عدد رقم 5 لسنة 2005
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
ابنة يفتاح - 3   من سلسلة: شابات الكتاب المقدس

فتاة رقيقة شاعرية، ممتلئة بالنشاط والحيوية، تفيض بالعواطف النقية. ورغم قلة ما نقرأه عنها في الكتاب المقدس، حيث تشغل قصتها فقط سبع آيات من قضاة 11، فإننا نقرأ عن رقصها وبكائها.  ففي أول عهدنا بها نلتقيها تخرج بالدفوف والرقص تستقبل أباها البطل يوم نصرته على أعدائه، لكن سريعًا ما تحول فرح الأب بانتصاره إلى أنات، ورقصات البنت المرحِّبة بأبيها إلى مناحة وتأوهات، نتيجة نذر أرعن قطعه الأب على نفسه، كان ضحيته البنت البريئة!

ولقد عرفنا من دراستنا السابقة عن يفتاح أنه كان ابن امرأة زانية، ولذلك فقد طرده إخوته من ميراث أبيه وأرضه.  ويبدو أن هناك في المنفى الاختياري الذي اتخذه الأب يفتاح، وُلدت ابنته الوحيدة.  ولم تكن هي وحيدته فحسب، بل كانت كل شيء جميل في حياته أيضًا.  وحدث بعد ذلك أن استنجد شيوخ جلعاد بيفتاح ليحارب معهم بني عمون، وفي مقابل ذلك وعدوه بالرياسة عليهم.  وقَبِل يفتاح العرض.  لكنه قبل الخروج للحرب تسرَّع ونطق بنذر للرب، لم يكن له لزوم، وهو أن الخارج من أبواب بيته للقائه عند رجوعه منتصرًا من عند بني عمون، أيًا كان، يكون للرب ويُصعده محرقة.

خرج يفتاح إلى المعركة وانتصر.  وعاد القائد الظافر إلى بيته مبتهجًا، وسمعت الابنة بخبر نصرة أبيها، فخرجت بفرحة تلقائية تستقبل أباها بالرقص والأغاني.  كانت هي محبة عمره، وتصرفها دل على أنها أيضًا كانت تحب أباها بعمق.  ولما رآها أبوها خارجة لتسقبله بالرقص، انزعج انزعاجًا عظيمًا.  وقال لابنته: «قد أحزنتني حزنًا وصرت بين مكدريَّ، لأني فتحت فمي إلى الرب ولا يمكنني الرجوع». وأمام انكسار قلب الأب البطل، برزت عظمة هذه البنت ونبلها، بل وظهرت بطولتها الحقيقية، إذ قالت لأبيها: «يا أبي هل فتحت فاك إلى الرب؟ فافعل بي كما خرج من فيك، بما أن الرب قد انتقم لك من أعدائك بني عمون». 

ما هذا النبل الذي تحلّت به هذه الفتاة؟  ما هذا التصرف الرائع لابنة يفتاح الصغيرة؟  إن كل الذي طلبته من أبيها هو مهلة شهرين من الزمان، فيهما بكت مع صاحباتها، ليس لأنها ستموت، بل لأنها ستموت بدون نسل.  الأمر الذي كان يمثل المأساة الأكبر لأية امرأة يهودية.  وبعد الشهرين رجعت إلى أبيها ففعل بها نذره الذي نذر.

ولقد جاء الوقت الآن لنتوقف أمام بطلتنا، نلتقط من حياتها بعض الدروس والعِبَر.

أولا:  فتاة عظيمة
ففي علاقاتها الخاصة نجدها فتاة تجل أباها وتعتز به؛ وفي علاقاتها العامة كانت تحب شعبها وتهفو لنصرته على أعدائه؛ وفي علاقتها مع الله كانت توقر إلهها، وتحترم اسمه، وتعرف أن النطق باسمه ليس مجالاً للعبث واللهو.
وأما في صفاتها الشخصية فقد كانت فتاة مؤتمنة، وثق بها أبوها عندما طلبت الإذن لمدة شهرين، إذ كان واثقًا أنها ستعود في الموعد المحدد تمامًا.  كما كانت فتاة ذات عزم وحزم، تسير إلى الموت بخطى ثابتة.  وإن كان الوحي حدثنا مرة عن رجل شيخ تسلق جبلاً مع أخيه وابنه، سائرًا معهما بثبات، رغم علمه أنه يرتقي الجبل، ولن ينزل منه، بل سيدفن فوقه، ونجده يخلع ثيابه ليلبسها ابنه، ثم يموت الأب فورًا (عدد20: 23-29)؛ لكن الإعجاب يزداد ونحن نرى فتاة صغيرة تمضي مع صاحباتها إلى جبل آخر تبكى عذراويتها، ثم ترجع إلى أبيها في موعدها.  ترجع في شجاعة وتصميم ليتمم فيها نذره، فلا تموت ميتة طبيعية مثل هارون الشيخ الذي أشرنا إليه الآن، بل لتُقدَّم محرقة، ومع ذلك لم يتسرب إليها الضعف الأنثوي، فيسوقها إلى التردد أو إلى الهروب، بل في هدوء جليل، تقابل مصيرها بصبر نبيل!

ثانيًا:  أيام قليلة وَرَدِّية
كانت حياة فتاتنا قصيرة، فودعت العالم وهي في عمر الزهور.  لكن المأساة حقًا أن الفترة القصيرة التي عاشتها فوق هذه الأرض لم يكن لها حظ في ابتسامات الحياة على الإطلاق.  فقد كانت تحمل ذلة الماضي البعيد، إذ جاء أبوها إلى العالم نتيجة نشوة رعناء من أبيه، ونظر المجتمع نظرته المريبة إلى هذا الطفل الوليد، وعاقبه على ذنب لم يرتكبه هو.  ولما وُلدت البنت، حملت مع أبيها بشاعة جُرم جدها.  فلقد وُلدت في أرض طوب بعيدة عن بلادها، لا تعرف شيئًا عن دفء الحياة العائلية.  ويوم قُدِّر لها أن تعود إلى أرض الآباء، وقُدِّر لأبيها أن يعود إلى بلده رأسًا لا ذنبًا، ويوم ظنت أنها ستودع حياة التشرد إلى الأبد، لم تكن تدري أنها ستودع الحياة برمتها.

رف أبوها الحياة المعذبة.  وسارت البنت وراء أبيها في أرض الدموع والألم.  وهكذا عرفت فتاتنا ألم الحزن منذ نعومة أظفارها، وشربت كأس الحرمان مع لبن الرضاعة.  عاشت خفيضة الرأس، تتجرَّع غُصص الألم.  وجاء اليوم الذي تقاسم أباها الحياة الكريمة، فأبت المقادير! وبدل أن تقاسم أباها كأس الفخار والعز، تعيَّن لها أن تشرب من يده هو كأسًا أخرى شديدة المرارة، فما كان منها إلا مواجهة هذا بثبات وشجاعة!

إن أيوب المبتلى تكلم في البداية كلامًا طيبًا أمام تجربته القاسية، قابِلاً من يد الرب كأس العلقم.  لكن سرعان ما سمعناه يسب يومه، ويسيِّب شكواه، ويتكلم في مرارة نفسه (أي3: 1؛ 10: 1).  وأما هذه الفتاة فلم نسمع منها مطلقًا، لا في الأول ولا في الآخر، إلا كل تسليم.  قبلت مأساتها، وتسلمت فتاتنا الرقيقة بيد غير واجفة الكأس المرة، واستسلمت لما سمح لها الله، دون ما تذمر ولا شكوى!

أيتها الفتاة النبيلة والكريمة، ما أكثر ما نشكو نحن ونتذمر، مع أن ظروفنا أفضل بكثير!  ألا علمتنا أن نتقبل من إلهنا تجاربنا بثبات، كما فعلت أنت عندما قابلتِ الممات؟

ثالثًا:  موت أسرع من المتوقع 
لا أريد هنا أن أتوقف طويلاً لأناقش القضية التي انقسم أمامها الشرّاح إلى فريقين: أعني هل نفّذ يفتاح نذره حرفيًا، أم أنه كرّس ابنته فقط لعيشة العذوبية، لتخدم الله في هيكله.  فإنني أقف مع فريق الشراح المقتنعين بأن يفتاح نفذ نذره حرفيًا. وإلا – فكما قال أحد الأفاضل- ما الداعي لأن تذهب البنت إلى الجبال لتبكي عذراويتها شهرين؟ وإن كان الأمر اقتصر على تكريس الحياة للرب فعلامَ البكاء؟  وإن كان بكاؤها كما يقول بعضهم لأنها ستحرم نعمة الإنجاب، الذي كان يعتبر بركة عظمى في العهد القديم، فلمَ البكاء شهرين وليس أكثر؟  وما معنى أنه عند نهاية الشهرين رجعت إلى أبيها لكي ينفذ فيها نذره؟ ثم كيف يمكن أن نفسِّر العادة التي ألفت بنات إسرائيل أن يعملنها، إذ كن يذهبن لينحن على بنت يفتاح الجلعادي أربعة أيام كل سنة؟

لقد ماتت ابنة يفتاح.  وودعت الحياة قبل أن تدخلها!
ومرة أخرى نعود إلى أيوب الذي نسمعه يقول في يومه: «الإنسان مولود المرأة، قليل الأيام، وشبعان تعبًا.  يخرج كالزهر ثم ينحسم، ويبرح كالظل ولا يقف» (أي14: 1و2). ونجيبه: مهلاً يا شيخنا العزيز، هل تحسب أيامك قليلة، فماذا عساها ابنة يفتاح تحسبها؟  وهل كانت أيامك القليلة ملآنة بالتعب يا رجل؟  فماذا تكون حياة البنت الرقيقة، ربيبة الكفاح، ابنة يفتاح؟

في أول أسفار الكتاب المقدس نقرأ عن أب شيخ قال لأولاده: تُنزلون شيبتي بحزن إلى الهاوية (تك42: 38؛ قارن تك37: 35)؛ لكننا هنا نجد أبًا ينزل شباب ابنته الغضة بحزن إلى الهاوية.  لقد أصعدها يفتاح أبوها محرقة، وما عاد لجسدها وجود في هذا العالم التعس، ولكن روحها سرعان ما انطلقت إلى خالقها الذي أعطاها. 

مأساة كبرى!  إذ انتهت حياة هذه الفتاة العظيمة سريعًا! وهذا النُبل طواه الموت مبكرًا! 
ونحن لا يسعنا إلا أن نقول: وداعًا أيتها البنت العظيمة! لقد كنت بحق عظيمة في حياتك القصيرة، فما أندر مَنْ يتحلون بمثل صفاتك النبيلة وخصالك العظيمة.   بل إننا لا نقول وداعًا بل نقول: إلى لقاء يا ابنتنا العزيزة!  إلى لقاء في سماء لا مكان فيها للدموع والنحيب.  وليتنا مثلك لا يتحدث سفرنا الذي هو قصير مهما طال، إلا عن عظمة في الحياة وعظمة في الموت.  ليتنا نقول مع المرنم:
 

ليس همي ما يكون

همي أن أرضي ربي

من أمور آتياتْ

 في الحياة والممات

ابنة يفتاح وملامح من المسيح
إن كنا في تاريخ يفتاح الباكر رأينا لمحات من حياة المسيح، المرفوض والمحتقر من الناس، فإننا في موت ابنته الوحيدة، هذا الموت السريع، نرى لمحات من موت المسيح.

  • لقد ماتت الابنة في عمر الزهور، والمسيح «قُبِض في نصف أيامه» (مز102).
  • هي ماتت طاعة وخضوعًا لأبيها، والمسيح أيضًا مات طاعًة وخضوعًا لأبيه (يو6: 38).
  • لقد هانت حياتها في سبيل خلاص شعبها، والمسيح أيضًا ضحي بالكل في سبيل خلاصنا.
  • بكاؤها على الجبال يذكرنا بذلك القدوس الذي كثيرًا ما بات فوق الجبال، وهناك «أكل الرماد مثل الخبز، ومزج شرابه بدموع» (مز102: 9).  وما كان أشد بكائه في الليلة التي أسلم فيها، عندما ذهب إلى جبل الزيتون، وهناك بدأ يدهش ويكتئب (مت26: 37)! 
  • ماتت فتاتنا العزيزة بدون نسل. وهكذا المسيح قُطع من أرض الأحياء.
  • هي ماتت راضية مسَلِّمة، والمسيح أيضًا مات راضيًا، إذ «وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب» (في2: 8).
  • لقد رجعت من الجبال تواجه الموت بثبات لما أتت ساعتها، والمسيح خرج من البستان ليواجه الأشرار ويحتمل موت العار، عندما جاءت ساعته.

لكن رغم هذه المشابهات فهناك فارق كبير:

  • وهو أن موت المسيح لم يكن نتيجة نذر متعجِّل بلا لزوم، بل كان تتميمًا لمشورة الله الأزلية.  وعنها قال ربنا يسوع المسيح: «ها أنا أجيء لأفعل مشيئتك يا الله» (عب9:10).
  • ثم إن موت المسيح لم يكن تتويجًا لنصر زمني تم وصار، بل لإتمام خلاص أبدي، عظيم بهذا المقدار.
  • البنات صاحبات ابنة يفتاح ذهبن معها إلى الجبال، ونُحْنَ معها، ولكن المسيح لم يكن معه أحد.  لقد انتظر رقة فلم تكن، ولما صلى في البستان كان تلاميذه نيامًا من الحزن.
    والمقابلات لم تنته بعد ..
  • فابنة يفتاح بموتها انتهت قصتها، وأما المسيح فإن موته أتى بالنسل الكثير (إش53: 10).
  • ولقد بقيت هذه العادة في إسرائيل، الذهاب إلى الجبال للبكاء، وأما معنا نحن، فقيامة المسيح بدلت المشهد، وأنهت الأحزان، فما عدنا نذهب إلى الجبال لنبكي، بل من القبر الفارغ سمعنا صوت ملاك السماء يقول لفتاة أخرى محزونة: «يا امرأة لماذا تبكين؟» ومن بعده استمعنا إلى كلمات رب السماء يقول: «يا امرأة: لماذا تبكين؟ من تطلبين؟»

حقًا نحن لا نذهب كل سنة لنبكي على حبيبنا ونذرف الدمع عليه، لكننا نذهب كل أسبوع لنحتفل به، ونعيِّد له!

(تمت)

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com