عدد رقم 2 لسنة 2005
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الحمامة   من سلسلة: من طيور الكتاب المقدس

تأملنا حتى الآن في خمس صفات جميلة للحمام ظهرت بالارتباط بنوح، أنه: رسول أمين، ودود وحلو العشرة، طاهر لا يتلامس مع النجاسة، يعرف مكانه ولا يُخطئه، سهولة استئناسه.  والآن نستكمل باقي هذه الصفات:

  1. الحمامة وغصن الزيتون
    عندما أرسل نوح الحمامة في المرة الثانية نجدها وقد عادت في المساء، وفي فمها ورقة زيتون! لا شك أن الحمامة استمتعت طوال هذا اليوم بالانتقال من شجرة إلى أخرى، وبالتقاط ما يناسبها من الطعام.  وها اليوم قد أمسى وأوشك على الانتهاء، فإذا بها تقصد العودة إلى الفلك، وفي فمها ورقة الزيتون! إن هذا المشهد ليس مألوفًا في الحمام! 

    ونحن لا نعرف يقينًا ما الذي دعا الحمامة أن تفعل ذلك. غير أنه ربما قصدت أن تأخذ معها ما يُبرهن لصاحبها؛ أعني نوح أن المياه قد انحصرت مفسحة المجال لظهور أرض جديدة، مورقة ومزهرة، مليئة بالثمار والخيرات! وها هي راجعة وفي فمها الصغير ما يعبر عن هذا الخبر المُفرح والمبهج.

    وكم نخسر كثيرًا من الدروس والمعاني إن تجاهلنا ما يُشير إليه غصن الزيتون.  فعلى مر التاريخ، نجد إجماعًا على أن غصن الزيتون يُعبِّر عن السلام! وإن تساءلنا عن سر هذا الإجماع، لا نجد جوابًا شافيًا سوى في قصة نوح هنا! إن رجوع الحمامة إلى نوح وفي فمها ورقة الزيتون إعلان واضح عن انتهاء الغضب والدينونة، وولادة أرض جديدة مطهرة، إعلان عن إشراق عهد جديد ملؤه السلام والخير والبركة.

    وما أروع أن ترتبط حياتنا بغصن الزيتون، أي برسالة سلام نعلنها لكل مَنْ حولنا، منفذين قول الرسول «إذًا نسعى كسفراء عن المسيح، كأن الله يعظ بنا.  نطلب عن المسيح: تصالحوا مع الله» (2كو 5 : 20).  وبذلك نتشبه بمن قال عنهم إشعياء «ما أجمل على الجبال قدمي المبشر، المخبر بالسلام، المبشر بالخير، المخبر بالخلاص« (إش52 : 7).

    إن تلميذي عمواس كانا كالحمامة التي في فمها إعلان عن بشارة عظيمة، فبعد أن علما من الرب نفسه بحقيقة قيامته، عادا في المساء، تمامًا كما عادت الحمامة في المساء، ببشارة مفرحة «يخبران بما حدث في الطريق، وكيف عرفاه عند كسر الخبز« (لو24: 35).

    غير أننا نجد في الحمامة هنا رمزًَا جميلاً للروح القدس، والذي لم يأخذ مجاله إلا بعد أن فعلت الدينونة فعلها وأتمَّت دورها.  فعندما خرجت الحمامة في المرة الأولى كانت مياه الدينونة ما زالت طامية غامرة كل شيء، لذلك عادت مرة أخرى للفلك، أما في المرة الثانية فإنها وجدت أن المياه قد قَلّتْ معلنة عن انتهاء الدينونة، وها هي عائدة لنوح وفي فمها ورقة زيتون، أما في المرة الثالثة وقد انحصرت المياه تمامًا، فهي خرجت إلى الأرض المطهرة واستقرت فيها!!

    وهكذا لم يستقر الروح القدس على الأرض مكونًا الكنيسة سوى بعد انتهاء الدينونة التي استُعلنت في الصليب، والتي انصبت على رأس الرب يسوع تبارك اسمه، والذي نسمعه يقول بعد أن تحمَّلها كاملة: «قد أُكمل«. نعم لقد استوعب كل الدينونة، ولذلك حظينا بهذه الرسول الإلهي؛ الروح القدس، ليمكث معنا إلى الأبد (يو14 : 16).
  2.  عشقه للأجواء النقية الصافية
  3. حينما أرسل نوح الحمامة في المرة الثالثة، ذهبت ولم ترجع مرة أخرى إلى الفلك. وهل تستطيع الحمامة أن تُقاوم نقاء وصفاء السماء، ولا سيما وهي تبدو بهذه الصورة الخلابة؟‍‍! إن الأرض المطهرة والسماء المشرقة، مناخًا رائعًا تجد فيه الحمامة سرورها وبهجتها، وإن كنا نريد أن نوجز ما شعرت به الحمامة في هذه الأجواء الجديدة بعبارة موجزة، نقول «أجواء الحرية«.

    كم تشعر الحمامة بعد أن ظلَّت حبيسة  أكثر من عشرة شهور بمذاق الحرية والانطلاق! ها هي قد وجدت أخيرًا مجالاً رائعًا تتعايش وتستقر فيه.

    إذا كان هذا ما شعرت به الحمامة هنا، ألا يُعبِّر هذا عن تلك المشاعر التي تنتاب كل مؤمن حقيقي يستنشق عبير الأجواء الروحية النقية، فيقول مع الرسول بولس «فإن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق، حيث المسيح جالس« (كو3 : 1)؟

    نعم .. علينا أن ندرك أنه من اللحظة التي فيها حظينا بالرب؛ الفادي والمحرر، صارت كل تطلعاتنا وطموحاتنا سماوية، فلا ينبغي أن نرضى سوى بهذه الأجواء النقية السامية، وبذلك نتشبه بسيدنا، وينطبق علينا القول «كما هو السماوي، هكذا السماويون أيضًا «(1كو15 : 48).

    وإن كانت الحمامة لا ترضى بهذه الأجواء الرائعة بديلاً، ألا نخجل عندما نجد الحال ليس كذلك معنا نحن المؤمنون؟! ألا نجد مَنْ يسأم هذه الأجواء الطاهرة، ويُظهر أشواقًا لكل ما هو قديم؟ قائلاً: «العتيق أطيب»؟!

    ألم يسأم الشعب من المَن، الذي هو «بُرَّ (قمح) السماء .. طعام الملائكة« (مز78: 24، 25).  وأظهروا حنينهم لطعام العبودية والمذلة، قائلين لموسى «قد تذكَّرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجانًا، والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم.  والآن قد يبست أنفسنا.  ليس شيء غير أن أعيننا إلى هذا المن! « (عد11: 5، 6).

    ألم يكونوا على مشارف أرض كنعان، التي وعدهم الرب بها، الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً، وقالوا «أليس خيرًا لنا أن نرجع إلى مصر؟ فقال بعضهم لبعض: نقيم رئيسًا ونرجع إلى مصر!» (عد14: 3، 4).  وكأنهم حنُّوا إلى الطين واللِّبن، حنُّوا إلى السياط والهوان، حنُّوا إلى أيام أنينهم وصراخهم في أرض الشقاء والمذلة والعبودية بعد أن حررهم الرب وفداهم.

    وهل نحن الآن أفضل حالاً مما كان عليه الشعب في القديم، لقد تحرروا من نير سيد قاسٍ عاتٍ؛ وهو فرعون، ونحن تحررنا من قبضة ذلك الخصم العنيد ألا وهو الشيطان. لقد اُنتشلوا من معاجن الطين واللِّبن؛ والتي كانت تُثقل كاهلهم، ونحن اُنتشلنا من طين أشد سوادًا ووحلاً مما كانوا فيه؛ وحل الخطية بشرورها وفسادها، والذي عبًر عنه المرنم، بعد أن تحرر منها بالقول: «أصعدني من جب الهلاك، من طين الحمأة«.  لقد قُدِّم لهم المن طعامًا طوال فترة سيرهم في البرية، ونحن قُدم لنا مَنْ كان المَن رمزًا له، ذاك الذي هو خبز الله، طعام الله، شخص الرب تبارك اسمه.  لقد وعدهم الرب بأرض تفيض لبنًا وعسلاً، أما نحن فلقد باركنا الله بكل بركة روحية في السماويات في المسيح يسوع.

    وألا نتعجب ونندهش أن نجد مَنْ تمتع بكل هذا يعود إلى خرنوب العالم!

    إنه بذلك ينطبق عليه ما قيل عن يساكر: «يساكر، حمار جسيم رابض بين الحظائر.  فرأى المحل أنه حسن، والأرض أنها نزهة، فأحنى كتفه للحمل وصار للجزية عبدًا« (تك49: 14، 15).

    ليتنا ندرك قيمة الحرية التي نتمتع بها في المسيح، ونستمع إلى نصيحة الرسول: «فاثبتوا إذًا في الحرية التي قد حررنا المسيح بها، ولا ترتبكوا أيضًا بنير عبودية» (غل5 : 1).

    (يتبع)

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com