Philanthropia and Philadelphia
”فيلانثروبيا“ هي لفظة يونانية أوحى بها الروح القدس لبولس وهو يكتب رسالته لتيطس ليصف بها المشاعر الإلهية التي فاضت من نحو البشر في الوقت الذي فيه وصلت بهم خطاياهم لقاع البؤس والتعاسة، وتُرجمت في ترجمتنا العربية ”إحسان“.
ولقد اقتبست دوائر المال والأعمال هذه الكلمة من الوحي، ليصفوا بها الأنشطة التي تهتم بالأعمال الإنسانية الخيرية، وكذلك ليصفوا بها الرجال المشهورين بعطائهم المادي للفقراء، ويُسمى كل منهم فيلانثروبست philanthropist. ومن المعروف أن أشهر فيلانثروبست حاليًا هو ”بيل جيتس“ صاحب ”مايكروسوفت“، والذي وصل حجم عطائه للأعمال الخيرية، مؤخَّرًا، إلى 30 بليون دولار، والبعض يقول 45بليون دولار.
وبلا شك إن اتخاذ أو اقتباس دوائر المال والأعمال لفظة من الكتاب المقدس ليصفوا بها الأعمال الخيرية الإنسانية هو أمر لا يزعجنا، لكن لنا في نفس الوقت بعض التحفظات:
- إنه اقتباس تمَّ دون الإشارة للمؤلف الذي نحت هذا التعبير، وأول من استعمله؛ ألا وهو: الروح القدس، في كتابه العظيم؛ ”الكتاب المقدس“.
- إنه يُستعمل، ليس بالضبط في المجال الذي نُحتَ لأجله، إذ صار يستعمل لوصف العطاء المادي للإنسان فقط، ومع تقديرنا الكامل للعطاء المادي، لكننا نرى أن الفيلانثروبي الحقيقي أعظم وأشمل وأعمق من هذا، كما أن احتياج الإنسان الأول ليس هو إلى المال.
- إنهم يذكرون كل سنة قائمة بأسماء أشهر الفيلانثروبست على مستوى العالم، والتي يتصدرها في الآونة الأخيرة بيل جيتس، لكنهم ولا مرة ذكروا اسم أول وأشهر وأعظم فيلانثروبست حقيقي.
لكن..
بغضِّ النظر عن هذا الاقتباس واستعماله الخاطئ، دعونا نحن، كمسيحيين حقيقيين، نتوقف عند هذا التعبير، لنعرف معناه الصحيح، وما الذي يريد الروح القدس أن يعلِّمه لنا من خلاله.
”فيلانثروبي“، كلمة مكوَّنة من مقطعين، المقطع الأول ”phil“ وهو مشتق من ”Philos“ ويعني كفعل: شخص مُغرم بآخر، والمقطع الثاني ”anthropia“ وهو أحد مشتقات كلمة ”Anthropos“ والتي تعني ”الإنسان“. وعليه، تصبح الكلمة من المقطعين معًا تعني نوعًا من الحب والغرام بالإنسان، أو الاشتياق إليه والرغبة في الارتباط به. أو كما يترجمها سترونج في قاموسه: Fondness of mankind أي حب الجنس البشري لدرجة الغرام، أو متيَّم بحب الإنسان.
أي أنه تعبير لا يصف الشفقة على البشر لفقرهم، ولا الرثاء لهم لبؤسهم، لكنه يصف الحب لهم لذواتهم!! إنه حب الإنسان حبًّا حقيقيًا، بحيث يجعل المحب (الفيلانثروبست) مُغرَمًا بالإنسان ومشتاقًا للإرتباط به والتوحُّد معه، لا لشيء إلا لمجرّد كونه إنسان!! وهذا ما لا يمكن أن تفهمه دوائر المال والأعمال، لكن يفهمه جيدًا كل من اتصل بدوائر السماء.
وأما كلمة فيلادلفيا Philadelphia“، وهي الأكثر شهرة بيننا، فهي أيضًا تتكون من مقطعين الأول: ”Phil“، وقد سبق شرحه. والمقطع الثاني هو: ”Adelphia“، وهو أحد مشتقات كلمة ”Adolphos“ والتي تعني أخ. وعليه تصبح الكلمة من المقطعين تعني: حب خاص موجَّه للإخوة لدرجة الغرام بهم.
من المفترض فينا، ككنيسة الله، أن تكون الفيلانثروبيا الحقيقية هي رسالتنا. وأن تكون الفيلادلفيا الحقيقية هي سمتنا.
ومن المفترض فينا، ككنيسة الله، باعتبارنا الامتداد الحي المستمرّ للمسيح على الأرض، أن تكون الفيلانثروبيا الحقيقية، أي: ”محبة الجنس البشري“، هي رسالتنا. وأن تكون الفيلادلفيا الحقيقية، أي: ”المحبة الأخوية“، هي سمتنا. لكن السؤال الذي نطرحه الآن أمام ضمائرنا: أين نحن من المفهوم الذي تطرحه هاتين الكلمتين؟
أي: أين نحن من حب الناس لدرجة الغرام بهم؟
وأين نحن من حب إخوتنا القديسين حتى نكون متيَّمين بهم؟
إن تقديري الشخصي لمستوانا الروحي على هذين المحورين متدنٍّ للغاية؛
فنحن نعتبر أن مجرد عدم كراهيتنا للناس هو الحب لهم!!! فهل هذا هو الغرام بهم كما تصفه الكلمة الموحى بها؟!
ونحن نعتبر أن وقوفنا إلى جوار إخوتنا في أمراضهم وجنازاتهم، مع مشاركتنا لهم في حفلات زفافهم، هي المحبة الأخوية المطلوبة منا!!! فهل هذا هو الغرام بإخوتنا كما تصفه الكلمة اليونانية الموحى بها؟!
إن الكتاب يأمرنا أن نصل في حبنا للبشر إلى أن نحب حتى أعداءنا!! وان نصل في حبنا لإخوتنا إلى أن نضع نفوسنا من أجلهم!! فأين نحن من هذا وذاك؟
لذا أرى أنه من المحتَّم علينا أن نتوقف لنراجع أنفسنا، مراجعة جادة، من جهة هذين الأمرين، هذا إذا كنا جادّين في حياتنا الروحية، وإن كنا نتناول الأمور الروحية بإخلاص ونقاوة، وليس لمجرد إشباع ذواتنا بأنشطة دينية اجتماعية تُعلي من قيمتنا - فقط - في أعين أنفسنا، وتريح ضمائرنا بإشباع غريزتنا الدينية. وإنني أتساءل، بحزن وبخوف، فأقول: إذا فقدنا رسالتنا والتي هي محبة الجنس البشري، وفقدنا سمتنا والتي هي محبة إخوتنا، فماذا يتبقى لنا؟!
وأتساءل أيضَا فأقول: إن فقدنا رسالتنا في الحياة؛ ألا وهي إظهار قلب الآب المحبّ لبشرية ساقطة معذبة وتعيسة، وفقدنا سمتنا التي تمّيزنا كتلاميذ المسيح؛ ألا وهي المحبة الأخوية عديمة الرياء، ومع هذا لم نزل نعبد ونخدم ونبشِّر ونعظ ونسمع ونعلِّم ونكتب ونفسَّر ونعقد مؤتمرات ونقيم مجامع!! أ فلا نكون كمن يعيش خدعة كبرى؟؟!!
وفي هذا العدد سنكتفي، أعزائي القراء، بالتوقّف عند الكلمة الأولى ألا وهي ”الفيلانثروبي“ على رجاء أن يعطينا الرب في مرة أخرى، إن شاء وعشنا وتأنى في مجيئه، عددًا خاصًا عن الفيلادلفيا.
الفيلانثروبي
دعونا في البداية نلقي نظرة سريعة على القرينة التي جاءت بها هذه الكلمة كما أوحى بها الروح القدس في تيطس3: 3- 7.
«لأَنَّنَا كُنَّا نَحْنُ أَيْضاً قَبْلاً أَغْبِيَاءَ، غَيْرَ طَائِعِينَ، ضَالِّينَ، مُسْتَعْبَدِينَ لِشَهَوَاتٍ وَلَذَّاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، عَائِشِينَ فِي الْخُبْثِ وَالْحَسَدِ، مَمْقُوتِينَ، مُبْغِضِينَ بَعْضُنَا بَعْضاً. وَلَكِنْ حِينَ ظَهَرَ لُطْفُ مُخَلِّصِنَا اللهِ وَإِحْسَانُهُ - لاَ بِأَعْمَالٍ فِي بِرٍّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ - خَلَّصَنَا بِغَسْلِ الْمِيلاَدِ الثَّانِي وَتَجْدِيدِ الرُّوحِ الْقُدُسِ، الَّذِي سَكَبَهُ بِغِنًى عَلَيْنَا بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ مُخَلِّصِنَا. حَتَّى إِذَا تَبَرَّرْنَا بِنِعْمَتِهِ نَصِيرُ وَرَثَةً حَسَبَ رَجَاءِ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ».
هنا، جاءت كلمة فيلانثروبي لتكشف عن قوة هذه الكلمة من خلال وضع شيئين متضادين معًا؟!
الشيء الأول هو: الحالة المزرية التي وصل إليها الجنس البشري.
والشيء الثاني هو: الفيضان الإلهي بالعطاء للجنس البشري وهو في هذه الحالة!!
هذا التضاد يجعلنا نسأل باندهاش: كيف ولماذا؟ وهنا تبرز قيمة الفيلانثروبي، إذ هو حب خاص للجنس البشري لا يقبل السؤال: كيف ولماذا؟! إنه حب من هذا الذي قال من قديم الزمن: «لذاتي مع بني آدم»، حب لا يبحث عن سبب في المحبوب يجعله مستحِقًّا للمحبة!
هنا تبرز قيمة الفيلانثروبي، إذ هو حب خاص للجنس البشري لا يقبل السؤال: كيف ولماذا؟! إنه حب حب لا يبحث عن سبب في المحبوب يجعله مستحِقًّا للمحبة!
انظر معي إلى حالة الجنس البشري يوم أظهر الله من نحوهم هذا الفيلانثروبي كما يلخِّصه الرسول في هذه الأعداد في سبع صفات: يمكنني تقسيمهم لثلاث مجموعات:
- أغبياء، غير طائعين، ضالين.
- مستعبدين لشهوات ولذات مختلفة.
- عائشين في الخبث والحسد، ممقوتين، مبغضين بعضنا بعضًا.
ولا يخفى عليك عزيزي القارئ بشاعة هذه الصفات، والتي عندما تجتمع كلها في جنس ما، تجعله - بلا شك - لا يُطاق، لكن وهم في هذه الحالة أحبهم الله!!
1- حال الإنسان من جهة علاقته بالله
في المجموعة الأولى ثلاث صفات تصف الجنس البشري من جهة علاقتهم بالله؛ فهم أغبياء، والغباء هنا، طبقًا للكلمة اليونانية المُستعمَلة، هو وصف شخص توفَّرت له كل الأدلة والبراهين على صحة شيء أو خطئه، لكنه لا يريد أن يفهم ولا يريد أن يقبل! فمن يستطيع أن يحب شخصًا كهذا؟
وكان من المحتَّم أن تكون لهذا الغباء نتائجه، لذلك صاروا «غير طائعين» أي أنهم لا يطيعون وصايا الله ونواميسه، وهذا ليس بغريب إذ أنهم رفضوا من البداية قبول كلمته وتعاليمه. وعندما اجتمع غباؤهم مع عصيانهم جاءت النتيجة الأسوأ، ألا وهي ضلالهم، والذي بلا شك يحتِّم هلاكهم.
2- حال الإنسان من جهة علاقته بنفسه
وفي المجموعة الثانية يذكر سِِمة واحدة تلخِّص علاقة الإنسان بنفسه؛ إنه لم يَعُد سيّدًا كما خلقه الله، لكن - للأسف الشديد - لقد فسدت تركيبته، واختلّ كيانه وانقلب حاله؛ فبدلاً من أن يكون سيّدًا صار عبدًا لشهوات ولذات مختلفة!! لقد انحط إلى الحيوانية، ويا ليتها الحيوانية في صورتها الطبيعية التي خلقها الله، لكنها حيوانية شاذة، لأنها حيوانية في صورة إنسانية، وهذه ما أبشعها!
3-حال الإنسان من جهة علاقته بالإنسان
وأما المجموعة الثالثة فهي تصف علاقة البشر بعضهم ببعض، ويلخِّصها في ثلاث صفات؛ فهم عائشين في الخبث والحسد أي أنهم يعيشون عيشة مستمرّة في إيذاء بعضهم بعضًا وحسد بعضهم بعضًا؛ أي إنهم يحقدون أحدهم على الآخر لما يمتلكه، وكل منهم يرى نفسه هو الجدير بالامتلاك وليس غيره! وهكذا أصبحوا ممقوتين، أي لا يُحَبوّن وصاروا مُبين بعضهم لبعض أي لا يُحِبون!
هذا هو حالنا كبشر قبل أن تفتقدنا نعمة الله، كما يصفه الرسول بولس، والذي قدَّم له بالقول «لأننا كنا نحن أيضًا»، وهنا يضم نفسه وتيطس ونحن، عزيزي القارئ، لهذا الوضع المشين. والسؤال: هل من الممكن أن يوجد من يرِقّ أو يشفق، أو حتى يقبل التعامل مع هذه الكائنات الغبية التي انحطت عن الحيوانية وصارت كريهة ممقوتة؟ تأتي الإجابة إنه ليس فقط رَقَّ وأشفق، بل كان مُغرَمًا بهم، متيَّمًا بهم، للدرجة التي فعل فيها الآتي:
أولاً: لا يدين بل يخلص
يقول: «حين ظهر لُطف مخلِّصنا الله وإحسانه».
لقد أخذ وضع المخلِّص لهم، وليس المُنتقِِد أو الديّان!! مع أنه الوحيد الذي له الحقّ أن يَدين! هذا ما أعلنه السيد: «لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلص به العالم» (يو3: 17).
ولقد فعل الله هذا مُنطلقًا من أمرين هما: لطفه وإحسانه. وكلمة لطفه هي كلمة chrestotes اليونانية، والتي يترجمها داربي ”صلاح“ في لوقا6: 35، رومية2: 4، 1بطرس2: 3. أي كان الله مدفوعًا بما هو في ذاته، بغضِّ النظر عن أي مؤثِّر خارجي، لأن هذا الصلاح هو جوهر طبيعة الله، كما علَّمنا المسيح أنه ليس أحد صالح إلا الله. لكن من جانب آخر كان هناك إحسانه "الفيلانثروبي"، والتي يترجمها داربي بصورة أدق فيقول: ”love to man“ أي حب البشر. أي حبه الخاص لهذا الجنس، والذي لم تستطع خطاياهم وشرورهم أن تنال منه، كما أنه هو السبب الذي جعل حالتهم المزرية هذه لا تنجح في أن تقلل من احترامهم أو تقديرهم في عينيه!!
ثانيًا: التطهير والإعمار الروحي
يقول: «بل بمقتضى رحمته خلَّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس».
لقد جعله الفيلانثروبي يأخذ وضع المخلِّص، فماذا فعل لكي يخلص؟
آه ما أكثر وما أروع وما أغنى وأعظم ما فعل!
إنه لم يرسل لهم أموالاً، أو شفاءً، بل لقد شمَّر عن ذراعيه وابتدا بالتغسيل من الأوحال التي كنّا فيها بغسل الميلاد الثاني، ثم بدأ عملية إعادة إعمار لكل الخراب الذي خلّفته الخطية فيهم، وذلك من خلال سكنى الروح القدس الذي سكبه علينا بغنى!!!
ثالثًا: التبرير القانوني
يقول: «حتى إذا تبررنا بنعمته».
إنه لم يكتَفِ بالخلاص الأدبي، الذي استلزم الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس، لكنه خلَّصهم أيضًا خلاصًا قانونيًا قضائيًا، من خلال عملية كبرى هي عملية التبرير، والتي لا يتسع المجال هنا لشرح جوانب عظمتها، كما يشرحها الرسول باستفاضة في رسالة رومية؛ لكن أكتفي بالقول إنه برّرهم بدم ابنه من خطاياهم (رو5: 9)، وبررهم بصليب ابنه من خطيتهم (رو6: 7)، وبررهم بحياة ابنه ليُكسبهم مقامًا عنده، هو ذات مقام وحيده (رو5: 18)!
هذا هو حب الله للبشر الذي جعل الكثير من التسابيح القديمة تناديه بالقول ”يا محب البشر“.
هذه هي مشاعره من نحوهم؛ فبماذا أشعر أنا، وبماذا تشعر أنت، من نحوهم ؟
رابعًا: التوريث الأبدي
يقول: «نصير ورثة حسب رجاء الحياة الأبدية»
كانت نتيجة هذا الخلاص الأدبي، وهذا الخلاص القانوني، أنه استطاع أن يشبع رغبة قلبه من جهتهم، ويصل الفيلانثروبي عنده إلى قمته بأن جعلهم أولادًا له، وأعطاهم حياة ابنه، الحياة الأبدية، والتي خلقت فيهم يقينًا ورجاءً بأنهم قد صاروا، شرعيًا، ورثة الله ووارثون مع ابنه الوحيد!!
هذا هو حب الله للبشر الذي جعل الكثير من التسابيح القديمة تناديه بالقول ”يا محب البشر“.
هذه هي مشاعره من نحوهم؛ فبماذا أشعر أنا، وبماذا تشعر أنت، من نحوهم عزيزي القارئ؟
- بماذا تشعر عندما ترى متسوّلاً في أثماله البالية القذرة؟
هل ترى، وراء هذه الأثمال الرثّة، نفسًا غالية لا تُقدَّر بثمن، بذل الله ابنه لأجلها، ودفع المسيح دمه لشرائها؟
- بماذا تشعر عندما ترى مجرمًا يتطلّع من وراء قضبان سيارة الترحيلات، مجرمًا تنطق قسمات وجهه بالشراسة والحنق والبؤس؟
هل ترى وراء هذه القسمات روحًا جبلها الله، زاغت عن خالقها وحبيبها وتود الرجوع إليه، لكن عدوًا قاسيًا قيّدها وحبسها في زنزانة الجريمة؟
- بماذا تشعر عندما ترى، في الصباح الباكر، امرأة في منتصف العمر، خرجت دون اهتمام بمظهرها، ولا بملبسها، تهرول في الشارع بإعياء ومعاناة، ممسكة بيدي طفلين صغيرين تسبق خطواتها المستعجلة المتوترة خطواتهم الصغيرة المتعثرة؛ وهي تنتهرهما ليتماسكا ويكملا الطريق، لتلقي بهما في أقرب حضانة، ثم تلحق هي بالأتوبيس على آخر لحظة، لتُحشر فيه حشرًا، كل هذا لكي تصل لاهثة إلى عملها الذي تتقاضى منه جنيهات قليلة تشارك بها زوجها في استرضاء وحش الغلاء؟
هل ترى فيها نفسًا كريمة تحتاج للحبّ والحماية، لا يتوفران لها إلا في الحضن الكبير والذراع القدير؟
- بماذا تشعر عندما ترى شخصا مُلتحيًا أو امرأة منقَّبة تسير في الشارع؟
هل كل ما تشعر به هو اختلاف الدين؟ أم ترى فيهما نفوسًا غاليه أحبها المسيح ومات من أجلها، وهي لا تختلف عني وعنك في شيء، لا في الإمكانيات الذهنية ولا الإمكانيات الأدبية، وكل ما في الأمر أننا نشأنا في عائلتين مختلفتين في الدين؟
- بماذا تشعر عندما ترى فتاة ملأت وجهها بمختلف الألوان، وتلبس ملابس تكشف أكثر مما تستر؟
هل كل ما تشعر به هو نفور واشمئزاز أو إدانة ورفض؟ أم أنك ترى وراء هذه القشور نفسًا عطشى لماءٍ حيّ مَنْ يشرب منه لن يعطش أبدًا، ولن يعود لمثل هذه السلوكيات؟ هل تصلّي من أجلها لكي تلتقي هذه البائسة بالمسيح عند بئر السكارى بئر سوخار؟
- بماذا تشعر عندما تسمع شخصًا يزعق في الناس بأفكار غبية لا حجة فيها ولا منطق، والناس وراءه تسير كالأغنام؟
هل كل ما تشعر به هو الحنق عليه والغيظ من غباء الناس؟
أم يملأك الحب والرثاء والعطف على مَن قيَّدهم سلطان الظلمة بحبال الفكر الغبي وخيوط الجهل السوداء؟
- بماذا تشعر عندما ترى شيخًا مُسنًّا يتوكّأ على عصاه، يعبر الشارع ببطء شديد مرتعبًا من سيل السيارات؟
هل كل ما تشعر به هو الحنق من تعطيل المرور والذي سيجعلك تصل متأخِّرًا للإجتماع؟! أم أنك ستشعر بالرهبة والخوف لأنك أمام نفس خالدة قد اقترب موعد رحيلها، وها هي تلملم شتاتها وتستعد للرحيل، وأنت لا تعلم إن كانت هذه النفس سترحل إلى هلاك أبدي أم إلى المسيح
- بماذا تشعر عندما ترى طفلاً صغيرا يلهو ويمرح ضاحكًا لشيء تافه صغير، كأن يطارد فراشة جميلة، أو يبكي بحرقة على سبب لا يستحق البكاء كضياع بالونته الحمراء؟
هل كل ما تشعر به هو أن تسعد لبساطتهم أو أن تسخر من تفاهتهم؟ أم أنّك تشعر بالحب والشفقة على نفس لها الآن السماء، وتخشى عليها أن تكون مشروع إنسان قد يفسد عندما يكبر ويختار الجحيم؟
بماذا نشعر - أحبائي - تجاه البشر؟
هل نحبّهم؟ هل نقترب منهم ونَقْبَلهم كما هم؟ هل نصادقهم وندخل بيوتهم، كما فعل المسيح حتى اتُهم بأنه يقبل خطاة ويأكل معهم، وبأنه محب للعشارين والخطاة؟ هل قلنا مرة مع بولس «إن لي حزن عظيم ووجع في قلبي لا ينقطع» لأجل أناس نعرفهم ولم يخلصوا إلى الآن؟ هل نصلي لأجل من نعرف، ونتجوَّل بين معبودات من لا نعرف؟ هل نصلّي لأجل من يعرِف، ونتكلم عن المسيح مع من لا يعرف؟ هل قلنا مرة مع بولس: إن مسرة قلبي وطلبتي إلى الله لأجل جيراننا أوأقربائنا هي للخلاص؟
أحبائي نحن نسير كل يوم بين الناس في الشارع؛ هل نبتسم في وجوههم؟
نحن نقابلهم كل يوم في أعمالنا؛ فهل كل ما يدور بخلدنا تجاههم هو مدى جهلهم وبشاعة أخلاقهم؟ هل كل ما نفعله تجاههم هو أن نستذنبهم وندينهم، ونفكر فقط كيف نتقي شرهم ونتجنب أذيتهم؟
أحيانا أسمع من يتكلم عن غباء الخطاة، وكأننا نحن قد عرفنا المسيح بسبب كثرة ذكائنا!! مع إنني أؤكِّد أن معظم المؤمنين الذين قابلتهم في حياتي، والذين وُلدوا في عائلات مسيحية، هم بالطبيعة لا يمتلكون الذكاء الكافي لفحص معتقداتهم لو كانوا قد وُلدوا في عائلات غير مسيحية، ولا يمتلكون الشجاعة الكافية للتغيير لو كانوا قد نجحوا في اكتشاف خطإ هذه المعتقدات. والدليل على هذا هو في غاية البساطة، وواضح كل الوضوح لمن يريد الدليل، فحياتنا تمتلئ بسلوكيات خاطئة ناتجة عن أفكار خاطئة ولا تجد من يفكِّر وينتقد نفسه أو يصحِّح أفكاره، والأدهى أننا كثيرًا ما نكتشف الأخطاء وننتقدها، لكننا نجبن عن تغيير أي شيء، على الرغم من كونها أمورًا لن تكلِّفنا اضطهادًا أو تعييرًا إذا ما غيرناها! لكنه فقط الكسل والخوف من التغيير، هذا في الوقت الذي لا نكفّ فيه عن إدانة الأخرين والحديث عن جهلهم لأنهم لم يكتشفوا خطأ ما هم فيه أو عن جبنهم لأنهم لا يمتلكون الشجاعة الكافية للتغيير!!!
- وأحيانا أسمع من يتكلم عن بشاعة أخلاقيات الخطاة، وكأننا نحن قد وُلدنا وارثين أجمل الأخلاق!! مع أننا، وعلى الرغم من كل ما أحدثته نعمة الله فينا من تجديدات، وكل ما وفّرته لنا من إمكانيات للحياة والتقوى، ما زلنا يصدر منا ما يندى له الجبين!!
لذلك، أحبائي، أصلي من كل قلبي أن يستخدم الرب هذا العدد ليساعدنا على تغيير توجُّهنا من نحو الناس الذين من حولنا: أهلنا وأقاربنا، من يختلف عنا في الفكر وفي العقيدة وفي الدين. وليكن بداية حبّ حقيقي لهم، يسعى لخلاص نفوسهم الخالدة. وهكذا فقط نتمم رسالتنا، ونفرِّح قلب سيدنا؛ محبّ الخطاة العظيم، محبّ البشر.
وستجدون في هذا العدد باقة من المقالات بأقلام نخبة من الكتاب المباركين، تجري كلها في اتجاه واحد، هو دفعنا للتشبُّه بإلهنا في محبته للبشر. وذلك من خلال عرض للمحات من محبته للبشر كما ظهرت في الخليقة والتجسد والفداء. كذلك من خلال لفت الإنتباه لهذا الحب البادي حتى في الناموس، على الرغم من كون الناموس ليس هو التعبير الكامل عن طبيعة الله ومحبته وصلاحه من نحو البشر. كما سنرى بعض التعاليم التي يُساء فهمها أو الأفكار الخاطئة التي قد توقف جريان محبتنا للناس من حولنا. كما سنرى شيئًا عن معجزة النعمة فينا وكيف تحوّلنا عن حب الذات لحب الغير، وأخيرًا سنتجول باختصار حول سيدنا الحبيب لنرى قبسا من فيض حبه للبشر.