عدد رقم 4 لسنة 2005
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
ابنة يفتاح - 2   من سلسلة: شابات الكتاب المقدس

فتاة عظيمة وردت سيرتها العطرة في سفر القضاة. ولمع تكريسها وسط خراب الحالة في إسرائيل.  وعلى التقيض من الحالة العامة في إسرائيل في زمانها، فقد أظهرت تلك الفتاة أقصى درجات التضحية والبذل في سبيل احترام كلام الله.

ولقد بدأنا حديثنا عن ابنة يفتاح في العدد السابق بالحديث عن أبيها، وذكرنا عنه بعض الملامح من حياة المسيح. ونواصل في هذا العدد المزيد من الأفكار عن حياة يفتاح، أبي هذه الفتاة الرائعة.

- يفتاح وبعض الصفات الجميلة التي ظهرت فيه
كان يفتاح رجلاً يعرف الكتاب جيدًا، فهو عندما جادل العمونيين الذين أرادوا اغتصاب ميراث الله من الشعب، فقد جادلهم بكلمة الله.  إنه لم يقل إن كلمة الله لا تصلح إلا مع شعب الله، وأما العمونيون فيحتاجون إلى أسلوب مختلف.  لقد كان رجلاً موحد الفكر، محدد الهدف، ولم يكن عنده سوى سلاح واحد فقط (هو كلمة الله)، ”لليمين ولليسار“.
ولم يكن يفتاح يعرف الكتاب جيدًا فقط، بل كان يحترم الكتاب. فمع أنه لم ينكر الحالة الوضيعة للشعب، لكنه في مناقشته مع العمونيين رجع إلى ”الذي كان من البدء“.  فكلمة الله ليست - كما يدعي بعض اللاهوتيين الكفرة - صالحة لزمان ولا تصلح لغيره، بل كان يفتاح يعرف أنه لا شيء ممكن أن يزيد عليها، ولا شيء يمكن أن ينقص منها.  وما كان يهم يفتاح، ليس واقع الحال، بل ”ماذا يقول الكتاب؟“.

وكما كان يفتاح يحترم كل ما يخرج من فم الله، كان يحترم أيضًا كل ما يخرج من فمه هو. ما يقوله الله كان فوق كل اعتبار، وما يقوله هو لله كان له أيضًا كل اعتبار. لذلك كان يفتاح يقدر النذر ويعرف خطورة العبث به. يقول الحكيم: «هُوَ شَرَكٌ لِلإِنْسَانِ أَنْ يَلْغُوَ قَائِلاً: «مُقَدَّسٌ». وَبَعْدَ النَّذْرِ أَنْ يَسْأَلَ!» (أم20: 25). كما قال الجامعة أيضًا: «إِذَا نَذَرْتَ نَذْراً لِلَّهِ فَلاَ تَتَأَخَّرْ عَنِ الْوَفَاءِ بِهِ. لأَنَّهُ لاَ يُسَرُّ بِالْجُهَّالِ. فَأَوْفِ بِمَا نَذَرْتَهُ. أَنْ لاَ تَنْذُرُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَنْذُرَ وَلاَ تَفِيَ» (جا5: 4و5).  وهو في هذا أفضل من الكثيرين منا، الذين في حماسة يقررون أنهم سيفعلون كذا وكذا، وسيقدمون للرب هذا الشيء أو ذاك، ولكن بعد فترة، تفتر الحماسة، ويضيع العزم، ويُنسى الوعد.

ولقد تميز يفتاح أيضًا في مجال آخر، وهو أنه كان يقدس الحياة العائلية. ومع أن خلفيته العائلية مخزية ومحزنة، إذ هو ابن امرأة زانية، لكنه لم يسمح لهذا الشر أن يتسرب إلى حياته، فلا نقرأ أنه كانت له علاقة بالزواني، كما فعل البعض في زمانه، ولا أنه كان مزواجًا، كما كان شائعًا في ذلك الزمان.  نستدل على ذلك من أخلاق ابنته التي سنتأملها في العدد القادم.  وكم هو جميل أن يفتاح لم يسمح لأصله الوضيع أن يؤثر على حياته الأسرية، فكان أبًا فاضلاً ربى ابنته على مبادئ التقوى ومخافة الله، فاحترمت الله وأحبت شعبه، فرقصت في فرح يوم نصرة أبيها والشعب، وقبلت الموت، إكرامًا لأبيها وخضوعًا لنذره الذي نطقت به شفتاه، طالما أن شعب الله استعاد ميراثه العزيز!

- يفتاح ومقارنته ببعض الأشخاص في زمانه
فيما يلي مقارنة بين يفتاح وأربع من الشخصيات التي عاشت في زمانه، اثنان أتيا قبله واثنان بعده.

يفتاح وجدعون:
عندما نقارن بين يفتاح وجدعون نجد تميُّز جدعون في مسألة، وتفوق يفتاح في مسألة أخرى.  فيفتاح لم تكن له نساء كثيرات كجدعون. بل اكتفى - على ما يبدو - بزوجة واحدة. لكن من الجانب الآخر كان جدعون رجلاً وديعًا، عرف كيف يربح سبط أفرايم عندما خاصموه بشدة (قض8)، وأما يفتاح فعندما خاصمه هذا السبط عينه، واجه خصامهم بخصام أشد (قض12).  لقد ضبط جدعون نفسه في مسألة فشل فيها يفتاح، بينما يفتاح ضبط نفسه في مسألة أخرى فشل فيها جدعون. ولم يوجد الكامل في كل شيء سوى واحد فقط هو ربنا يسوع المسيح.

يفتاح وأبيمالك
أبيمالك ويفتاح في أصلهما كانا قريبا الشبه ببعض، فقد كان أبيمالك هو ابن جدعون من سريته، وأما يفتاح فكان ابن امرأة زانية. لكن مع تشابه الأصل إلى حد ما بين أبيمالك ويفتاح، فإن صفات كل منهما كانت في مباينة كاملة.  فبينما عن طريق الغش والخديعة قتل أبيمالك إخوته بني أبيه، فإن يفتاح ترك لإخوته الأرض والميراث، وذهب بعيدًا عنهم.

يفتاح وشمشون:
عندما نقارن بين يفتاح وشمشون، نجد أن النذر في حياة يفتاح كان له قيمة كبرى، بخلاف شمشون الذي كان نذيرًا لله من البطن. لقد عبث شمشون بنذره، الأمر الذي أدى إلى ضياع شهادته أولاً وحياته أخيرًا. وإن كان شمشون لم يحفظ نذره بسبب شهواته ولعبه، فإن يفتاح - رغم كسرة قلبه - كان أمينًا لنذره. 

ولقد أعطى شمشون طرقه لمهلكات الملوك، ومهلكات القضاة أيضًا (قارن أمثال 31: 3 مع قضاة 16)، وأما يفتاح فلم تتسرب هذه الخطية المدمرة إلى حياته.  وهو درس لنا كشباب جدير منا بأن نتنبه له جيدًا. 

لكن من الجانب الآخر تفوق شمشون على يفتاح في أمر آخر فشل فيه يفتاح فشلاً ذريعًا. فشمشون مع قوته البدنية الفائقة، ومع أنه قتل من أعداء الرب الآلاف، لكنه رفض تمامًا أن يمد يده على أحد من إخوته، وهو بكل يقين كان يقدِر لو أراد، لكنه لم يرد ولم يفكر في ذلك مطلقًا.  تأمله كيف استسلم لرجال يهوذا، فقيدوه وسلموه للفلسطينيين دون أن يحاول أن يمد يده على واحد منهم، وهو الذي بعد أن قيِّد، قتل من أعداء شعب الرب ألف رجل بلحي حمار! (قض15).  وأما يفتاح – فبكل أسف - قتل من الأفرايميين اثنين وأربعين ألفًا عند مخاوض الأردن (قض12).  يمكن القول إذًا إن يفتاح فشل في الوصية السادسة ”لا تقتل“، وشمشون فشل في الوصية السابعة ”لا تزن“.  وبذلك فإن كليهما – مرة أخرى - يفسح المجال لربنا يسوع المسيح، ذاك الذي هو أبرع جمالاً من بني البشر.

يفتاح وحنة أم صموئيل
أخيرًا نقول إن حنة أم صموئيل، وقد عاشت هي أيضًا في أيام القضاة، ونذرت هي أيضًا نذرًا للرب، وكان نذرًا مكلفًا مثل نذر يفتاح.  لكن نذر حنة كان نذرًا واعيًا. لقد أرادت ابنًا لتقدمه للرب خادمًا. وأما يفتاح، فلم يكن نذره واعيًا، بل ولم يكن له لزوم على الإطلاق. 

ولهذا فإن يفتاح لم يستطع عند إتمام نذره أن يرنم مع حنة: «فرح قلبي بالرب» (1صم2: 1)، بل بمجرد أن عرف بحقيقة نذره، فقد مزق ثيابه وانكسر قلبه.  كما أنه لم يستطع أن يقدم لشعب الرب مغنيًا عظيمًا مثل «هيمان المغني ابن يوئيل بن صموئيل» (1أخ6: 33)؛ بل على العكس، لقد قدم لشعب الله فرصة للنوح السنوي، إذ جعل بنات إسرائيل يذهبن من سنة إلى سنة لينحن على بنت يفتاح الجلعادي أربعة أيام في السنة.

  • يفتاح وغلطته
    ذكرنا الآن أن يفتاح تعجل ونذر للرب نذرًا لم يكن له لزوم.  فالرب سبق وأعطى الأرض لشعبه، والرب لا يندم في عطاياه قط.  وأما من جهة الأعداء المغتصبين لحقوق الشعب، فإن روح الرب كان قد حل عليه، فماذا تكون قوة الأعداء أمام رجل قد حل عليه روح الرب؟

    لكن بالأسف لم يكتف يفتاح بقوة روح الرب.  وارتكب الغلطة الكبرى، إذ استعجل ونطق بنذره دون تفكير أو تروي.  وبذا وضع نفسه في موضع خطأ، سواء تمم النذر أو لم يتممه.  لذلك قال الحكيم: لاَ تَسْتَعْجِلْ فَمَكَ وَلاَ يُسْرِعْ قَلْبُكَ إِلَى نُطْقِ كَلاَمٍ قُدَّامَ اللَّهِ (جا5: 2).

    وكنا في العدد السابق قد ذكرنا كيف تحمل يفتاح في مقتبل حياته نتائج غلطة لم تكن غلطته.  غيره حدد مستقبله، ودانه الآخرون على ذلك! وها ابنته تتحمل نتائج غلطة أخطأ بها أبوها.  قد يستطيع يفتاح إذًا أن يقول: ”هذا جناه أبي عليّ“، لكنه لا يستطيع أن يردف قائلاً: ”وما جنيت على أحد“؛ فلقد جنى هو على ابنته نتيجة عدم ضبط لسانه، بأقصى مما جنى هو من عدم ضبط أبيه لشهوته!

    خطير عدم ضبط شهواتنا، نتحمل نحن وزره، ويتحمله معنا أشخاص أبرياء.  ولكن لا يقل خطورة عنه عدم ضبط ألسنتنا.  لذا حسن أن ندرب أنفسنا على التأني قبل أن نتكلم. عالمين أن أشياء كثيرة كان ممكن أن تكون أفضل مما كانت، لو أننا طلبنا إرشاد الرب قبل الكلام.

    كان يفتاح بكل يقين مخلصًا عندما نطق بنذره، مخلصًا عندما نفذه، لكنه كان أيضًا مخطئًا.  ونحن لا يسعنا سوى الإعجاب من إخلاصه، ولكننا لا نبرره أبدًا على اندفاعه.  آه، لو ضبط يفتاح لسانه! وآه لو كان أكثر تعلمًا من كلمة الله، وأكثر خضوعًا لروح الله!  لما تحول الرقص إلى نوح له ولابنته! ومن هذا نتعلم أنه لا يكفينا إيمانًا بسيطًا مخلصًا، بل نحتاج أيضًا إيمانًا متعلمًا من الله، منضبطًا بروحه، سالكًا بحسب إعلانه.

(يتبع)

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com