسرار الكون، ويعيش على مستوى راقٍ من الرفاهية.  لكنه رغم ذلك لم يصل إلى معرفة سر السلام والسعادة الحقيقية.  فالفراغ في نفسه يزداد عمقًا، والمخاوف والأحزان في كل مكان، والإحباط في كل اتجاه، والمشاكل تزداد تعقيدًا، والأسر تزداد تفككًا.  والسبب في كل ذلك أنه فقد البساطة والتواصل مع الله والعلاقة الصحيحة معه.  وقد تسألونني: هل وصلت أنت إلى سر السلام والسعادة الحقيقية؟ أقول لكم بكل يقين: نعم.  إذ عرفت الله الحي الحقيقي.  وكيف كان ذلك؟

نشأتُ لا أعرف الله ولا الكتاب المقدس.  وذات يوم دخلت اجتماعًا وفيه سمعت لأول مرة قصة الابن الضال (لو 15).  وكان ذلك في شبابي المبكر.  وعرفت أن الله يحبني رغم شري وخطاياي وابتعادي وأنه ينتظر رجوعي ليغمرني بالقبلات ويمتعني بالغفران،  ويكسوني بالبر ويقدم لي الطعام الفاخر.  دخل كلامه إلى قلبي وركعت مصليًا طالبًا رحمته ليقبلني في الدم الكريم الذي سُفك عني.  ومنذ ذلك الحين صرت ابنًا لله واختبرت محبته المترفقة واعتناءه بي في كل مراحل حياتي:

أولاً: في الدراسة.  دخلت كلية الطب البيطري، والدراسة بها صعبة لأنها تتعامل مع الحيوانات والطيور العجماء، وليس مع الإنسان الذي يتكلم ويعبِّر عن شكواه واحتياجاته.  وأتذكر أني في السنة النهائية وفي آخر امتحان تعرضت لوعكة مرضية شديدة.  ولكنني تحاملت على نفسي-رغم الإعياء الشديد- وذهبت ليس لأؤدي الامتحان، بل لكي أطلب تأجيله.  وعندما وصلت، وجدت نفسي بتلقائية أدخل لجنة الامتحان ونسيت أن أطلب التأجيل.  دخلت واتكلت على الرب.  أتعرفون ما حدث؟ لقد حصلت على 96% من الدرجات في هذا الامتحان، وكنت أهلل من الفرح بالرب الذي وقف معي وقواني.

ثانيًا: في العمل.  نظرًا للبطالة الشديدة في ذلك الوقت، لم تكن فرص العمل متاحة، فالتحقت بالتدريس، وكنت أدرِّس العلوم في مدرسة خاصة مسيحية بمرتب ضئيل جدًا، وكنت أدرِّس كذلك الدين المسيحي مما أعطاني فرصة أن أشهد عن الرب وأحدِّث تلاميذي عنه.  وجاءتني فرصة نادرة إذ طُلبت لأعمل كطبيب في مصلحة الطب البيطري وكان هذا شيئًا عظيمًا وبمرتب أفضل جدًا مما كنت أتقاضى في عملي كمدرس، ولكن الرب أقنعني أن أرضى بالقليل في هذه المدرسة وأستمر في خدمتي ورفضت الوظيفة الحكومية.  وكان التعويض الروحي بالنسبة لي أفضل كثيرًا من أي مال أو مركز.

ثالثًا: في الزواج.  كنت عازفًا عن الزواج، لأني كنت مُعجبًا بالرسول بولس الذي عاش مكرسًا نفسه للرب ولم يتزوج.  لكن الرب أقنعني أخيرًا بأن أتزوج.  وكان مطلبي أن تكون الزوجة ليست مؤمنة فقط، بل أن تكون تقية ومشتركة على مائدة الرب، ومقتنعة بالمبادئ الكتابية الصحيحة حتى تساعدني في خدمتي وفي حياتي الروحية، وتربي أولادي في مخافة الرب.  فأعطاني الرب ما طلبت.  واظبت وزوجتي على المذبح العائلي: قراءة الكتاب المقدس والترنيم والصلاة كل يوم.  وعندما كنت أسافر في خدمة كانت زوجتي تجمع الأولاد وتصلي معهم.  وشكرًا للرب نشأوا جميعًا في الإيمان واشتركوا جميعًا على مائدة الرب هم وأولادهم.  ولي الآن من الأولاد والأحفاد ثلاثون!

رابعًا: في فقد زوجتي.  رحلت الزوجة إلى السماء منذ أكثر من عشرين عامًا وكانت زوجة تقية وفية بكل معنى الكلمة.  وقد اختبرت كفاية الرب لي أنه لم يعوزني شيء.  «إلى الشيخوخة أنا هو، وإلى الشيبة أنا أحْمِل. قد فعلت، وأنا أرفع، وأنا أحمل وأُنجِّي» (إش 4:46).

خامسًا: في تجارب الحياة.  لم تخل الحياة من تجارب، بل إن تجارب الحياة هي التي تصقل النفس وتقوِّي الروح وتدرب الإيمان.  ومنذ عامين تقريبًا تعرضت لمرض مفاجئ إذ أصبت بشلل نصفي ونقلت إلى المستشفي، وشعرت أن الرب قد تركني وسيدي نسيني.  وشعرت أن خدمتي قد انتهت وكنت مكتئبًا.  والشيطان حاول أن يشككني في محبة الله.  ولكن عيني انفتحت على المسيح المصلوب فتذكرت محبته وأنه لا يمكن أن ينساني بعد أن فداني وكانت هذه حجتي للمشتكي الذي يشككني.

مرت التجربة بسلام والرب قد شفاني واستطعت أن أقوم وأمشي وأكتب وأتكلم.  وإنني بيدي التي كانت مشلولة أكتب هذا الذي تقرأونه الآن.  وقد قال لي الأطباء أن هذا الشفاء هو شفاء معجزي بكل المقاييس.

وفي مرضي تعلمت أن أشكر في كل شيء وأن أصبر على كل شيء وأن أفرح رغم الظروف.

سادسًا: خدمتي.  أحببت الرب كثيرًا وسعدت في خدمته.  وتجوّلت كثيرًا في طول البلاد وعرضها.  ذهبت من أسوان جنوبًا إلى العريش شمالاً، خدمت في جرجا وسوهاج وطما وديروط وأسيوط والمنصورة والمحلة الكبرى والقاهرة والإسكندرية واستقر بي الحال أخيرًا في بورسعيد.

وساعدني على كثرة التحركات والسفر عملي كموجه لصحة الحيوان على مستوى كل الصعيد.  وكنت ناجحًا في عملي كمدرس وكطبيب بيطري وكان ذلك شهادة حسنة أمام الكل تدعم الخدمة.  وأذكر قصة لأوضح ذلك: في يوم من الأيام مرضت فرسة من أفراس مدرسة الزراعة بسوهاج وكانت تحت إشرافي ومر على المدرسة مدير عام الطب البيطري فحكم عليها بالإعدام لأنه لا أمل في شفائها.  ولكني أبيت ذلك وتوليت علاجها وشُفيت تمامًا وليس ذلك فقط، بل حبلت وولدت حصانًا جميلاً.  وجاء ناظر المدرسة والتقط صورة فوتوغرافية لهذا الحصان الوليد! وصار ذلك معروفًا في جميع مدارس التعليم الزراعي.

وكنت أحرص في المدارس الحكومية التي أعمل بها أن أدرِّس الدين المسيحي، ومهنة التدريس صقلت خدمتي أكثر خاصة وإني قد حصلت على دبلوم الدراسات العليا في التربية وعلم النفس، وهذا أفادني في التعامل مع النفوس لاسيما من الشباب.

سابعًا: موهبتي كمؤلف ترانيم وقصائد شعرية.  تعلمت كتابة الشعر في مرحلة الشباب قبل سن العشرين وساعدني على ذلك محبتي للرب.  وكنت بعد قراءة أي فصل كتابي أشعر بدافع أن أكتب ترنيمة.  وكان روح الله يملي عليَّ كتابة ترنيمة جديدة ويوحي لي بالفكرة ويقودني إلى الصياغة بسلاسة.  خاصة وأنا أدرس سفر المزامير.  وقد أعانني الرب في إصدار ثلاثة كتب بعنوان "خواطر شاعرية في المزامير السنية": بها قصيدة لكل مزمور من المزامير المائة والخمسين.  والفضل أولاً وأخيرًا للرب الذي أعطاني هذه الموهبة ولا فضل للإنسان على الإطلاق.  وأنا أميل إلى الفكر الكتابي الصحيح والعميق والشعر غير المكسور لغويًا.  وإني أعترف أنني كثيرًا ما أدهش عندما أقرأ ما كتبت من ترانيم وأشعار إذ أعلم ضعفي وعجزي عن تأليفها.

أخيرًا: الموت.  إن أكثر ما يخافه الإنسان، خصوصًا إذ تقدمت به الأيام، هو الموت.  ولكني لا أخاف إطلاقًا منه، ببساطة لأني لن أموت! إنني مع بولس أقول: «لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح، ذاك أفضل جدًا».  أي أن بولس يسمي الموت« انطلاقًا» وبطرس يسميه «خلع المسكن».  والموت هو المعبر الذي سينقلني إلى السماء لأرى وجه الحبيب.  وهناك:

ستشدو بسبح أعظم     نفسي لربي المنعم