أشرنا في المرة السابقة عن صمت الحمامة، كما عرفنا أن الكتاب يشير إلى صوت أو هدير الحمامة أكثر من مرة، حيث أنه في كل مرة يحمل هديرها معنًى خاصًا، ولقد تكلمنا أيضًا عن نوعين من الهدير في المقال السابق، والآن نستكمل حديثنا عن باقي هذه المرَّات:
3- التأسف على أيام الشر والإثم
«وينفلت منهم منفلتون، ويكونون على الجبال كحمام الأوطئة. كلهم يهدرون كل واحد على إثمه» (حز7: 16).
إننا أمام مشهد يُعبِّر عن حالة الشعب وهم تحت يد الرب التأديبية. لكننا هنا لا نستمع إلى نغمة حنين إلى الرب، ولا نغمة تطلع إلى خلاصٍ يبتعد عنهم، بل إننا أمام لحن يُعبِّر عن حالة حزن من جرَّاء ما هم فيه من ألم وضيق، إنهم «يهدرون كل واحد على إثمه». ولأول وهلة قد نجد في حزنهم هذا شيئًا إيجابيًا، أليس المطلوب ممن يُخطئ، وينجرف وراء إثمه، أن تكون أولى خطواته الصحيحة هو أن يحزن على إثمه؟
ولكي نُجيب على هذا السؤال علينا أن نعرف أولاً أي نوع من الحزن كان عليه الشعب هنا. فنحن نعرف أن بطرس حزن على إنكاره المشين للرب، وبكى بكاءً مرًا (26: 75). كما حزن يهوذا على فعلته الشنعاء، وندم مُقرًا أنه أخطأ إذ سلَّم دمًا بريئًا (مت27: 3، 4).
غير أنه ما أبعد التباين بين حزن كل من الشعب ويهوذا وبطرس. فحُزن الشعب هنا هو حُزن بلا رغبة حقيقية في رفض الإثم والشر. نعم إننا نراهم يتأسفون على ما بدر منهم من إثم، لكن ليس لأنهم أبغضوا الإثم، بل تألموا من القضاء الذي نتج عما اقترفوه من إثم!
هذا يُذَّكرنا بما كتبه جورج مولر عن نفسه قبل أن يتعرّف على الرب ويستخدمه في عمل جليل، وهو إعالة أكثر من عشرة آلاف يتيم. لقد كان معتادًا أن يختلس من أموال أبيه الذي كان جامعًا للضرائب، غير أن أباه لاحظ تكرار نقصان نقوده، فأعد كمينًا لابنه، والذي سريعًا ما انكشف أمره، وضُبط متلبسًا بالسرقة، فما كان من أبيه أن عاقبه عقابًا شديدًا لكي لا يعود للسرقة مرة أخرى. عندئذ دخل غرفته وارتمى على سريره وبدأ في بكاء مرير قائلاً لنفسه: "طالما كنت حيًا فسوف لا أعمل ذلك مرة ثانية". لم يتعهد جورج بعدم تكرار السرقة مرة أخرى، كلا. بل إن ما كان يعنيه هو أن لا يُقبض عليه متلبسًا مرة أخرى. إن السرقة مثيرة، ولكن القبض عليه وعقابه كان مؤلمًا ومذلاً!!
أليس هذا ما ينطبق على الشعب هنا تمامًا؟ صحيح كل واحد يهدر على إثمه، ولكن هل كان هناك توبة حقيقية؟ هل هناك نية صادقة لحياة أكثر نقاءً وطهارة؟ الإجابة بكل أسف لا. لم يكن الشعب مُهيئًا لرفض الإثم والرجوع إلى الرب. من أجل ذلك رغم هديرهم على إثمهم، نجد أن الرب، بدلاً من أن يرفع عنهم يده التأديبية، يستمر في عمله القضائي عليهم، وهذا ما نجده واضحًا في باقي كلمات هذا الأصحاح (حز7: 23-27).
أما حزن يهوذا فيمكننا أن نسميه حزن يقود إلى الفشل واليأس، نعم لقد ندم وأقر بخطئه، ولكن إلى أي شيء قاده هذا الحزن؟ قاده إلى الانتحار. وكأن لسان حاله ما قاله قايين قديمًا للرب: «ذنبي أعظم من أن يُحتمل» (تك4: 13).
غير أن حزن بطرس يختلف تمامًا عن كل هذا، فهو ليس حزنًا عقيمًا كحزن الشعب، ولا حزنًا مدمرًا كحزن يهوذا، بل حزن مقدس، يُنشئ توبة ورجوعًا صادقًا للرب. لقد بكى بطرس بكاءً مرًا، لكنه لم يظل كالشعب في حالة البعد عن الرب، بل نجده في مشهد آخر ألقى نفسه في البحر ليكون أول من يصل إلى الرب (يو21: 7).
ولقد أشار إشعياء النبي إلى الحزن الأول، وهو حزن الشعب المرفوض من الرب: «لست أطيق الإثم والاعتكاف» (إش1: 13). كما أشار الرسول بولس إلى حزني كلٍ من بطرس ويهوذا بقوله: «لأن الحزن الذي بحسب مشيئة الله ينشئ توبة لخلاص بلا ندامة، وأما حزن العالم فينشئ موتًا» (2كو7: 10)..