عدد رقم 5 لسنة 2005
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الحكمة الإنسانية والحكمة الإلهية  

في العدد السابق رأينا الحكمة الإنسانية، وما هي، وما العوامل التي تتوقف عليها وأيضًا كيف يستخدمها الجسد في الإنسان الطبيعي لتصبح حكمة أرضية نفسانية شيطانية.  وفي هذا العدد نناقش بمعونة الرب الحكمة الإلهية

ما هي الحكمة الإلهية؟

عندما يولد الإنسان من الله، يأخذ طبيعة جديدة يصاحبها رغبات وقناعات ومفاهيم، ومنهج تفكير، فالمؤمن بمجرّد إيمانه يعطيه الله بصيرة ذهنية ليعرف الحق الذي لم يستطع أن يصل إليه بحكمته قبل ذلك «أعطانا بصيرة لنعرف الحق» (1يو 20:5) وهذه الأمور تعطي المؤمن حكمة من نوع مختلف، تجعله يضع الله في اعتباره في كل شيء، وتستخدم كل إمكانياته الإنسانية بمفاهيم إلهية.

فهذه الحكمة هي المفاهيم الإلهية التي تستخدم الذكاء الإنساني والذاكرة الإنسانية والطاقة الإنسانية (الإمكانيات الإنسانية كمادة خام).  إنها منهج تفكير إلهي يستقي أفكاره من مصدر إلهي (الكتاب المقدس) يسري في كيان إنساني.

إنها تعطي لكل مؤمن، مهما كانت إمكانياته الإنسانية بسيطة أو صغيرة، أن يكون حكيمًا.  مع أن القاعدة بين المؤمنين أن «ليس كثيرون حكماء حسب الجسد .. (لكن الكتاب يؤكد) ومنه أنتم بالمسيح يسوع، الذي صار لنا (لجميع المؤمنين بما في ذلك غير الحكماء حسب الجسد) حكمًة من الله» (1كو 26:1- 30).  فأصبح لكل مؤمن جهاز استقبال للأفكار والأمور الإلهية، ليس متوقفًا بالدرجة الأولى على درجة ذكائه الذهني، بل على الخضوع للفكر الإلهي، واستخدام هذا الجهاز يجعله حكيمًا.

الحكمة الإنسانية تضع الإعلان الإلهي موضع البحث والتقييم والنقد، ولكن الحكمة الإلهية تقبل الإعلان الإلهي كما هو وتخضع له.

أجمل تعبير عن هذه الحكمة هو مخافة الرب «مخافة الرب هي الحكمة» (أي 28:28).

العوامل التي تتوقف عليها الحكمة الإلهية

  • الشركة مع الرب: كثرة الجلوس مع الرب الذي قال عن نفسه: «أنا الحكمة أسكن الذكاء» (أم 12:8)، تجعل المؤمن يكتسب أكثر من أفكار ذلك الشخص الرائع ويتشبع بحكمته ويفكر نظيره.  «وأما نحن فلنا فكر المسيح» (1كو 16:2).  وكلما زادت هذه العشرة السرية زادت الحكمة.  «ففي السريرة تعرفني حكمة» (مز 6:51).
  • الكتاب المقدس: كلما عاش المؤمن في جو كلمة الله، وخضع لها، كلما كان أكثر حكمة «وصيتك جعلتني أحكم من أعدائي .. أكثر من كل معلميَّ تعقلت  .. أكثر من الشيوخ فطنت، لأني حفظت وصاياك» (مز 98:119- 100).  والذين يهملون الكتاب تتباعد عنهم الحكمة.  «ها قد رفضوا كلمة الرب، فأية حكمة لهم؟» (إر 9:8).
  • الروح القدس: إعطاء المجال لنشاط الروح القدس في حياة المؤمن تجعله أكثر حكمة لأن الروح القدس هو «روح الرب، روح الحكمة والفهم» (إش 2:11).
  • العمق الروحي: السطحية في الأمور الروحية والاكتفاء بالقشور يحرم المؤمن من الحكمة، بينما الرغبة الملحة في الدخول إلى أفكار الله، وعدم مشغولية المؤمن بنفسه، تجعله يتمتع بـ «روح الحكمة والإعلان في معرفته» (أف 17:1).
  • المؤمنون الروحيون والشركة معهم: فالكتاب يعلمنا أن «المساير الحكماء يصير حكيمًا» (أم 20:13).

المظاهر التي تميز الحكمة الإلهية

  •  إنها من فوق وليست أرضية (يع 17:3): هي صنف متميز، ومن مصدر مختلف عن الحكمة الأرضية، وبالتالي ليست لها الدوافع والرغبات والميول الأرضية.
  • المؤمن يشعر بالاحتياج إليها ويطلبها: هو يعلم أنه ليس مَخْزَنًا لها فيطلبها دائمًا، والمصدر الوحيد الذي يطلبها منه ليس كتب الفلسفة أو علم النفس أو الاجتماع، لكن «إن كان أحدكم تعوزه حكمة، فليطلب من الله الذي يعطي الجميع (كل مَنْ يطلب) بسخاء» (يع 5:1).
  • التصرف الحسن والوداعة: يدلان على وجودها «مَنْ هو حكيم وعالم بينكم، فليُرِ أعماله بالتصرف الحسن في وداعة الحكمة» (يع 13:3).
  • هي أولاً وقبل كل شيء طاهرة (يع 17:3): تراعي حقوق الله وما يليق به أولاً، وهي أيضًا مترفعة عن الخطية لأنها تعرف خطورتها ونتائجها المريرة، وتعرف بركات البعد عنها.
  • ثم مسالمة مترفقة، مذعنة، مملوَّة رحمة وأثمارًا صالحة: تراعي أيضًا العلاقة بالآخرين وتهتم بهم وتقدر ضعفهم وتشفق عليهم، ولا تجبرهم على شيء، بل تخضع عند اللزوم ليعود هذا بالثمر على الآخرين.
  • عديمة الريب والرياء: لا تجتمع مطلقًا مع الشك أو الرياء، وجو هذه الأشياء لا يجعلها طاهرة.

المؤمن والحكمة الإنسانية

في مواقف معينة ولا سيما في الأزمات، بعض المؤمنين، الذين عندهم شيء من الحكمة الإنسانية، لا يستطيعون إيقاف منهج التفكير النابع من الحكمة الإنسانية، مثل:

  • النازلون إلى البحر في السفن (مز 23:107- 32).  عندما أمر الرب فأهاج عليهم ريحًا عاصفة، لم يستطيعوا أن يقفوا مكتوفي الأيدي، لكنهم استخدموا حكمتهم الإنسانية للهروب من المخاطر وظلوا هكذا حتى استنفدوا ما عندهم من حكمة، بعدها صرخوا إلى الرب فنجاهم.
  • يعقوب عندما علم أن عيسو أخاه قادم للقائه ومعه 400 رجل (تك 32) خاف، ومع أنه صلى إلى الرب، لكنه لم يستطع أن يقف صامتًا بل استخدم حكمته الإنسانية لعلها تسعفه.
  • وموسى في خروج 2 عندما خطر على باله أن يفتقد إخوته وينقذهم من ذلهم في مصر، مع أنه كان له إيمانٌ عظيمٌ، لكنه استخدم حكمته البشرية في طريق الخلاص.

وفي هذه الأحداث وغيرها كان واضحًا أن الحكمة البشرية لا تصلح، فأمور الله بل وحياة المؤمن كلها لا تصلح معها هذه الحكمة.  واستخدام هذه الحكمة تقود المؤمن للاعتماد على الذات وتؤخر اعتماده على الرب.  والله في حكمته لا يترك المؤمن حتى يكشف له مسكنته ويقضي على منهج التفكير الإنساني فيه، «كل حكمتهم ابتلعت».  ثم يتدخل بعد ذلك لنجاة المؤمن بأبسط الطرق وأسهلها، وهذه هي الحكمة الإلهية.

الحكمة الإلهية والبساطة

الحكمة الإنسانية بحسب مفهوم الإنسان تتعارض مع البساطة.  فمفهوم العالم عن البساطة هو عدم العلم، أو السطحية وقلة الخبرة، وعدم تقدير العواقب، ومفهوم العالم عن الحكمة أنها الحرص الكثير والحسابات المعقدة والدهاء وعدم الاستقامة.  ومعروف أن الناس الذين قد تصدر عنهم تصرفات تتعارض مع الحكمة يقال عنهم بسطاء أي جهله.  لكن البساطة بحسب مفهوم الكتاب هي الهدف الواحد، والسير في خط مستقيم نحو غرض واحد.

إن الحكمة الإلهية والبساطة تؤمان يسيران معًا، لذلك ربطهم الرب معًا في قوله: «فكونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام» (مت 16:10) والمؤمن يحتاج إلى الاثنين كضرورة لممارسة حياته بطريقة صحيحة.  حتى إن كان البعض بسبب التركيبة الإنسانية يبذلون مجهودًا أكبر ليكونوا بسطاء، لكن آخرين يبذلون أيضًا مجهودًا أكبر ليكونوا حكماء.

الحكمة الإنسانية في تعاملها مع الخطية تقول: جرِّب كل شيء واعرفه لتصل إلى قرار، وهذا أبعد ما يكون عن البساطة.

الحكمة الإلهية في تعاملها مع الخطية تقول: اعرف ما هي القداسة وما يليق بالله واسلك فيه في بساطة؛ وكل ما هو غير ذلك فهو شر لا تقترب منه.  إن المؤمن يعرف صوت الراعي فيتبعه في بساطة، وكل صوت غير ذلك بالنسبة له هو صوت غريب. لذلك فهو يهرب منه في حكمة، دون أن يهمه أن يعرف مَنْ هو.  «الخراف تتبعه (الراعي)، لأنها تعرف صوته.  وأما الغريب فلا تتبعه بل تهرب منه، لأنها لا تعرف صوت الغرباء» (يو 4:10، 5).  وهكذا تجتمع الحكمة والبساطة.

البساطة تنشأ من تثبيت النظر المستمر على المسيح في كل تصرف «عينك بسيطة» فالمؤمن يقيس كل تصرف بمصادقة المسيح عليه، وهذه هي الحكمة.

المسيح على الأرض كان أروع نموذج للحكمة والبساطة معًا.  انظره في أُحادية في مقابلاته المختلفة: مع السامرية في يوحنا 4، أو مع المرأة التي أُمسكت في ذات الفعل ومع مَنْ أمسكوها وأتو بها في يوحنا 8، كم كانت بسيطة وحكيمة.

في إنجيل يوحنا أصحاح 9 نقرأ عن الشخص الذي كان مولودًا أعمى في حواره مع الفريسيين، كيف كان حديثه ممتلئًا من الحكمة والبساطة معًا (يو 25:9).

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com