عدد رقم 2 لسنة 2005
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
صلاة يعقوب الأولى   من سلسلة: مؤمنون في أماكن خاطئه

إن الصلاة هي الضعف البشري مستندًا على قوة الله القدير ومتعلقًا بها.  وهي التعبير عن حياة الاتكال والاعتمادية وعدم الاستقلال أو الاستغناء عن الله.  إنها حالة قلب وَجَد راحته وكفايته في الله ويشعر بالاحتياج الدائم إليه.  وهي الثقة الهادئة في قلب الله المحب وصلاح أفكاره الحكيمة باعتباره الآب المسئول عنا.  هي الملجأ والملاذ للشخص التقي وسط ضغوط الحياة ومشاكلها.  إنها المكان الذي نتدرّب فيه على سماع صوت الرب ومعرفة مشيئته.  كما نتدرّب على فحص النفس وإدانة الذات ورفض الجسد ورغباته.  ويجب أن تقترن بالقلب النقي.  فالكتاب يقول: «إن راعيت إثمًا في قلبي لا يستمع لي الرب» (مز 18:66).

من خلال هذه المفاهيم نجد أن يعقوب كان بعيدًا جدًا عن حياة الصلاة والاتكال الكامل على الله.  لقد عاش معتمدًا على ذكائه الطبيعي وحكمته البشرية وقوته الجسدية ولم يشعر بالاحتياج إلى الله.  وعلى الرغم من الضغوط التي تعرّض لها، لكننا لا نراه راكعًا مصليًا مسترجيًا المراحم الإلهية.  وبالأسف دائمًا في الإنسان ميلاً للاستقلال عن الرب والاعتماد على الذات والمنظور.

وعلى ذات المنوال كانت رفقة أمه الجميلة والتي ارتبطت بإسحاق الغني لا تشعر بالاحتياج إلى الله.  وعلى الرغم من أنها ظلّت عاقرًا لمدة عشرين سنة، لم تذهب لكي تصلي.  وفقط عندما تزاحم الولدان في بطنها، وشعرت بمتاعب خطيرة، مضت لتسأل الرب.

وحزقيا عندما جاءه ملك أشور بتهديداته اتكل في البداية على غناه ولم يتكل على الرب مصليًا.  ولكن عندما جاءه ملك الأهوال (الموت)، ورسالة إشعياء تقول: أوص بيتك لأنك تموت ولا تعيش، عندئذ بكى حزقيا وصلى شاعرًا بالمسكنة.

ويونان في السفينة رغم الريح الشديدة وهيجان البحر الذي جعل السفينة تكاد أن تنكسر، هذه الأزمة التي كسرت قلوب ركاب السفينة وجعلت كل واحد يصرخ إلى إلهه،  لكن هذه  الضيقة لم تكسر قلب يونان وتجعله يصلي.  وإنما عندما دخل في جوف الحوت واجتاز في ضيقة أشد من الموت، حينئذ صرخ إلى الرب.

كذلك يعقوب موضوع دراستنا، لا نقرأ أنه صلى في بيت أبيه، ولا في الطريق إلى حاران، ولا عندما وصل سالمًا، ولا عندما أراد أن يتزوج، ولا وهو يواجه ذُلْ لابان لمدة عشرين سنة.  فقد كان يتكيّف مع الضغوط ويتصرف متكلاً على الجسد، ولا يشعر بالمسكنة أو بالحاجة للارتماء على الرب.  لكنه الآن أمام ضيقة خاصة شديدة انكسر، ولأول مرة نراه راكعًا ومصليًا، وذلك عندما رجع الرسل الذين أرسلهم قائلين: «عيسو قادم وأربعمائة رجل معه».  «فخاف يعقوب جدًا وضاق به الأمر».  وحتى قبل أن يصلي قسم القوم الذين معه إلى جيشين، واضعًا خطة جسدية ليقلل بها الخسائر، حتى إذا جاء عيسو إلى الجيش الواحد وضربه يكون الجيش الباقي ناجيًا.  وبعد ذلك مضى لكي يصلي.  وهذه هي أول صلاة سُجلت له في الكتاب، وكانت صلاة رائعة.  ونستطيع أن نجد فيها دروسًا مباركة على النحو التالي:

أولاً: الله الذي لجأ إليه يعقوب.  إنه ليس مجرد الله الخالق بل «إله إبراهيم وإله إسحاق».  إنه إله المواعيد والعهود للآباء.  لقد تمسّك يعقوب بأمانة الله وصدق مواعيده التي لا تتغير ولا ترتبط بالإنسان.  إنها مواعيد نعمة غير مشروطة.  وعلى الرغم من أن يعقوب لم يسلك كإبراهيم وإسحاق، لكنه تقدم إلى الله مُذكِّرًا إياه بإبراهيم خليله وإسحاق الذي كان يهابه.  لم يكن عند يعقوب أعلى من هذا القياس بحسب النور الذي وصل إليه عن الله.

 أما نحن في الوقت الحاضر فلا نتقدم إلى الله كإله الآباء، بل كإله وأبي ربنا يسوع المسيح الذي هو إلهنا وأبونا الذي سُرَّ بنا وباركنا بكل بركة روحية في السماويات.  والذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين فكيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيء.

ثانيًا:  لقد ألقى يعقوب بنفسه على مواعيد الرب الأكيدة والصادقة، مطالبًا إياه بوعده.  إنه بكل تواضع يُذكِّر الرب بكلامه له.  «الرب الذي قال لي ارجع إلى أرضك وإلى عشيرتك فأُحسن إليك».  ومن يعقوب نتعلم أن نُطالب الرب بمواعيده، خاصة عندما نواجه ظروفًا ضاغطة، فنبحث في الكتاب عن وعد يناسب حاجتنا وعن موقف يشابه ما نمر به، ونقول للرب «افعل كما نطقت» (2صم 25:7).  قال الرب لبولس: «تكفيك نعمتي»، وذلك عندما أُعطي شوكة في الجسد.  ونحن نستطيع أن نأتي إلى عرش النعمة كل صباح ونطالب الرب بهذا الوعد.

ثالثاً: اعترف يعقوب بعدم استحقاقه الكامل وعبَّر عن أنه مديون للرب صاحب الفضل قائلاً: «صغير أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التي صنعت إلى عبدك».  لقد شعر بأنه لا يستحق أقل شيء من المراحم التي أُغدقتْ عليه.  إن في الإنسان مَيْلاً للشعور بالقيمة وارتفاع القلب ونسب النجاح إلى الذات والمهارات.  وهذا ما حذَّر الرب منه شعبه بالقول: «احترز من أن تنسى الرب إلهك .. لئلا تقول .. قوتي وقدرة يدي اصطنعت لي هذه الثروة» (تث 11:8، 17).  ونادرًا ما نجد شخصًا متضعًا مقدرًا يد الرب المنعمة.  وطابع الأيام الحاضرة هو روح لاودكية حيث الافتخار والاعتداد بالذات.  والقول: «أنا غني وقد استغنيت ولا حاجة لي إلى شيء».  وهذا هو السبب أن قليلين هم الذين لديهم قوة حقيقية للصلاة اليوم.  إنه يجب أن نتضع أمام الرب إذا كنا نريد أن نستقبل بركاته وعطاياه، ونرفع أيدينا الفارغة إليه راجين رحمته لكي يستجيب تضرعاتنا.  أضاف يعقوب قوله: «فإني بعصاي عبرت هذا الأردن والآن قد صرت جيشين».  لقد راجع تاريخه وتذكر بداية رحلته حيث كان فقيرًا ولا يملك في الحياة سوى العصا.  والآن بعد عشرين قد اتسع وصار جيشين.  لكنه لم يُلقِِ العصا ولم يتكل على الجيشين.  لقد شعر أن عيسو يمكن أن يفني كل ما معه في لحظة.  لهذا لم يتكل على الغِنَى الغير يقيني بل على الله الحي وعلى مواعيده الثمينة.  وهذا ما ترمز إليه العصا من زاوية.  ومما يُذكر أن العصا ظلت معه لآخر حياته حيث «سجد على رأس عصاه».  مُقرًا بأنه غريب ونزيل مثل آبائه.

رابعًا: كان الدافع الذي لأجله اتضع وصلى رافعًا طلبة محددة إلى الرب، هو خوفه على الأم والبنين.  «نجني من يد أخي من يد عيسو لأني خائف منه أن يأتي ويضربني الأم مع البنين».  لقد وصل إلى حالة من النضوج بعد السنين.  ولم يعد الشخص الأناني الذي لا يفكر إلا في نفسه فقط.  فقد أصبح الآن زوجًا عطوفًا وأبًا حنونًا.

خامسًا: «وأنت قد قلت إني أُحسن إليك وأجعل نسلك كرمل البحر الذي لا يُعَد للكثرة».  وهنا نرى ليس فقط تمسكًا بالمواعيد الإلهية بل نظرة لاعتبار مجد الله.  إن يعقوب وكل ما له ليس أكثر من تراب ورماد.  وإذا جاء عيسو وضرب الأم مع البنين فالمشكلة الأكبر ليس أن يفنى يعقوب ومَنْ معه بل أن لا يتحقق كلام الرب الخاص بالنسل، وكأن عيسو أقوى من الله.  وكأنه نجح في أن يعطل ويُفشِّل مقاصد الله.  وهذا لا يليق بمجد الله.  فهو في العُلَى أقدر، وهو أعظم من الكل ولا يوجد مَنْ يقف أمامه أو يعطِّل مشروعاته.

بقيت ملاحظة أخيرة على هذه الصلاة وهي أن الرب قال له: «يكون نسلك كتراب الأرض»، وليس «كرمل البحر».  فيعقوب هو أبو الشعب الأرضي.  وليس له علاقة بالأمم «رمل البحر».  أما إبراهيم فأبو جميع المؤمنين سواء اليهود المشبهين «بتراب الأرض»، أو الكنيسة المشبهة «بنجوم السماء»، أو الأمم في المُلك الألفي بعد الضيقة والمشبهين «برمل البحر».  ونلاحظ أن الرب قال لإسحاق: «يكون نسلك كنجوم السماء» فقط.  وقال ليعقوب: «يكون نسلك كتراب الأرض» فقط.  وذات الفكر نجده في البركة التي نطق بها بلعام عن إسرائيل بالقول: «مَنْ أحصى تراب يعقوب ..؟» (عد 10:23)، كذلك في كلام سليمان عندما مَلَكَ على إسرائيل إذ قال: «لأنك قد ملكتني على شعب كثير كتراب الأرض» (2أخ 9:1).             

(يتبع)

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com