المحبة للإنسان لمجرد كونه إنسان، ونظرة التقدير له، أيًا كانت خصائصه، سواء امتلأ بالمزايا أو بالعيوب، وأيًا كانت درجة القرابة له من عدمه، سواء اتخذ موقف العداء أو المحبة، وسواء كان منفِّرًا أو جذَّابًا، لكن فقط لأنه إنسان من الجنس البشري؛ هذا الأمر لا يمكن أن يقوم به أو يظهره سوى المؤمنين فقط، إذ لهم طبيعة الله، وتعلَّموا أن الله يتّجِه بقلبه وإحسانه لكل الجنس البشري، بغَضِّ النظر عن مواصفاتهم. إلا أن هذا الأمر من أكثر الأمور التي يظهر فيها قصور المؤمنين. ونشير هنا إلى بعض العوائق التي تعطِّل سريان هذه المحبة غير المشروطة للجنس البشري (الفيلانثروبي):
1- عدم إدراك قيمة الإنسان أمام الله
خلق الله الإنسان على صورته كشبهه «نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا» (تك1: 26). فهو، منذ خلقه، مخلوق متميِّز في فكر الله؛ سواء في طريقة خلقه، أو علاقة الله به، فعندما كان آدم في الجنة كان الرب الإله يأتي إليه لزيارته. كما أنه متميِّز في الغرض من خلقه. فالله من البداية علَّمنا قائلاً: «ولذَّاتي مع بني آدم» (أم8: 31). فالله يجد لذّة خاصة من جانبه في هذا المخلوق المتميِّز لمجرد كونه إنسان أو بني آدم.
وعندما سقط الإنسان، لم يرفضه الله أو يمنع عنه إحسانه، بل اتجه إليه بقلبه ليُظهِر ما في قلبه من حب نحو الإنسان حتى بعد سقوطه؛ بل اتخذ من السقوط مجالاً لإظهار هذا الحب والكرم والنعمة. ويأتي من السماء في صورة إنسان «فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضًا كذلك فيهما» (عب 2: 14)، ومات على الصليب. فالله أحب الإنسان حتى بذل ابنه الوحيد.
بعد الإيمان لم يُسلَخ المؤمنون من الجنس البشري، لكن الله أعطاهم حياته ليُظهِروا صفاته تجاه بقية البشر. ولكن أحيانًاينسى المؤمن إظهار صلاح الله وإحسانه وحبّه غير المشروط لبقية الجنس البشري.
2- غياب فكرة الانتماء للجنس البشري
المؤمنون جزء من ذرية الله الذين يهتم بهم، وصنعهم من دم واحد كبشر وأعطاهم كل شيء (أع 17: 26-29). وبعد الإيمان لم يُسلَخ المؤمنون من الجنس البشري، لكن الله أعطاهم حياته ليُظهِروا صفاته تجاه بقية البشر.
ولكن أحيانًا، بعد الإيمان، مع كثرة العيشة في الارتباط الحلو ببقية المؤمنين، تجعل المؤمن ينسى أنه جزء من الجنس البشري الذي أحبه الله مع أنه سقط. وينسى إظهار صلاح الله وإحسانه وحبّه غير المشروط لبقية الجنس البشري.
مع أن المؤمن لو لم يكن من الجنس البشري، فلن يكون واحدًا من الذين أحبهم الله؛ فهو «أحب العالم (الناس، البشر)» (يو 3: 16). ولو لم يحبه الله كإنسان وهو في خطاياه، ويحبه المؤمنون السابقون له ويقدِّموا له بشارة الإنجيل، لَمَا آمن أو خَلُص (رو 1: 14).
غياب فكرة الانتماء للجنس البشري تجعل المؤمن يُقسِّم العالم إلى فئات حسب خصائصهم ومزاياهم وعيوبهم، وهذه هي الفريسية التي يبغضها الرب.
3- الفهم الخاطئ لمعنى الانفصال عن العالم
المؤمنون «ليسوا من العالم» (يو 17: 14)، وينبغي أن ينفصلوا عنه، والمؤمن الفرد نذير كل أيام حياته مُنتذرًا للرب، منفصلاً عن العالم. هذه حقائق تقرِّرها كلمة الله. ولكن ليس المقصود بهذه الحقائق الترفُّع عن الآخرين أو العُزلة عنهم، فهم لا بد أن يعيشوا في العالم، لكن بروح وطريقة مختلفة عن ما كانوا عليه قبل إيمانهم.
فهُم من ناحية لا يختلطون بالعالم أو يعيشون بنفس مبادئه ولأجل نفس أهدافه، لكن من الناحية الأخرى الله جعلهم في العالم ليُظهِروا طبيعته ومحبته للجنس البشري، ليتجِهوا بكل الحب للناس كما يتجه إليهم الله، وأيضًا يشاركون كل البشر أفراحهم وأحزانهم «فرحًا مع الفرحين وبكاءً مع الباكين» (رو 12: 15).
4- سوء فهم حقيقة الاختيار
الاختيار حقيقة مؤكَّدة في كلمة الله، تُعلن سلطان الله المُطلَق في استخدام نعمته ومحبته، لكي يجود بالبركة بما يتناسب مع قلبه على مَنْ يشاء. لكنها لا تتعارض مطلقًا مع محبة الله العظيمة لكل الجنس البشري، فالله لم يَقُل إنه أحب جزءًا من البشر أو فصيلة مُعيَّنة ذات خصائص مُعيَّنة، بل كل العالم. والمسيح لم يأتِ ليموت لأجل المختارين فقط، بل لأجل كل العالم، وبذل حياته لأجل الجميع.
كما أنه في الاختيار لا نقرأ أن الله اختار عيَّنات من البشر ذات مواصفات جيدة، أو من يستحقون أن يحبهم، بل اختار الله أقل وأسوأ العيِّنات (1كو1: 26-29).
والفهم الصحيح لحقيقة الاختيار يجعل المؤمن يتجه بصفة مستمرة للآخرين من الجنس البشري، ويحبهم مُظهرًا لهم إحسان الله، ويتحمَّل من أجلهم. وهذا ما كان يفعله الرسول بولس «ولأجل ذلك أنا أصبر على كل شيء لأجل المختارين، لكي يحصلوا هم أيضًا على الخلاص» (2تي2: 10).
كما أن حقيقة الاختيار لا تتضمن مطلقًا أن الله أبغض البعض كأفراد أو كبشر. وعندما ذكر الكتاب القول: «وأحببت يعقوب وأبغضت عيسو» (ملا 1: 2،3) فهو لا يتكلَّم عن بغضة إنسان لكونه إنسان، بل عن تقييمه لسلوك شعب بأكمله وإدانة هذا السلوك، فهو يُقرِّر بعدها «وجعلت جباله خرابًا وميراثه لذئاب البرية». لكن طالما نحن في زمان النعمة، ولم يأتِ بعد يوم الانتقام من السلوكيات البشرية، فلم يزل الحب الإلهي غير المشروط للجميع.
5- الهدف من وجود المؤمن على الأرض
المسيح جاء من السماء «لكي يطلب ويُخلِّص ما قد هلك»، وعاش على الأرض لكي يعلن أن الله يحب الإنسان حتى بذل حياته في طريق تحقيق هذا الهدف. والمؤمن يجب أن يعيش على هذه الأرض مثلما عاش المسيح ولأجل نفس الأهداف.
وإذا فقد المؤمن إدراكه لهذا الهدف فلن يستطيع أن يتعامل مع البشر بهذه الروح السامية الراقية.
وإذا عاش لهذا الهدف فسيُحبّ الآخرين بلا شروط وسوف يكون له القلب المتسع والمرونة التي تجعله يقول: «صرت للكل كل شيء، لأخلِّص على كل حالٍ قومًا» (1كو 9: 22).
6- الأنانية المتأصلة في كيان الإنسان
الأنانية، من ناحية، تجعل الشخص لا يحب إلا مَنْ يستفيد منه، ومن ناحية أخرى تجعله يشعر بأنه الأفضل، وأنه عيَّنة مختلفة عن باقي البشر، ومَنْ ليس مثله غير جدير بالحب أو بالاتجاه إليه والتعامل معه.
كما أن الأنانية تجعله في حالة إدانة دائمة للآخرين، لا يتعلَّم كيف يلتمس الأعذار لهم، بل يُسَر بالإدانة، وليس بالحب. ولننظر كيف رفع الكتبة والفريسيون الأحجار على المرأة الني أُمسِكَت في زنا (يو 8: 5)، ولم تظهر فيهم ذرَّة من اللطف والإحسان؛ لكن لننظر كَمَّ الإحسان والحب واللطف الذي ظهر في المسيح وهو يتعامل معها.
7- عدم معرفة المؤمن لفساده الداخلي
المؤمن الذي لا يعرف حجم فساده وخرابه الداخلي تراه يتكلَّم عن غيره من البشر كما لو كان يتكلَّم عن الآخرين، وهو من فصيلة أخرى. لكنه لو أدرك أن ما يراه من خصائص قد تكون مُرعبة، ومُنفِّرة وتبعث على الاشمئزاز في الآخرين وفي سلوكهم الظاهر، كل هذا وأكثر منه، موجود في داخله؛ لتغيَّرت لغته وتغيَّر تعامله. ومع هذا كله، فنعمة الله التي حفظته، مَدَّت له يد الإحسان وهو في هذه الحالة واجتذبته رغم عدم صلاحه؛ لو أدرك هذا كله سيُدرك أنها نفس النعمة التي تعمل فيه ليُحب الآخرين على ما هم عليه، وهي موجودة لكل منهم حتى لو كان أول الخطاة.
8- سوء فهم المحبة الأخوية الفيلادلفية
هذا يعني فهم المؤمنين على أن محبتهم الشديدة لبعضهم تعني أخذ موقف سلبي من الآخرين. بينما نتعلَّم من مؤمني فيلبي أو محبتهم التي يصلي لأجلهم الرسول أن «تزداد محبتكم أيضًا أكثر فأكثر في المعرفة وفي كل فهم» (في 1: 9)، كانت تزداد في كل الاتجاهات، فهو يشكر الله أولاً من أجل مشاركتهم في الإنجيل (ع 5)، وهو يعني محبتهم للإنسان الخاطئ والاجتهاد في توصيل بشارة الله السارة له.
”فاقد الشيء لا يعطيه“، فكيف يمكن أن يتجه قلب مؤمن بالحب إلى إنسان.. إن لم يمتلئ قلب هذا المؤمن بمحبة الله
9- غياب جو محبة الله المشبعة
على مبدإ ”فاقد الشيء لا يعطيه“، كيف يمكن أن يتجه قلب مؤمن بالحب إلى إنسان قد يكون إرهابيًا يُهدِّد حياته، وقد يكون الأمور الحادثة منه ذكرها قبيح، أو يختلف معه تمامًا في التفكير والطباع والأهداف؟ مستحيل أن يحدث إن لم يمتلئ قلب هذا المؤمن بمحبة الله «نحن نحبه (نُحب) لأنه هو أحبنا أولاً» (1يو 4: 19).
فلا بد من مصدر يستقي منه المؤمن هذه الطاقة الجبارة التي يستطيع أن يخرج منها هذا الحب للإنسان، فقط لكونه إنسان.
لقد حدث هذا مع استفانوس وكان وهم يرجمونه يهتم بهم ويحبهم ويصرخ لأجلهم «يا رب لا تُقِم لهم هذه الخطية» (أع 7: 60).
هذا لا يلغي مطلقًا المحبة الخاصة، والعلاقات الخاصة، والإعجاب بالفضائل؛ لكن محبة الله المُشجِّعة تتخطَّى كل هذا وتصل للجميع بلا شروط.
كثيرون من المؤمنين يميلون لمجاراة الجو العام الذي يعيشون فيه، وهذا الجو نادرًا ما تكون المحبة الإلهية عاملة فيه بوفرة
10- التأثر بالجو العام والرأي العام الذي نعيش فيه
كثيرون من المؤمنين يميلون لمجاراة الجو العام الذي يعيشون فيه. والذين يتأثرون بالرأي العام غالبًا ما يتأثروا أكثر بالرأي السلبي وليس الإيجابي (عد 13: 31- 14: 4). والرأي العام غالبًا ما يُحدِّد للشخص النظام والهيكل الذي يعيش فيه: ما يفعل، وما لا يفعل. وهو أيضًا يُحدِّد موقفنا تجاه الآخرين وتقسيمهم: إلى مَنْ يستحق ومَنْ لا يستحق. وهذا الجو نادرًا ما تكون المحبة الإلهية عاملة فيه بوفرة، وبالتالي يتأثر المؤمنين من هذا الجو وينعكس هذا بمواقف سلبية منهم تجاه الآخرين.
وكلما كان هذا الجو العام يميل للانغلاق والتقوقع وعدم المرونة وتقسيم العالم إلى دوائر، يتأفف عن الاقتراب من بعضها بحجّة القداسة؛ كلما خلق هذا حاجزًا نفسيًا بينه وبين الآخرين، بل إنه أحيانًا يُقسِّم كل البشر إلى إخوة وغير إخوة.
لكن الذي يعيش في جو المحبة الإلهية، ويستقي أفكاره من الله، ويمتحن كل شيء ويتمسَّك بالحسن؛ يقينًا ستعمل محبة الله في كيانه لتجعله يحب الآخرين محبة غير مشروطة، فقط لكونهم بشر.