عدد رقم 5 لسنة 2005
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
يعقوب يقابل عيسو  

(تك 33)

بعد مصارعة الرب له (تك 32)، والبركة التي نالها، والاسم الجديد الذي أُعطيَ له، كنا نتوقع أن يعيش يعقوب في جو البركة التي أخذها.  لكننا مع الأسف، نجد أن الجسد لا يزال يعمل بنشاط، ولا يزال يعقوب يتكل على الحكمة البشرية والأساليب الجسدية، ولم يتعلم بطلان الجسد وأنه لا يفيد شيئًا، حتى بعد خلع حق فخذه.  ولا يوجد اختبار بعده يقول المؤمن أن الجسد انتهى تمامًا ولن يعود يظهر.

«رفع يعقوب عينيه ونظر وإذا عيسو مُقبل ومعه أربع مئة رجل، فقسم الأولاد على ليئة وعلى راحيل وعلى الجاريتين.  ووضع الجاريتين وأولادهما أولاً، وليئة وأولادها وراءهم، وراحيل ويوسف أخيرًا.  وأما هو فاجتاز قدامهم وسجد إلى الأرض سبع مرات حتى اقترب إلى أخيه» (تك 1:33- 3).

عندما رأى عيسو قادمًا، ملأ الخوف قلبه، على الرغم من أنه رأى وجه الله وسمع كلامًا مشجعًا من فمه (تك 32).  إن الشركة الدائمة مع الله هي التي تحفظ الإنسان في وقت التجربة، وليس اختبارات الماضي.

رتَّب يعقوب الأولاد بحسب استحسانه، ثم تقدم وسجد 7 مرات أمام عيسو.  ونحن نتذكر ما قاله له إسحاق أبوه وهو يباركه: «كن سيدًا لإخوتك وليسجد لك بنو أمك».  هذا ما كان ينبغي أن يحدث لو أن يعقوب سلك الطريق الصحيح بحسب فكر الله. لكنه سلك طريقًا آخر بحسب الجسد، لهذا كانت أموره متعثرة، وطريقه وعرًا.  ويظل المبدأ قائمًا أن «الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضًا» (غل 7:5).

الله لم يُغيِّر وعوده ليعقوب، لكن طريق يعقوب كان مليئًا بالأشواك.  وعلى ذات القياس، الله دعانا وضمن لنا ميراثًا لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل، محفوظ في السماوات لأجلنا.  لكن الطريق إلى هذا الميراث يمكن أن يكون مُسيَّجًا بالشوك إن كنا لا نسير زمان غربتنا بخوف، ونعيش في سيرة مقدسة وتقوى.

يعقوب في أصحاح 32 قسم القوم الذين معه، وفي أصحاح 33 رتب النساء والأولاد بحسب الحكمة البشرية والاستحسان الجسدي، وفي كل هذا لا نراه متوكلاً على الرب بكل قلبه، بل على فهمه يعتمد.

كانت الدوافع حسنة عند يعقوب وهو راجع إلى أرض كنعان، وكان يريد أن يتمم إرادة الله، لكن أسلوب تفكيره وتوجهاته الداخلية كانت جسدية، وهذا حدث في كثير من المواقف في حياته، ويحدث أيضًا مع كثير من المؤمنين.  الله تهمه الدوافع المقدسة ويهمه الأسلوب الروحي الصحيح.

وكيف نكف عن الاتكال على الجسد؟ إن الله يصارع معنا لفترات حتى يجرّدنا مما نتكل عليه، ويفقدنا الثقة في ذواتنا وحكمتنا وقوتنا ومواردنا، لكي نتعلم أن نتعلق بالرب وحده.  ثم بواسطة خضوعنا للروح القدس الذي يقف ضد الجسد، ويلجم رغبات الجسد ويكبح جماحه، بذلك نتحول عنه إلى الرب محطّ الآمال الوحيد.  ومن خلال الأمثلة الكتابية والأمثلة المعاصرة التي نراها في حياة مؤمنين سلكوا بحسب الجسد وحصدوا متاعب ومرارًا، نتحذّر ونضع قلوبنا على طرقنا ونستفيد من هذه الدروس، ونعرف أن «الله لا يُشمخ عليه، فإن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضًا».

لا شك أن مدرسة الله ومعاملاته مع يعقوب في حاران لمدة عشرين سنة، واختبار المصارعة في يبوق قد أثمر بعض الثمار الحلوة.  وقد تعلم أن الله وليس حكمته الجسدية، هو الذي حوَّل قلب عيسو وأزال المرارة.  لقد «ركض عيسو للقائه وعانقه وقبّله ووقع على عنقه وبكيا» (تك 4:33).

وعندما سأل عيسو عن النساء والأولاد، قال يعقوب: «الأولاد الذين أنعم الله بهم على عبدك» (ع 5).  فكان يدرك أن الله هو صاحب الفضل، وأن الأولاد هم عطية نعمة.  أما عيسو فلم ينطق بكلمة واحدة عن الله.
وعندما سأل عن الأملاك قائلاً: «ماذا منك كل هذا الجيش الذي صادفته؟» (ع 8) أجاب يعقوب: «لأن الله قد أنعم عليَّ» (ع 11).  إنه مرة أخرى يقر بفضل الرب عليه كما أشار في صلاته الأولى: «صغيرٌ أنا جميع ألطافك .. فإني بعصاي عبرت هذا الأردن والآن قد صرت جيشين» (تك 10:32).

قال عيسو وهو يترفع عن قبول الهدية: «لي كثير» (ع 9).  أما يعقوب فقال: «لي كل شيء» (ع 11).  وهذا  أسلوب الشخص الذي يعرف أن الله له حتى في ضعفه.

قال عيسو: «لنرحل ونذهب، وأنا أذهب قدامك» (ع 12).  فقال يعقوب: «الأولاد رخصة، والغنم والبقر التي عندي مرضعة، فإن استكدّوها يومًا واحدًا ماتت كل الغنم» (ع 13).  فكان له قلب الراعي الذي يشفق على الأولاد والأملاك.

لقد رفض يعقوب أن يسير مع عيسو وأن يسكن معه، مدركًا أن هذه الشركة لا تناسبه، وهذه الرفقة ستكون سبب متاعب في حياته، بحسب المبدأ الإلهي «لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين» (2كو 14:6).  فرفض التعايش معه.  وكل هذا يرينا ما أنتجته النعمة في يعقوب من ثمار حلوة، وما تعلمه من دروس في مدرسة الله.
على أن ملامح الجسد في يعقوب كانت لا تزال موجودة وقد ظهرت في هذا المشهد على النحو التالي:

  1. قسم الأولاد بحسب استحسانه، ولم يتكل على الرب ويصلي وقت الخطر.
  2. لم يتصرف بعواطف الأبوة الحانية نحو أولاده، بل فرَّق بينهم في المعاملة.  لقد وضع أولاد الجاريتين أولاً في وجه الخطر، ثم أولاد ليئة ثانيًا، وأخيرًا وضع راحيل ويوسف.  ولا شك أن هذه التفرقة كان لها أثرٌ سلبي في نفوس الأولاد، نحو يعقوب ونحو يوسف في وقت لاحق.
  3. ظن أن حكمته وترتيبه سيضمنان الأمان لراحيل ويوسف، وهذا عين الغباء.  فإن يد الله التأديبية قد امتدت من الخلف وليس من الأمام وأخذت مَنْ كانوا في المؤخرة قبل الكل.
  4. ركع يعقوب أمام عيسو 7 مرات وكان هذا نوعًا من النفاق لكي يحقق أغراضه، ونطق بكلمات لم يكن يعنيها إطلاقًا.  هذا لم يفعله مردخاي في يوم لاحق، عندما رفض أن يسجد لهامان العماليقي، مدركًا أن للرب حرب مع عماليق من دور فدور (خر 16:17).  قال يعقوب لعيسو: «رأيت وجهك كما يُرَى وجه الله» (تك 10:33)، وما أغرب هذا القول فكيف يكون وجه عيسو كوجه الله!
  5. كذب لكي لا يربط نفسه بعيسو، إذ قال له: «أنا أستاق على مهلي .. حتى أجيء إلى سيدي إلى سعير» (ع 14).  وهو لم يكن ينوي مطلقًا أن يذهب إلى سعير حيث يسكن عيسو.  ونحن لا نقرأ أنه ذهب إلى هناك ولا لزيارة واحدة.
  6. «ارتحل إلى سكوت وبنى لنفسه بيتًا، وصنع لمواشيه مظلات» (ع 17).  لم يذهب إلى بيت إيل ولم يبن بيتًا للرب، بل بنى لنفسه بيتًا، حيث كان ينبغي أن يتغرب.  لقد عاش الآباء في خيام، لكن الجسد لا يحب الغربة ولا يعيش بمواعيد الله.  إنه يحب الاستقرار والراحة هنا.  لكن ذلك يتحقق من خلال الاتكال على الرب والثقة في مواعيده.
  7. أتى سالمًا إلى مدينة شكيم، واشترى حقلاً.  ولم يفكر في خطورة وشر المكان على الأولاد، بل كان يفكر في المواشي والنجاح الزمني.  كان يعرف أن ما يفعله خطأ، وأراد أن يعالج هذا الخطأ بأن بنى مذبحًا ودعاه «إيل إله إسرائيل» (ع 20)، وهو يعرف أيضًا أن «إيل» في «بيت إيل» وليس في شكيم.  وهناك الكثير من المؤمنين في أماكن خاطئة وأوضاع خاطئة يحاولون تغطية هذه الأخطاء بممارسات دينية أو أنشطة كنسية نظير المذبح الذي عمله يعقوب في شكيم.  نعم إن «إيل إله إسرائيل» ، لكن الشخص الذي أمامنا لا يزال يعقوب وليس إسرائيل.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com