ذهب الفتى وقلبه ممتلئ مرارة من نحو أبيه ليشتكيه:
- هل يرضيك ما كان يفعله أبي فيَّ؟
- لقد شاهدت شريط فيديو سجلته أمي يعرض مشاهد من حياتي وأنا عمري أقل من عامين، وقد تألمت جدًا مما رأيت.
- رأيت نفسي في تجربة مؤلمة ملأتني بالرثاء لنفسي. فقد كانت ساقيَّ غضتين ضعيفتين لا تقويان على حملي. وكنت لا أقدر، بل ولا حتى أعرف، أن أمشي. ورأيت في الصورة نفسي وقد استيقظت من نومي وأردت أن أنتقل من غرفتي إلى غرفة المعيشة حيث كان يجلس أبي. نزلت من الفراش وحاولت أن أقف، لكنني سقطت فبكيت. نهضت بصعوبة وأعدت المحاولة فسرت لبضعة خطوات، وقبل أن تعلو البهجة وجهي، سقطت ثانية سقطة أشد قسوة فبكيت بحرقة من شدة الألم. أحبطت، ويأست من مسألة المشي هذه فقررت أن لا أمشي بل أحبو كالمعتاد على ركبتي. ولكن .. بعد أن حبوت لمسافة ليست بصغيرة أرهقتني، وجدت نفسي في المطبخ وليس في حجرة المعيشة والتي هي وجهتي!! أي أني أخطأت الطريق! فانفجرت غاضبًا وعلا صوت صراخي لعل أحداً يرق لي ويَهِبُّ لنجدتي. لكن للأسف لم يهتم أحد بمشكلتي. تملكتني رغبة جديدة في أن أعاود محاولة المشي مرة أخرى. استجمعت قواي، واستندت على الحائط بكل قوتي ووقفت بجهد بالغ. تخليت ببطء عن الحائط وبدأت في السير وأنا لا أقوى أبدًا على حفظ اتزاني فكنت أترنح لذات اليمين ولذات اليسار مثل السكران، وبشق الأنفس نجحت في أن لا أسقط حتى وصلت لأقرب كرسي فألقيت بكل ثقلي عليه وقد أنهكتني هذه الرحلة المؤلمة.
- جميل وما الذي يؤلمك من أبيك في كل هذا؟
- ما يؤلمني من أبي في هذا، هو أنني رأيته في زاوية من الصورة يجلس واضعًا رجلاً على رجل يقرأ كتابًا، ويحاول أن يُخفي ابتسامة تنم عن سعادة وهو يرقبني بطرف عينه من وراء الكتاب بينما أنا أعاني كل هذه المعاناة!
- وما الخطأ في أن يفعل أبوك هذا؟
- عجيبٌ جداً !! ألا ترى خطأً من أبي في هذا الموقف؟ أين محبته؟ وأين قدرته؟ إنه كان يستطيع بكل سهولة أن يترك كتابه هذا، وينهض من مكانه، ويحملني من على فراشي، ويذهب بي إلى حيث أشاء، هذا لو كان يحبني فعلاً، ولا سيما أنني لاحظت وأنا أشاهد الشريط أنني حاولت قبل نزولي من الفراش أن أستدعيه بعدة صرخات عالية أطلقتها، إذ كنت متيقنًا من وجوده، ولكن صرخاتي لم تجد لها مكانًا في قلبه، وذهبت هباءً، فهو لم يحاول البتة أن يتدخل في مشكلتي ويساعدني! إنني متألم للغاية لأنه سمعني ورآني في هذه الحالة المُرة، بل وكان يعرف جيدًا ماذا أريد أنا، ولم يمد لي يد العون!! مع أن وزني كان وقتها عدة كيلوجرامات قليلة، والمسافة التي كنت أريد قطعها لا تغدو بضعة أمتار، أي أن الأمر كله كان لن يُكلّفه جهدًا كبيرًا ليجنبني هذه التجربة المؤلمة! ثم إن أكثر ما يغيظني هي تلك الابتسامة العجيبة التي كانت تعلو وجهه وأنا على هذه الحال الفظيعة!! هل كان هذا الوقت وقت ابتسامات؟ في الواقع أنا حزين للغاية.
- اسمح لي أن أسألك: هل لديك أي شرائط فيديو أخرى عن طفولتك؟
- نعم لدي الكثير.
- عظيم، ألم ترَ في أحدها ولو مرة واحدة أن أباك كان يحملك بذراعه القوية أو يضمك في حضنه الدفيء؟
- في الواقع رأيت هذا المنظر مرات كثيرة، بل لكي أكون أمينًا معك رأيته في عدة مرات يحملني على كتفيه ويسير بي في الشارع أمام كل الناس، بل وفي البيت أيضًا، رأيته عدة مرات يحملني على ظهره ويتجول بي في أنحاء البيت كله، بينما يملأ البيت رنين ضحكاتي وأنا أزهو كالفارس المغوار.
- رائع، ألم تستطع هذه المشاهد الجميلة الكثيرة أن تبدِّد ألمك الناتج عن المشهد المؤلم لنفسك الذي رأيته في هذا الشريط؟
- كلا ، بل على العكس، إنها زادت من ألمي وحيرتني.
- فكرت في نفسي، وقلت في قلبي، هذه المشاهد تبرهن بكل وضوح أن لديه من القدرة ما يمكنه من حملي ومساعدتي عندما يريد هذا، لكن ها هو قد تخلَّى عني، يبدو على الأرجح أن محبته قد تغيرت من جهتي.
- عجيبٌ جداً هذا المنطق الذي تفكر به يا فتى! أليس عندك أي تفسير آخر لهذا التصرف من أبيك المحب؟
- لا، بالطبع، ليس عندي أي تفسير آخر، وأرجوك أن لا تذكر مسألة المحبة هذه فقد صرت لا أصدقها بعدما رأيت ما قد رأيت.
- ألم تفكر أبدًا أن يكون لأبيك حكمة في أن يتركك تعاني هذا الخبرة المؤلمة؟
- حكمةٌ!؟ أية حكمةٍ في هذه المعاناة؟ لقد رآني اختار الطريق الخطأ ولم يرشدني! ورآني أترنح كالسكران ولم يسندني! بل صدقني رآني أسقط ولم يسرع لينقذني!! بل إن أمي نفسها أخبرتني أنه بسبب هذه السقطة الرهيبة أصبت بكدمة زرقاء اللون في ساقي وهي بعد غضة ضعيفة ظلت تلازمني عدة أيام. كل هذا وهو جالس يقرأ كتابًا وتقول لي هناك حكمة؟! (يجهش بالبكاء)، يمسح دموعه وهو يقول: أرجوك لا تحاول أن تبرره، إنه لم يعد يحبني.
- وماذا عن كل المشاهد الجميلة التي أخبرتني بأنك رأيتها والتي كان فيها يمسك بيدك ويقودك ويساعدك بل ويحملك على كتفيه وعلى ظهره؟
- قلت لك إنه قد تغير.
- عجيب أمرك أيها الفتى، وعجيب هذا المنطق المعكوس الذي تفكر به! كيف تفسر عشرة مواقف في ضوء موقف واحد، ولا تفسر موقف واحد في ضوء عشرة مواقف؟!
- أرجوك كلمني كلامًا أفهمه فأنا لا أفهم فيما تسمونه المنطق.
- نعم، هذه أول كلمة صحيحة تفوه بها يا فتى، فأنت لا تفهم في المنطق، بل ويبدو أنك لم تتعود أن يكون عندك منطقٌ صحيحٌ لتفكيرك. دعني أوضح لك ما أقصد، أقصد لقد رأيت عشرة مواقف تؤكد جميعها أن أباك يحبك، ثم رأيت موقفًا واحدًا منه ظننت بسببه أنه لا يحبك، فلأي فكر ينبغي أن تكون الغلبة؟ إنه يحبك أم إنه لا يحبك؟
- من المفروض أن تكون الغلبة لفكر أنه يحبني.
- لأن وراء فكر أنه يحبني عشرة مواقف تدعمه، بينما وراء فكر أنه لا يحبني موقف واحد فقط.
- عظيم جدًا، وماذا عن هذا الموقف الواحد الذي بسببه ظننت أنه لا يحبك؟ كيف ستفسره عند ذاك وبعد أن غلب فكر أنه يحبك؟
- لا أعرف، وأرجو أن تفسره لي إن كان هذا في إمكانك.
- رائع جدًا هذا التحول، فأنت الآن تستفهم ولست تستنكر؟
- قلت لك كلمني كلامًا أفهمه. ماذا تعني بأني أستفهم ولا أستنكر؟ ما هو الفرق بين الاستفهام والاستنكار؟
- أقصد لقد جئتني مستنكرًا موقف أبيك معك، وشاعرًا بالمرارة تجاهه، لأنك فسرت موقفه منك بأن محبته قد تغيرت من نحوك، ولهذا استنكرت. أما الآن فأنت تتراجع عن هذا الاستنكار، وترفض تفسيرك الخاطئ وتطلب مني التفسير، فأنت إذًا تستفهم، أليس هذا صحيحاً؟
- نعم صحيح. تفضل، فسر لي.
- سأفسر لك، لكن دعنا نتفق الآن على شيء هام.
- تفضل.
- عندما يواجهنا موقف مؤلم من الأب المحب، علينا قبل أن نسرع بجهل لنستنكر فعله معنا، أن نتذكر أفعال محبته وأعمال عنايته بنا والتي لا تعد بسبب كثرتها، وعلينا أن نفسر الموقف المؤلم الذي نجتاز فيه ونحن في جو من الشعور بهذه المحبة التي شملتنا في كل ماضينا، والتي تؤكدها لنا تلك المواقف الرائعة التي له معنا.
- وإذا لم ننجح في التفسير، ماذا سنفعل؟
- علينا عندئذ أن نفعل ما فعلته أنت الآن أي أن نسأل لا أن ندين، نستفهم لا أن نستنكر. لأن الاستنكار في هذه الحالة هو عبارة عن خليط من الكبرياء والإدانة، أما الاستفهام فهو خليط من الاتضاع والرغبة في الفهم. فهل اتفقنا؟
- اتفقنا وتفضل الآن فسِّر لي لماذا فعل فيَّ أبي كل هذا؟
- أنت تعلم أن أباك طبيبٌ، وهو بحكم عمله ودراسته يعلم أن الله قد زود العضلات بخاصية معينة تجعلها لا تنمو ولا تقوى لكي تصبح قادرة على حملك إن لم تتعرض للشد! أي عندما تُستَعمل، فالشد الذي يقع على العضلة أثناء محاولة استعمالها هو وحده الذي يستثيرها لكي تنمو أكثر وتقوى وبالتالي فكلما تعرضت العضلة للشد أكثر باستعمالها كلما نمت وقويت أكثر!. كما أن أباك يعلم أن جهاز ضبط الاتزان في رأسك، وهو جزء من المخ اسمه المخيخ، لن يعطي إشارة للعضلات لكي تعمل لتحملك وتجعلك تقف منتصبًا أو تسير ثابتًا إن لم تصله أولاً إشارة تفيد بأن رجلك تلمس الأرض الآن! كما أنه لن يحفظ لك اتزانك وأنت تسير إن لم تصله إشارات من مواقع عديدة في جسمك تفيد وقوفك في الفراغ، وتحدد له أبعادك فيه! كل هذا يعني أن لمس أقدامك للأرض، ثم محاولتك الوقوف في الفراغ بدون سند، أمران لا بد منهما لكي تستطيع حضرتك أن تسير كباقي البشر على قدميك منتصب القوام، ثابت الخطوات. وبدونهما لا أمل في المشي أبدًا، وبالتالي لا بد من ترك الطفل ليحاول الوقوف والمشي بمفرده، وقد تستمر هذه المحاولات ربما لأسابيع أو لشهور حتى يستطيع أن يتقن المشي، وبالطبع فإن السقوط والإصابات أمران لا مفر منهما خلال تلك المحاولات المضنية. لهذا السبب فقط تركك أبوك بحكمة تحاول وتحاول بينما كان يرقب المشهد من قريب.
- يا للهول! كان من المستحيل عليَّ أن يخطر على بالي أي شيء من كل هذا! هذا يعني أن أبي المحب كان يعمل لخيري؟
- نعم يا عزيزي بل دعني أقول لك: إنه لو عمل لك ما كنت تريده أنت وقتها، وما أجهل ما كنت تريده، أي يسرع في كل مرة تبغي الانتقال من مكان لمكان ليحملك فلا تتعرض عضلاتك للشد أبدًا، ولا تلمس أقدامك الأرض أبدًا، وبالتالي لا تتعرض لتجربة السقوط المؤلمة هذه، ولا تحدث لك تلك الكدمة الزرقاء التي أخبرتك عنها أمك والتي أثرت في نفسك للغاية، لكان الحبل الشوكي الذي تعتمد عليه حياتك الآن قد تلف! ولكانت عضلاتك قد ضمرت! ولكنت الآن معوقًا تُحمل على كرسي ذي عجلات. أي أن خلاصة ما أفهمه من موقف أبيك معك هو إنه يحبك بكل قلبه ولم يعمل ما عمله معك إلا لخيرك، ولخيرك فقط.
- يا لغباوتي! لقد ظلمتك يا أبي طويلاً - يجهش بالبكاء، يعلو نحيبه، تتهادى من وسط نحيبه همسات متقطعة: سامحني يا أبي، سامحني يا أبي. ولكنه .. فجأة بعد برهة وكمَنْ تذكر شيئًا هامًا يتوقف عن البكاء ويقول معاتبًا: لكن لماذا لم يفسر لي وقتها كل هذا لكي لا أظلمه، ولكي يريحني من كل هذا العناء؟
ضاحكًا أُجيبه:
- يبدو أنك نسيت كم كان عمرك وقتها!
- نعم، يا لحماقتي! بالطبع كنت لن أفهم وقتها، بل إني بالكاد أفهم الآن.
- كنت وقتها لن تفهم شيئًا، لكنه صدقني كان يتألم لألمك ولسان حاله: آه يا بُنَيَّ المحبوب: إني أحبك من كل قلبي، لكنك لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع ولكنك ستفهم فيما بعد.
ينظر للأفق البعيد، يحملق في سحابة رمادية كانت فوقنا طوال وقت حديثنا، يحملق فيها وهي تعبر لتفسح مكانًا لنور الشمس من جديد، تتقاطر دموع كحبات من اللؤلؤ على وجنتيه، أحاطت بها بسمة مشرقة أضاءت وجهه، عملت البسمة كإطار جميل للوحة بديعة ارتسمت على محياه، همست شفتاه في قلب اللوحة فأشاعت فيها الحركة كغدير مياه، انسابت إلي أذنيَّ أنغام منه تقول: أحبك أبي، أحبك أبي، كم أنت رائع أيها الآبِ.
- بقي لي أنا سؤال هام للغاية؟
يعتدل في جلسته ويمسح دموعه بمنديله ويقول:
- تفضل .. تفضل ..
- ماذا عن الكدمة الزرقاء التي في ساقك الغض؟
ينفجر ضاحكًا فتمتزج دموعه بضحكاته لتزداد اللوحة إشراقًا وجمالاً ويقول:
- لا تسخر مني .. لقد مضت الكدمة، ولم تعد ساقي غضة.
ينهض مسرعًا، يودعني قائلاً:
- شكرًا لك استودعك الله.
- إلى أين يا صديق؟ دعنا نجلس.. ونحكي .. ونحكي .. و
قاطعني قائلاً:
- أعتذر بشدة، أريد أن أجري .. وأجري .. وأجري .. حتى ألقي بنفسي في حضن أبي ..
نهضت من مجلسي، وقفت برهة أرقبه، ابتعد بسرعة عني، وهو يركض بسيقان فتية قوية تنهب الأرض نهبًا، غادرت المكان بينما دمعات لم أحكمها تطفر من عيني وأنا أهمس: نعم يا أبي، حتما ستمضي الكدمات الزرقاء ولن تبقي إلا سيقان الأقوياء.
عدت إلى منزلي وفي الطريق ألفيتني أردد ما سمعته منه:
أحبك أبي، أحبك أبي، كم أنت رائع أيها الآبِ.