ذكرنا في العدد الماضي أن الرب يسوع المسيح، بالنسبة لكونه إنسانًا في المجد الآن، قد أُعطيَ عطايا من الله، إلهه وأبيه، مكافأة له على إكمال عمل الصليب. ولكون الكنيسة هي جسد المسيح الرأس، وأفراد المؤمنين هم أعضاء هذا الجسد (أف 15:4، 16).
فإن كل العطايا والمكافآت التي قَبِلَها –تبارك اسمه- من إلهه وأبيه، أعطاها لنا نحن المؤمنين باسمه، ليس بمعنى أنه تخلى عن هذه العطايا والمكافآت لنا، لكن بمعنى أنه أدخلنا نحن فيها للتمتع بها معه، وإن كان طبعًا ليس بذات المنسوب، لأنه لا بد أن يكون –له كل المجد- متقدمًا في كل شيء أكثر من شركائه (كو 18:1؛ عب 9:1).
أما عن هذه العطايا والمكافآت التي أُعطيت له –تبارك اسمه- فهي:
أولاً: الحياة إلى أبد الآبدين
«حياة سألك فأعطيته. طول الأيام إلى الدهر والأبد» (مز 4:21)
«تعرفني سبيل الحياة. أمامك شبع سرور. في يمينك نعم إلى الأبد» (مز 11:16)
لقد جاء الرب يسوع إلى عالمنا، ودخل بإرادته إلى مشهد الخطية والموت، ومع أنه له عدم الموت باعتباره «ابن الله» (1تي 16:6)، وله –طبقًا للناموس- أن يبقى على الأرض حيًا إلى الأبد (يو 34:12) باعتباره «ابن الإنسان» القدوس، الذي لم يفعل خطية واحدة، ولا عرفها، ولا وُجدت فيه (1بط 22:2؛ 2كو 21:5؛ 1يو 5:3). ومع أن الموت بالتالي لم يكن له عليه أي سلطان من أية زاوية، إلا أنه، بمطلق إرادته، «أسلم نفسه إلى الموت (يو 18:10) تتميمًا لمشيئة الآب (مز 8:40؛ مت 42:26). فصُلِبَ، ومات، ودُفن (لو 33:23، 46، 53؛ 1كو 3:15، 4) … ولكن هل يبقى مائتًا ويستمر في القبر؟!
إننا نسمعه يصلي في مزمور 102، باعتبار ناسوته، كمَنْ أعيا في أيام جسده وسكب شكواه قدام الله، فيقول: «ضعَّف في الطريق قوتي، قصَّر أيامي. أقول: يا إلهي، لا تقبضني في نصف أيامي». ويا لروعة إجابة الآب: «إلى دهر الدهور سنوك. من قدم أسست الأرض، والسماوات هي عمل يديك. هي تبيد وأنت تبقى، وكلها كثوب تبلى، كرداء تغيرهن فتتغير. وأنت هو وسنوك لن تنتهي» (مز 23:102- 27؛ عب 10:1- 12).
إن التعبير «سنوك لن تنتهي» (مز 17:102) لا يتعلق بمكانة سيدنا كالله والرب، فمن هذه الناحية لا سنين له، إذ هو الأزلي الأبدي. لكن هذا التعبير يرتبط بذاك الفريد المجيد الذي عاش في الناسوت ثم مات وقام. وهو حي إلى أبد الأبدين (رؤ 18:1)، الذي يقول عنه الآب في مزمور 14:91- 16 «لأنه تعلّق بي أُنجيه. أرفِّعه لأنه عرف اسمي. يدعوني فأستجيب له، معه أنا في الضيق، أنقذه وأمجده. من طول الأيام أشبعه وأُريه خلاصي».
فبالإضافة إلى كونه بلاهوته –له كل المجد- يبقى إلى الأبد، فإنه بناسوته أيضًا يبقى إلى الأبد. وفي هذا يقول الرسول عنه –تبارك اسمه- «المشهود له بأنه حيٌ» الذي له «قوة حياة لا تزول .. إذ هو حي في كل حين» (عب 8:7، 16، 25).
والمسيح كإنسان سأل حياة القيامة من إلهه وأبيه، واستُجيب له من أجل تقواه (عب 7:5؛ مز 17:118) «حياة سألك فأعطيته طول الأيام إلى الدهر والأبد» (مز 4:21) فالمسيح المُقام من الأموات ستطول أيامه (مز 16:91؛ إش 11:53)، ستكون حياته إلى دهر الدهور (مز 24:102)، وبلا نهاية (عب 16:7). وهو –تبارك اسمه- الذي طمأن قلب يوحنا –تلميذه الضعيف الخائف- قائلاً له: «لا تخف (ويا لها من كلمة تبدد الخوف وتأتي بالطمأنينة والسلام) أنا هو الأول والآخر، والحي. وكنت ميتًا، وها أنا حيٌ إلى أبد الآبدين .. ولي مفاتيح الهاوية والموت» (رؤ 17:1، 18).
والرب يسوع المسيح إذ دخل كإنسان إلى المجد، فإنه من هناك يواصل تمجيد الآب بإعطاء الحياة الأبدية للذين أعطاهم له الآب «إذ أعطيته سلطانًا على كل جسد ليعطي حياة أبدية لكل مَنْ أعطيته» (يو 2:17). فإذا كانت دائرة سلطانه تشمل كل جسد، فقد أُعطي البعض له لكي يمنحهم حياة أبدية. هبة من شخصه الكريم. وبهذا المعنى كان «ربي وإلهي» قد قال مرة عن المؤمنين باسمه: «وأنا أُعطيها حياة أبدية ولن تهلك إلى الأبد» (يو 28:10). وقال مرة أخرى: «وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني: أن كل ما أعطاني لا أُتلف منه شيئًا. بل أُقيمه في اليوم الأخير» (يو 39:6).
الحياة الأبدية لا يُشار إليها قط كنصيب حاضر لقديسي العهد القديم. وحتى في أضيق صورها التي أُعلنت بها في العهد القديم (مز 3:133؛ 2:121) كانت تعني شيئًا مستقبلاً، نبوة عن حياة البركة تحت مُلك المسيًا في العالم العتيد، الألف السنة. ومثلها أيضًا في الأناجيل الثلاثة الأولى المتماثلة (مت 16:19، 17، 46:25؛ لو 25:10). إنها توقعات وانتظارات اليهودي التقي في المستقبل. أما المفهوم المسيحي للحياة الأبدية فنجده في إنجيل يوحنا وفي الرسائل (يو 10:10؛ 1يو 11:5- 20).
والحياة الأبدية بالمفهوم المسيحي ، ليست مجرّد الخلود أو الوجود إلى الأبد كما يفتكر الكثيرون، فإن هذا سيكون أيضًا نصيب الأشرار في بحيرة النار والكبريت. فالحياة الأبدية ليست مجرد حياة لا تنتهي، فهي ليست في المقام الأول كمية مختلفة من الحياة، بل نوعية مختلفة. إنها حياة الله الأزلي الأبدي. إنها حياة بلا نهاية ولكنها أيضًا بلا بداية. إنها حياة غير محدودة. ليس في طولها فقط، بل أيضًا في عمقها. ليس في مدتها فحسب، بل أيضًا في اتساعها وسعادتها وبركتها وخصائصها الفريدة.
إن الحياة الأبدية هي حياة الله نفسه كما ظهرت بصفاتها الرائعة في شخص المسيح على الأرض (1يو 2:1). وهي تجد متعتها ولذتها في الشركة مع الآب ومع ابنه بقوة الروح القدس، كما قال الرب يسوع المسيح: «وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته» (يو 3:17).
وعندما يقول المسيح: «أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي .. ويسوع المسيح» فهو طبعًا لا يعني أن نعرف أمورًا عن الله، بل أن نعرفه هو شخصيًا. وأن يكون لنا شركة روحية وعلاقة حُبية معه. إنها معرفة من نوع جديد بعد الإعلان الكامل الذي جاء بمجيء الابن نفسه. فالحياة الأبدية ليس مظهرها مجرد معرفة عقلية في الرأس عن الآب وعن الابن، بل معرفة التمتع والعشرة والشركة، إذ أن لنا ذات صنف الحياة التي للآب وللابن.
فيا ليتنا نتفكر في هذا الحق. الحياة الأبدية هي حياة الله نفسه، وغرض مجيء الرب يسوع المسيح (بحسب إنجيل يوحنا) هو أن يأتي للأموات بالحياة، وليس بالحياة فقط، بل أن تكون لهم الحياة الأبدية: الحياة الفائضة المتفاضلة، «وأما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل» (يو 10:10).
ونحن نتمتع بتلك الحياة السماوية الإلهية من لحظة الإيمان «الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية» (يو 36:3)، لكن الحياة في غمرها وفي ملء أفراحها وفي حقيقتها هي الوجود كل حين مع الرب في بيت الآب. فليس العالم الذي نعيش فيه هو جو ومناخ الحياة الأبدية. صحيح أن الحياة الأبدية فينا، ولكننا لسنا بعد فيها. وسنصل إلى جو ومناخ الحياة الأبدية بمجيء الرب وفداء الأجساد.
وفي مزمور 11:16 يقول الرب يسوع المسيح بلسان النبوة: «تعرفني سبيل الحياة. أمامك شبع سرور. في يمينك نعم إلى الأبد». و«سبيل الحياة» هي الطريق التي تنتهي بنا إلى الرب حيث ملء الفرح والمسرات الأبدية. ولكن في أعمال 28:2 تذكر الترجمة السبعينية ما جاء في مزمور 11:16 بطريقة أخرى: «عرفتني سبل الحياة» لأن القرينة في أعمال2 هي تأسيس الكنيسة في يوم الخمسين، واشتراك كل المؤمنين معه في كل شيء باعتبارهم أعضاء جسده وهو رأسهم المُمَجَّد في السماء. له كل المجد.
(يتبع)