رأينا في المرة السابقة كيف أتى الله ليعقوب عند مخاضة يبوق، في صورة إنسان، وصارعه حتى طلوع الفجر.
ونستكمل حديثنا الآن عن نفس الحادثة بأكثر تفصيل على النحو التالي:
(1) المصارعة. لم تكن العلاقة بين الله ويعقوب علاقة الخِِلِّ مع الخليل كإبراهيم، ولا علاقة العبد المُطيع مع سيده كإسحاق. ولم يكن الطابع العام لحياته هو الهدوء والسلام بل الصراع والصدام. وبدلاً من أن يستمتع بالشركة السعيدة مع الله ويعيش طائعًا خاضعًا لمشيئته، كان الرب بالنسبة له هو الخصم الذي يصارعه لسنوات عديدة. ولا شك أن طابع هذه الحياة كان مشبعًا بالمَرَار وليس الهناء. وهناك بعض المؤمنين معظم حياتهم ظروف مُعَاكِسة وإحباط وخسائر ومعاناة وأيام مظلمة وفشل في كل المشاريع، وذلك لأن الله يصارع معهم لتهذيبهم وإصلاحهم. وما أخطر أن يتحوّل الله إلى خصم لنا.
(2) «يبوق». وكانت هي المكان الذي حدثت فيه المصارعة، ومعناها: "إفراغ". وهي في الوادي، والوادي يتكلم عن الاتضاع. وقد فهمنا أن الصراع لم يكن محاولة يعقوب للحصول على بركة من الرب، وإنما الرب هو الذي يصارع يعقوب ليُفرّغه من ذاته وكل ما يتكل عليه من قدراته الجسدية، وأن يصل به إلى إنسان متضع ومسكين بالروح يحل فيه الرب بقوته، ويقود حياته ويشكلها في الإطار الصحيح.
(3) «بقي يعقوب وحده». بعد أن عبَّر كل ما له، وهناك كان منفردًا مع الله. والانفراد مع الله هو الطريقة الأساسية لنتعلم حقيقة أنفسنا. وليس المهم ماذا يقول الآخرون عنا، أو ماذا نفتكر نحن عن أنفسنا. كان يعقوب رجل أعمال ناجحًا، وكان معه جيشان، وبالتأكيد وسط مشغولياته الكثيرة لم يكن مُهيًأ أن يسمع صوت الرب. كان يهتم ويضطرب لأجل أمور كثيرة، غير مُدرك أن الحاجة إلى واحد. لهذا كان ضروريًا أن ينفرد مع الله. لم تكن مشكلة يعقوب مع الناس بل مع الله، ولم يكن لابان أو عيسو سوى آلات يستخدمها الله في صراعه مع يعقوب. وعلى كل مؤمن يجتاز في ظروف معاكسة، ويتعرّض للضغط أو الظلم من الناس، أن يعرف أن المشكلة ليست مع الناس، ويقتنع أن هناك شيئًا بينه وبين الله، وأن الله يريد أن يوصِّل له رسالة، فيكفّ عن الصراع مع الناس، وفي انفراده مع الله يقول: «يا رب ماذا تريد أن أفعل؟». ويجب أن نعرف أن مساعدة المؤمنين لهذا الشخص لتحقيق رغباته وإرادته الذاتية هي أكبر ضرر عليه في هذه المرحلة، إذ ستقوى إرادته الذاتية، وتقوده إلى مزيد من العصيان وبطء التعلم. وهذا ما ساهمت فيه رفقة مع يعقوب. لهذا كان لا بد أن ينفرد يعقوب مع الله بعيدًا عن الناس. وقد قيل عنه: «الرب وحده اقتاده» (تث 12:32).
(4) «في تلك الليلة». لقد تم الصراع في ليلة حرفية. إلا أنها تعبير عن كل الفترات التي فيها لا يكون المؤمن خاضعًا لمشيئة الله. فانقطاع الشركة هو ليل بالنسبة للمؤمن. ومصارعة الرب له هي ليل أشد ظلامًا. هذا ما عبّر عنه المرنم قائلاً:
إذ لا أرى وجه الحبيب
والشمس تبدو في المغي
إن لا أراك يومًا
فكن بقربي دومًا
|
|
النور عندي كالظلام
بمحجوبة خلف الغمام
فكم يبدو كئيب
أبقى دومًا سعيد
|
إن الليل يتكلم عن انعدام الرؤية والهدف، والتخبط. ولكن لماذا يطول الصراع بهذا الشكل ويطول الليل هكذا؟ السبب هو عدم الرغبة في إدانة الذات وإخضاع الإرادة، والميل إلى تبرير النفس وإدانة الآخرين.
(5) «حتى طلوع الفجر». استمر الصراع طول الليل. وألم يكن الرب قادرًا على حسم هذا الصراع بلمسة أو بكلمة من البداية؟ بالطبع كان قادرًا. إلا أنه قصد أن يرينا طول أناته في تعاملاته معنا. فليس من البداية يقتنع المؤمن بفساد الجسد وعدم نفعه، خاصة إذا توفرت الإمكانيات البشرية. وهذا ما حدث مع يعقوب ومع موسى ومع بطرس وغيرهم. وطول أناة الله وصبره واحتماله لجهلنا وعنادنا يجعله يتأنى علينا. ويظل يتعامل معنا بأنواع وطرق مختلفة، حتى يستنفد كل قوانا الجسدية، ويصل بنا إلى التسليم والخضوع. لهذا استمر الصراع حتى طلوع الفجر.
(6) «لما رأى أنه لا يقدر عليه». يعترض البعض على صحة القصة بصفة عامة، وعلى هذه العبارة بصفة خاصة. هل يُعقل أن الله لا يقدر على يعقوب؟ لقد قصد الروح القدس أن يرينا عناد يعقوب وتصلّب إرادته واستقلاله عن الله وإصراره على الأسلوب الجسدي الذي عاش به كل حياته. فلقد كان صعب المراس جدًا ويرفض أن يُسلِّم دفة حياته للرب ليقودها. وعبارة «لا يقدر عليه» هنا تعني: من خلال الوسائل التهذيبية والحبية والتعليمية، والمعاملات الرقيقة، والضغطات البسيطة. وعندما لا تجدي هذه المعاملات، فإن الرب يضطر أن يستخدم المعاملات العنيفة، ولا شك أن هذه المعاملات العنيفة مُكلِّفة ومؤلمة. والله الذي يقصد دائمًا بركتنا يعرف أن يصل إلى غرضه فينا بأي وسيلة. إنه يريدنا أن نخضع لسيادته وسلطانه، وأن يملك علينا بالكامل، وأن يكون هذا الخضوع باقتناعنا وإرادتنا ورغبتنا. وأن يكون لسان حالنا مع المرنم:
سلمتك سيدي
لك روحي جسدي
فكري كذا والقلب
لمجد اسمك
|
|
نفسي والكيان
لك طول الزمان
احفظهما لك
افعل بي ما تشاء. أنا لك
|
وإذا فعلنا ذلك وكنا مرنين ومتجاوبين مع المعاملات الإلهية، فإننا سنوفر على أنفسنا آلامًا كثيرة ونختصر طريق التدريب.
(7) «ضرب حق فخذه فانخلع». كانت هذه هي الوسيلة التي استخدمها الرب لينهي الصراع. إنه اختبار مذل يرينا نتيجة العناد. «مَنْ تصلّب عليه فسلم؟» وكم نحن ضعفاء ومساكين. إن لمسة واحدة من الرب خلعت حق فخذ يعقوب. وهذا المفصل هو أهم مفصل لأنه يجعل الإنسان منتصبًا، ويجعل الرِجْل تحمل كل ثقل الجسد. وإذا انخلع فإن الرِجْل ستصبح ثقلاً على صاحبها تحتاج أن تُحْمَل، وعندئذ سيحتاج الإنسان إلى آخر يستند عليه.
إن الإنسان قبل الإيمان هو كيان ضعيف، وبعد الإيمان يصبح أضعف لأنه يفقد كل ثقة في ذاته، وتحت المعاملات الإلهية يزداد الشعور بالمسكنة، ويقول مع المرنم:
وأسعى ضعيفا فأستند عليك حتى كل المجد يرجعن إليك
والعروس في سفر النشيد تُرى بعد جرعات الألم والضيق طالعة من البرية مستندة على حبيبها (نش 5:8).
ونحن سنظل نشعر بضعفنا، والسنين لن تغيّر هذا الضعف. لكننا عندما نرتمي على ذراع القدير سنجد فيه كل القوة والمعونة والكفاية.
كان يعقوب إلى هذه اللحظة يشعر بالقوة الطبيعية التي بها يستطيع أن ينجز أموره بالاستقلال عن الله ودون الحاجة إليه. وعنده لكل مشكلة حل جسدي. فعندما أراد البكورية اشتراها بطبق عدس، وعندما أراد البركة انتحل شخصية عيسو، وعندما أراد أن يتزوج راحيل استعرض عضلاته وعبَّر عن عواطفه بالدموع والقبلات، وعندما أراد أن يكوّن ثروة عند لابان لجأ إلى توحيم الغنم، وعندما أراد أن يستعطف عيسو أعد له هدية كبيرة. وفي كل هذا لم يعرف أن يتكل على الرب ويسلّم الأمور في يده. لهذا اضطر الرب أن يجرده من قواه الطبيعية ليشعره بضعفه.
(8) قال له الرب: «أطلقني .. فقال: لا أطلقك إن لم تباركني». لقد أراد الرب أن يختبر نتيجة الجراحة التي أجراها في كيان يعقوب، وأراد أن يمتحن يعقوب: هل تعلّم الدرس أم لا؟ هل لا زال يُفضِّل أن يسير بمفرده مستقلاً عن الله، ويخطِّط لنفسه كما كان يفعل من قبل مستندًا على ذكائه وإمكانياته البشرية وحلوله الجسدية؟ هل لا زال يستطيع أن يأخذ قراراته بنفسه ويرفض الخضوع لترتيب الله؟ ولقد ظهرت النتيجة فورًا لتعلن النجاح الباهر لما فعله الله في يعقوب. وكان ذلك واضحًا من خلال دموعه وتعلقه بالرب، كمسكين بالروح، يعلن احتياجه الشديد إلى الرب ويتشبث به، قائلاً: «لا أطلقك إن لم تباركني». وقد أعلن الرب نجاح يعقوب ونصرته بالقول: «جاهد مع الملاك وغلب. بكى واسترحمه» (هو 4:12)، هذا في الوقت الذي فيه كان يعقوب يشعر بمذلة الهزيمة والانكسار.
(9) «فقال: ما اسمك؟ فقال: يعقوب». لقد أراد قبل أن يباركه أن يصل به إلى الاعتراف المختصر والشامل بضعفه وعيوبه وفشله، وهذا ما يتضمنه اسم يعقوب. إنه بكل تواضع يقر ويعترف بفشله في تاريخه الطويل، مُلقيًا نفسه بالتمام ورجاءه على النعمة وعلى إله كل نعمة الذي يحتمل عناده واعوجاجه، والقادر أن يصنع منه وعاءً آخر كما حسن في عينيه. وبالطبع لم يستطع هنا أن يقول كما قال لأبيه إسحاق قديمًا: أنا عيسو.
(10) «لا يُدعى اسمك يعقوب بل إسرائيل». عند هذه النقطة غيَّر الرب اسمه. وهذا يرينا أننا من الآن فصاعدًا سنلتقي بشخص آخر مختلف عما مضى. فهو لن يعود يعقوب بأسلوبه الجسدي القديم، بل إسرائيل الأمير في أخلاقه وتصرفاته. الأمير الذي يأتمر بأمر إيل (الله). إسرائيل الأمير الذي يدير حياته ويخططها إيل. إسرائيل الذي تظهر فيه بصمات إيل التي شكلته. وهذه هي البركة الحقيقية. لذلك يقول الكتاب: «وباركه هناك». هناك حيث تجرّد من قواه الطبيعية، حيث بكى، حيث تفرّغ من ذاته واستقلاله عن الله. هناك تمتع بالبركة الحقيقية من الله والمتضمنة في الاسم الجديد.
(11) «وأشرقت له الشمس إذ عَبَر فنوئيل». دعا يعقوب اسم المكان «فنيئيل» والتي تعني "وجه الله". لقد تحولت «يبوق» إلى «فنيئيل»، كما تحول «يعقوب» إلى «إسرائيل». هناك أشرقت له الشمس، معلنة بداية جديدة لحياة جديدة بمعنى جديد. ولن تغيب الشمس عن هذه الحياة التي يديرها ويخططها الله. لقد غابت الشمس قبل 20 سنة (تك 28)، وهو ذاهب إلى حاران. لكنها أشرقت له الآن لتعلن رضى السماء عليه، وهو يتمتع برؤية الله وجهًا لوجه.
(يتبع)