عدد رقم 2 لسنة 2006
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
دليلة   من سلسلة: شابات الكتاب المقدس

(قضاة 16)

غانية بلا قلب، أذلّت وحطمت رجلاً من أعظم الرجال في العهد القديم، وأفسدت نذر أول نذير من بين ثلاثة كانوا نذيرين للرب من بطون أمهاتهم، هم: شمشون، ثم صموئيل، وأخيرًا يوحنا المعمدان؛ وقضت على القاضي الأخير في سفر القضاة.

والحقيقة أنه لولا علاقة دليلة بواحد من سحابة الشهود، أبطال الإيمان المدونة سيرتهم في الرسالة إلى العبرانيين 11 لما كنا نتوقف عندها طويلاً، فمثلها في كل جيل كثيرات، لا يستحقون منا الالتفات، ولكن لأنه كان لها دخل خطير في حياة بطل عظيم، فإننا نتوقف عندها لنأخذ لأنفسنا الدرس والعبرة.

وتعتبر دليلة أول جاسوسة من الجنس اللطيف.  فيما بعد اشتهر استخدام هذا الأسلوب الرخيص للإيقاع بالأعداء.  ولأنها غانية فهي لم تكن تعرف شيئًا عن الحب الحقيقي، الذي هو أجمل ما في الحياة قاطبة، ولو أنها عرفت الكثير من شهوة الجسد.  وعلينا أن نميز بين الحب والشهوة، تمامًا كما نفرق بين الأبيض والأسود.  الحب هو طبيعة الله نفسه، الحب هو جو السماء؛ أما الشهوة فهي بضاعة الشيطان في هذا العالم، وتتعامل مع الطبيعة الساقطة فينا. وآه من الشهوة، كم دمرت وكم أذلت! وكم سقت كؤوسًا من المرار والعلقم!  وقصة شمشون، ولا سيما في علاقته بهذه الغانية اللعوب، تحكي لنا الكثير والكثير جدًا.

ودليلة التي سندرس فيما يلي شخصيتها استخدمت جاذبيتها لتغري شمشون وتحطمه روحيًا وأدبيًا.  وهي تشغل مكان واحدة من أشر نساء الكتاب المقدس.  لقد استخدمت جمالها وحذقها في الشهوة، لتدمر حياة رجل أحبها، وذلك لأنها هي أحبت الفضة، وما كان يعنيها شيءٌ سوى الحصول على المال بأي ثمن.  كان خلف وجهها الجذّاب يكمن لسان كذّاب.  في البداية كان لها الكلمات المعسولة، وفي النهاية كان لها لسعات الحية والأفعوان، ذلك لأن قلبها كان أسود كالفحم، حارقًا كالجحيم.  وشرها الأعظم ليس أنها سلَّمت شمشون ليد أعدائه، بل إنها قادته ليخون إلهه، ويدنس انتذاره له.

كان هدف دليلة الأول - إن لم يكن الأوحد - هو المال، هذا الذي قال عنه الكتاب: «لأن محبة المال أصل لكل الشرور» (1تي6: 10).  وفي سبيل حصولها على المال مات أكثر من ثلاثة آلاف نفس.  لكن هذا لا يهم، طالما هي حصلت على بغيتها، المال!  بل إننا لا نستبعد أن تكون هي ضمن من ماتوا في معبد داجون، الذي هدمه شمشون عليه وعلى أعدائه (قض16)، وفي هذه الحالة تكون نظير الكثيرين من الخونة الذين باعوا المبادئ بالمال، وراحوا ضحيته!  نذكر منهم بلعام العراف، الذي تسبب في قتل أربع وعشرين ألفًا من شعب الله، ثم مات بخيانته (عد25؛ يش13: 22).  كما نذكر في مقدمة ركب الخونة واحدًا كان معدودًا مع الرسل الاثني عشر، هو يهوذا الإسخريوطي، الذي لم يسلِّم شمشون القاضي بخمسة الآف وخمسمئة من الفضة، كما فعلت دليلة، بل سلَّم ملك الملوك ورب الأرباب، ديان الأحياء والأموات، بثلاثين من الفضة!  هذا أيضًا مات، دون أن يتمتع بالمال الذي اشتهاه (مت27: 3-5)!

لقد أحبت دليلة «أجرة الإثم».  وهي إذ قبضت الفضة، لم يهمها بعد ذلك أن يهلك النذير، الذي كان يُنتظر منه الكثير.  وإننا لنتساءل: هل عند العالم الفاسد، وهل عند أتباع الشيطان، شفقة على الشهود الأمناء والخدام الذين يريدون إكرام الرب؟  إنهم - لو أمكنهم – لن يترددوا عن أن يحطموهم تحطيمًا، فقط لو أعطيناهم نحن الفرصة.  ولن نلوم الشيطان، ولن نلوم أتباعه الذين باعوا أنفسهم له، لكن نلوم وبشدة أنفسنا، إن نزلنا بأرجلنا إلى وادي سورق، وبكامل إرادتنا دخلنا إلى بيت دليلة، بدل المرة مرات!

يقول البعض أن دليلة معنى اسمها رقيقة أو لذيذة. وما هي برقيقة ولا لذيذة.  وبسبب تاريخها الآثم فإننا لا نعود نقرأ عن شابة أخرى في الكتاب بهذا الاسم، وما أقل من نعرفهن في الحياة حملن هذا الاسم، إن كان أصلاً هناك من حملته.

***

وقبل الحديث عن دليلة محطمة البطل، دعنا في عجالة نتعرف على هذا البطل المغوار الذي راح ضحية الشهوة. إنه شخص امتلك قوة بدنية لم نشاهد ولم نقرأ لها نظيرًا. وأفلام اللامعقول التي تصور شخصًا لا يُهزم أبدًا، لم يصل خيال الإنسان فيها إلى أن رجلاً يقتل ألف رجل بلحي حمار!  لكن هذا ما حدث فعلاً وحقًا مع شمشون، دون خدع سينمائية أو دبلجة تصويرية. وفي مرة أخرى شق شبل الأسد ولم يكن في يده شيء!  وفي أكثر من مرة قطع الحبال والوُثق التي قيدته! وفي مرة حمل بوابة مدينة غزة بعوارضها، وصعد بها فوق الجبل!  لكن صاحب هذه الصولات والجولات، انهزم من إرادته. والذي أمكنه بسهولة أن يقطع قيود الأعداء، فشل تمامًا أمام قيود الإغراء.  بالإجمال كان شمشون جبارًا يملك قوة لا تُبارَى ولكنه لم يكن يملك روحه!  ومن دراستنا لشخصيته كما وردت في كلمة الله نجد أنه ما كان يملك عقله إذا اشتهى، ولا يملك نفسه إذا غضب! ورغم أنه على الأرجح كان أقوى رجل في العالم على مدى التاريخ البشري كله، لكنه أدبيًا كان ضعيفًا جدًا.  وتحضرنا هنا كلمات الحكيم: «اَلْبَطِيءُ الْغَضَبِ خَيْرٌ مِنَ الْجَبَّارِ. وَمَالِكُ رُوحِهِ خَيْرٌ مِمَّنْ يَأْخُذُ مَدِينَةً». (أم16: 32).

القصة من البداية

للمرة السابعة في سفر القضاة نقرأ أن بني إسرائيل عادوا يعملون الشر في عيني الرب، فدفعهم الرب ليد الفلسطينيين. وللأسف لا نقرأ هذه المرة أن الشعب صرخ إلى الرب، ولا طبعًا أنه تاب وندم. ويمكن القول إن «الشعب لم يرجع إلى ضاربه» (إش9: 13).  ولأنه لم تكن هناك توبة عامة، لم يكن هناك إنقاذ قومي.
ونلاحظ أن حروب شمشون كانت كلها حروبًا فردية. القضاة الآخرون قادوا شعبًا تائبًا، فنصرهم الرب على أعدائهم.  لكن ليس كذلك شمشون.

أبوا شمشون كانا من سبط دان، لكنهما لم يرحلا شمالاً مع من رحل نحو لايش (قض18)، بل ظلا في أرضهما، في مدينة صرعة، على الحدود التي تفصل الأرض عن الفلسطينيين.  كانا تقيين، ولهما علاقة حقيقية مع الله، لكن كانت لديهما مشكلة مذلة، وهو أن زوجة منوح كانت عاقرًا.  وبالنسبة للمرأة الإسرائيلية كان هذا يعتبر عارًا.

ولقد تداخل الله في الأمر، لا لصالح الأسرة فحسب، بل لصالح الشعب كله. ولأنه تداخل إلهي، فقد كان بأسلوب النعمة وحدها، كما كان بأسلوب معجزي وفائق للطبيعة.  فظهر ملاك الرب لامرأة منوح وبشرها بمولد شمشون. ولم يكن الرسول المبشر هنا نبيًا أو رجل الله، أو ملاكًا من الله، بل كان هو الرب نفسه!

إذًا فلقد وُلِدَ شمشون بمعجزة إلهية، وليس ذلك فقط، بل الله بنفسه أعلن مولده.  يوحنا المعمدان مثلاً أعلن جبرائيل عن مولده، أما شمشون فالرب نفسه.

كانت البشرى للمرأة أنها ستلد ابنًا، وهذا الابن سيكون نذيرًا للرب.  ولقد طُلب من الأم أن تمتنع عن الخمر والمسكر، ليكون الصبي نذيرًا للرب من البطن.  وبعد أن وُلد الصبي وكبر، ابتدأ روح الرب يحركه، فبدأ بداية واعدة، ولكنه بكل أسف لم يكمل المسيرة كما كان المتوقع، بل انحرف انحرافًا خطيرًا، قاده أولا إلى أن يفقد شهادته، ثم بعدها أن يفقد انتذاره، ثم أخيرًا يفقد حياته!

لم تكن حياة شمشون بصفة عامة ناجحة. ولا نقرأ أنه صلى سوى مرتين، وكانت هاتان المرتان لأسباب شخصية لا روحية. ولقد دخل شمشون في العديد من العلاقات العاطفية فشلت كلها، ذلك لأنه – كما ذكرنا – سار وراء شهوته، لا وراء الرب. وكانت حياته، في مجملها، سلسلة من المعارك الشخصية، تتخللها فترات من المتع الجسدية.  وهناك عبارة قالها شمشون تلقي الضوء على نوع معاركه، قالها عندما خذله صهره التمني في فتاة أحلامه وحبه الأول، وقرر شمشون أن ينتقم لكرامته المهدرة، فقال: «ولو فعلتم هذا، فإني أنتقم منكم وبعد أكف» (قض15: 7).  بالأسف لم يكن شمشون مثل الشاب يوسف، لا في تعففه عن الشهوة، ولا في ترفعه عن الانتقام.  فعندما أُخِذْت منه الفتاة التي قرر أن يتزوجها، والتي لم تكن مُعيَّنة له من الرب، لم يعرف أن يقول، كما قال قبلاً يوسف النذير الحقيقي: «أنتم قصدتم لي شرًا، أما الله فقصد به خيرًا» (تك50: 20)، كلا، بل قال هذه العبارة المحزنة التي ما كانت تليق برجل الإيمان، النذير، الذي باركه الرب، وابتدأ روح الرب يحركه وهو بعد صبي. قال شمشون: «أنتقم منكم وبعد أكف».

لكنك يا شمشون لم تحسب حساب الطرف الآخر الذي ستنتقم أنت منه.  مَنْ قال لك إن الطرف الآخر سوف يكف؟  إنك بالانتقام ستدخل في حلقة مفرغة، لا يعرف أحد مداها إلا الله. وجرائم الثأر في صعيد بلادنا تشهد بتلك المأساة الرهيبة!

ولذا فلقد ظل الفريقان كلٌ متربص بالآخر، حتى واتتهم الفرصة أخيرًا، وأمكنهم أن يقلعوا عينيه ويسجنوه.  ولكن الانتقام لم ينته هنا، فلقد انتقم هو أخيرًا لعينيه، قتل منهم نحو ثلاثة آلاف، ومات وهو ينتقم! 

والدرس المبدئي الذي نتعلّمه هنا هو أنك تستطيع أن تختار السير في طريق الشر، وأن تختار موعد بدء السير في هذا الطريق، ولكنك لست أنت الذي تحدد متى يتوقف. وليس سوى الله يعلم أين ومتى وكيف ينتهي هذا الطريق الزلق والخطر!

هكذا كانت البداية، وهكذا استمرت، حتى أتت النهاية التي ما كنا نتمناها لشمشون.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com