عدد رقم 3 لسنة 2007
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
حتى الناموس...  

ما كان الناموس ليظهر، تمامًا، قلب الله بكل ما فيه من حبٍّ للإنسان، فمثل هذا الإعلان لم يكن له مكان إلا في شخص ربنا الكريم متجسِّدًا.  فالناموس، والذي تهوَّر الشعب يوم رغبوا في التعامل مع الله بصيغة العقود فوضعوا أنفسهم تحت التزام «كل ما تكلم به الرب نفعل... فأجاب جميع الشعب بصوت واحد وقالوا: كل الأقوال التي تكلم بها الرب نفعل» (خر19: 8؛ 23:  4)، هذا الناموس عُرف بالصرامة وبدا كمن يقف بالمرصاد واضعًا قوانين حادة «الذي يفعلها سيحيا بها...  لأن من حفظ كل الناموس وإنما عثر في واحدة فقد صار مجرمًا في الكل» (رو10: 5، يع 2: 10)، وكانت النتيجة أن أمامه «ليس من يعمل صلاحًا، ليس ولا واحد» (مز14: 3).  وهكذا أصبح المعتاد أن يستحضر الناموس لأذهاننا معنى الصرامة والمقاييس العالية والشعور الدائم بالتقصير، ورائحة الخوف والقضاء واللعنة، ومشاهد ارتعاد موسى والجبل المضطرم بالنار والخوف من الاقتراب منه، وصوت كلمات يستعفي من يسمعه من أن تُزاد كلمة (عب12: 18-21)!

ومع ذلك فإننا، بقليل من التأمل والبُعد عن السطحية، نستطيع أن نرى في الناموس، ليس فقط قداسة الله ودقَّة مطاليبه، بل أيضًا حبّ الله للإنسان. 

وهذا ما سنحاول، في هذه المقالة، إلقاء نظرة سريعة عليه بقدر ما يسمح المجال.

في الوصايا العشر

ولنبدأ بخروج 20، حيث الناموس يوم تشريعه، وهو يُكتَب على لوحين. 
فنرى وصايا اللوح الثاني كلّها مهتمَّة بالإنسان.  فهو عندما يقول «لا تقتل» يريينا كيف أن حياة الإنسان عزيزة على الله، فهو لا يسمح للواحد أن يُزهق نفس الآخر.  ثم عندما يقول «لا تَزنِ» فهو يوضِّح أيضًا أنه يحمي العلاقات الإنسانية ويقدِّسها لتكون في وضعها الصحيح.  ثم إذ يقول «لا تسرق» فهو، حبًّا في الإنسان لا يحب أن يُخسِرَه ممتلكاته ظُلمًا.  كما يمكننا أن نرى في «لا تشهد على قريبك شهادة زور» حفظه لكرامة الإنسان ألا تُشان سمعته زورًا.  أما في «لا تشته...» فهو ينأى بالإنسان عن أن تحرِّكه دوافع لا إنسانية فيحمل صفات مخلوق آخر غير هذا المخلوق المميَّز الذي خلقه الله وأحبه.

نرى وصايا اللوح الثاني كلّها مهتمَّة بالإنسان...  وحتى الوصايا التي تنظِّم علاقة الإنسان بالله تحمل صالح الإنسان أيضًا.

وحتى الوصايا التي تنظِّم علاقة الإنسان بالله تحمل صالح الإنسان أيضًا.  فهو يمنعه من عبادة آخر، لأنه - تبارك اسمه - يعرف أن كل من يخطئ عنه يضرّ نفسه (أم8: 36)، وأنه «تكثر أوجاعهم الذين أسرعوا وراء آخر» (مز16: 4)؛ والتاريخ يمتلئ بالأدلة على ذلك.  وكذا يمنعه من عبادة الأصنام لأنها «عمل أيدي الناس.  لها أفواه ولا تتكلم (في حين أن كلمات الله هي خبز الحياة).  لها أعين ولا تُبصر (بينما إلهنا هو البصير بكل احتياجات شعبه).  لها آذان ولا تسمع (والله هو سامع الصلاة بل وأنّات القلب)... لها إيدٍ ولا تلمس (وللفخر فإن ”إلهنا في السماء.كلَّما شاء صنع“)...  مثلها يكون صانعوها بل كل من يتكل عليها» (مز115: 3-8).  أليس، إذًا، من حبّ الله للإنسان أنه يريده قريبًا منه لا يعبد سواه ولا يتعلق بما لا ينفع؟

حتى وصية السبت، أكثر وصية أساء الإنسان استخدامها، كانت لصالح الانسان.  فمع أننا نرى تطرّف الإنسان، ممثَّلاً في القادة الدينيين أيام تجسد الرب، في تطبيق هذه الوصية؛ فقد ساءَهم أن يصنع الرب الرحمة فيه ويبرئ ويشفي أو حتى أن يشبع الإنسان جوعه (مت12: 1-13؛ مر3: 1-6؛ لو13: 1-17؛ 14: 1-6؛ يو7: 22-24).  لكن لنسمع ربَّ السبت ومشرٍّع الناموس الحقيقي وهو يقدِّم لنا المذكّرة التفسيرية لتوضيح معنى السبت «السبت إنَّما جُعل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت... ثم قال لهم هل يحل في السبت فعل الخير... تخليص نفس...  فنظر حوله إليهم بغضب حزينًا على غلاظة قلوبهم (لأنهم لم يفهموا ولم يتجاوبوا مع قلبه)» (مر2: 27؛ 3: 4، 5).  أ فهمنا إذًا كيف أن وصية السبت إنما كانت رغبة من الله في أن يشاركه الإنسان راحته؟!

في الأحكام

وفي خروج 21-23 حيث الأحكام التي وضعها الرب لشعبه لتنظِّم بعض أمور حياتهم، يكشف هذا الجزء وميضًا من قبس ”فيلانتروبياه“.  ودعنا نلتقط القليل من الأمثلة.

فأول هذه الأحكام نرى شريعة العبد العبراني .  نعلم أن لكل عبراني ميراثه من الرب يكفل له أن يعيش عيشة كريمة، لكننا هنا نرى إنسانًا افتقر، ومن تثنية 28 نفهم أن سبب ذلك هو أنه لم يسمع صوت الرب.  فنحن أمام عاصٍ، لكن الله يفكِّر في أمره بكل الحب!!  إنه - تبارك اسمه - لا زال

يحبّ هذا الإنسان، فيضمن له بشريعته ألا يظلّ عبدًا مُجبَرًا إلى الأبد ، ولأنه يعرف قساوة قلب الإنسان تجاه أخيه الإنسان يضيف للمالك «لا يصعب عليك أن تطلقه حرًا من عندك، لأنه ضعفي أجرة الأجير خدمك ست سنين؛ فيباركك الرب إلهك في كل ما تعمل»، بل في سخائه يوصي «لا تطلقه فارغًا.  تزوّده من غنمك ومن بيدرك ومن معصرتك.  كما باركك الرب إلهك تعطيه» (تث15: 13، 14، 18).  فهل من مثلٍ لهذا الحبٍّ السخي الكريم تجاه الإنسان مع كونه الخاطئ الأثيم!

  نتكلم هنا عن التطبيق المباشر، لا التطبيق للرمزي الذي نفهمه ونقدِّره جميعًا.

ثم نراه يكرر مبدأ قتل القاتل (ع12) لكنه يفتح باب نجاة لغير المتعمِّد (ع13)؛ فهو يرثي لجهل الإنسان ولعجزه عن أن يتدبر الأمور في نصابها.  بعد ذلك نرى تجريم أن يسرق الإنسان إنسانًا سالبًا إياه حرِّيته، ووضع عقوبة القتل لذلك (ع16).  ثم نرى مبدأ تعويض الضرر الواقع من واحد على آخر (ع18، 19).  ألا نستطيع أن نلمح ”روح القانون“ الإلهي هنا؟  إنه مهتم بحياة الإنسان وبحريته وبقوُتِه؛ أ منَ الممكن أن يكون مصدر ذلك شيئًا آخر إلا محبة الله للإنسان؟!

وفي خروج 22 نراه مهتمًّا بالغريب (ع21)، وباليتيم والأرملة متعهِّدًا بحمايتهم إلى أقصى درجة (ع22-24)، ثم بالمحتاج الذي اقترض (ع25)، ثم اسمع نغمة الرِّقة في وسط صرامة الناموس إذ يقول للذي أقرضه «إن ارتهنت ثوب صاحبك؛ فإلى غروب الشمس تردّه له.  (لماذا؟) لأنه وحده غطاؤه، هو ثوبه لجلده، في ماذا ينام؟ (يا للاهتمام؛ حتى بالثوب؟!!  بما يغطّي جلده؟!)  فيكون إذا صرخ إليّ إني أسمع؛ لأني رؤوف» (ع26، 27).  بل أنت الرأفة سيدي، أنت منبع الحب واللطف، من اقترب منك حتى ولا إلى ألفي ذراع في هذا المضمار؟  تباركت يا محبَّ البشر يا صاحب القلب الحنون!

 لم نسمع في كل الكتاب عن عبد من البشر اختار الاختيار الثاني أن يبقى عبدًا للأبد، وما انطبق ذلك إلا على سيدنا الكريم وحده كعبد يهوه الكامل.

في الحضرة والرفقة

ثم سِرْ معي في باقي سفر الخروج لترى الله يبغي مسكنًا بين الناس فيفرد كل هذه المساحة من الوحي الإلهي للحديث عنه بأدقِّ تفاصيله بشكل يؤكِّد اهتمامه البالغ بهذا المسكن!!  أما يكفيه جحافل الملائكة قدامه مسبِّحة خادمة؟!  أوَ ليس لأنه قال «ولذاتي مع بني آدم» (أم8: 31)؟!

ثم تأمل معي في السحابة سائرة للهداية والحماية!!  ما تفسير هذا كله؟!  هل عند واحد جواب غير ”المحبة الإلهية“؟!

بل أنت الرأفة سيدي، أنت منبع الحب واللطف، من اقترب منك حتى ولا إلى ألفي ذراع في هذا المضمار؟  تباركت يا محبَّ البشر يا صاحب القلب الحنون!

في باقي الأسفار

كل ما سبق هو اختصار للمحات من محبة الله للبشر في سفر واحد من أسفار الناموس؛ سفر الخروج.  ولحدود المساحة سأكتفي بإشارات قليلة لما تحويه باقي الأسفار:

ففي سفر اللاويين نرى الله في محبته يسعى لتقريب الإنسان إليه، بالذبيحة، وبالقداسة، وبالشريعة.  انظره - مثلاً - في شريعة الأبرص، مع إسهابه في وصف نجاسة الأبرص في ص13 نقرأ في بداية ص14 «هذه تكون شريعة الابرص يوم طهره»، وليس ”إذا طهر“؛ فالله يبغي له الطهر وقد أوجد الطريق في مَن أشار إليه العصفوران!!

وهكذا في سفر العدد، سفر فشل الشعب وتذمراته حتى استسخفوا مَنَّ الله النازل من السماء!!  فرغم تذمرهم يرتِّب لهم علاجًا.  ثم اسمع فيه شهادة وضعها الله على فم بلعام «لم يُبصر إثمًا في يعقوب، ولا رأى تعبًا في إسرائيل.  الرب إلهه معه، وهتاف ملك فيه» (عد23: 21).  اقرأ باقي ما قاله بلعام مُجبَرًا، فتقرأ فيه قلب الله من نحو الإنسان.

ثم سفر التثنية وكله أنشودة فيلانتروبية.  اقرأ معي وتأمّل وأُعجِب وتعجَّب من الحبّ «كيف حملك الرب إلهك كما يحمل الإنسان ابنه في كل الطريق...  إنه أحبَّ آباءك واختار نسلهم من بعدهم...  مِن محبة الرب إياكم...  وتتذكَّر كل الطريق التي فيها سار بك الرب إلهك هذه الاربعين سنة في القفر...  ثيابك لم تبلى عليك ورجلك لم تتورّم هذه الاربعين سنة.  فاعلم في قلبك أنه كما يؤدِّب الإنسان ابنه قد أدَّبك الرب إلهك...  ولكن الرب إنما التصق بآبائك ليحبهم فاختار من بعدهم نسلهم...  وجده في أرض قفر وفي خلاء مستوحش خرب.  أحاط به ولاحظه وصانه كحدقة عينه.  كما يحرِّك النسر عشه، وعلى فراخه يرفّ ويبسط جناحيه، ويأخذها ويحملها على مناكبه.  هكذا الرب وحده اقتاده...  فأحبَّ الشعب... الخ» (1: 31؛ 4: 37؛ 7: 8؛ 8: 2-5؛ 10: 15؛ 32: 10-12؛ 33: 3). 

ثم بعد كل ذلك؛ ألا تهتف معي: «ليس مثل الله... من مثلك يا شعبًا منصورًا بالرب؟!» (33: 26، 29).

اللهُ حبٌ فافرحوا                         عن وجهِهِ لا نـُـطرَحُ
  إذ حبُّهُ لا ينتهي                             منه لنا ما نَشتهي

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com