عدد رقم 3 لسنة 2005
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
ابنة يفتاح   من سلسلة: شابات الكتاب المقدس

فتاة عظيمة وردت سيرتها العطرة في سفر القضاة.  ومع أن أيام سفر القضاة بصفة عامة كانت أيام اضمحلال روحي، لكن ابنة يفتاح لمع إيمانهما وسط خراب الحالة في إسرائيل.

لقد كان كل واحد يعمل ما يحسن في عينيه (قض17: 6؛ 21: 25)، وزادت في تلك الآونة الاستهانة بكلام الرب، لكن – على النقيض من ذلك - نجد في تلك الفتاة صورة لأقصى درجات التضحية والبذل، في سبيل احترام كلام الله، قلَّ أن نجد له نظيرًا.

نحن لا نعرف عن هذه الفتاة سوى القليل جدًا، فسيرتها لا ترد سوى في سبع آيات فقط في الوحي المقدس.  حتى اسمها نحن لا نعرفه، إذ يُكنَى عنها بابنة أحد أبطال الإيمان المشار إليهم في عبرانيين 11، هو يفتاح الجلعادي.  وعن هؤلاء الأبطال قال الوحي المقدس: «لم يكن العالم مستحقًا لهم» (عب11: 38).  وهذا القليل الذي ورد عن هذه الفتاة العظيمة في الوحي، يغرينا لنتوقف عنده لنتعلم ونتعظ.

وقبل الحديث عن ابنة يفتاح هذه، فإننا سنتحدث أولاً عن يفتاح أبيها.  ولقد كان يفتاح شخصًا عظيمًا بمقاييس العهد القديم. والعظمة في العهد القديم يمكن قياسها بأمرين، الأول: مقدار ما يرسم الشخص لنا من صورة للمسيح الذي كان مزمعًا أن يأتي، والثاني: المستوى الأدبي الذي ظهر في سلوكه وتصرفاته.

وسيتضمن حديثنا عن يفتاح أربع نقاط كالآتي:

  • يفتاح وبعض الملامح من حياة المسيح
  • يفتاح وبعض الصفات الجميلة التي ظهرت فيه
  • يفتاح ومقارنته ببعض الأشخاص في زمانه
  • يفتاح وغلطته

النقطة الأولى: يفتاح وبعض الملامح من حياة المسيح
ويمكننا أن نُجمل تلك الملامح في عناصر ثلاثة هي: تواضع يفتاح، ورفعته، واسمه.  بكلمات أخرى نجد صورة للمسيح في سيرة هذا البطل في ماضي الرفض، ومستقبل المجد، ومعنى الاسم.

فأولاً: بالنسبة لماضي الرفض، يخبرنا الكتاب المقدس أن يفتاح رُفض في البداية من إخوته.  وعندما طردوه لم يسعه إلا أن يترك موطنه، ويسافر إلى أرض بعيدة (أرض طوب)، وهناك جمع حوله رجالاً على شاكلته، محتقرين، وبلا شأن في الحياة.  وأما عن سبب ذلك الرفض فقد كان راجعًا لأصله الوضيع، إذ كان ابن امرأة زانية.

هنا نحن نجد مشابهة ومباينة في الوقت ذاته مع الرب يسوع المسيح.  فيفتاح في رفض إخوته له يذكرنا حتمًا بالرب يسوع المسيح، مع الفارق الهائل.  لقد رُفض المسيح من إخوته، إذ يقول بروح النبوة: «صرت أجنبيًا عند إخوتي، وغريبًا عند بني أمي» (مز69: 8). ويقول البشير يوحنا عنه إن «إخوته أيضًا لم يكونوا يؤمنون به» (يو7: 5). وأما البشير مرقس فقال إن أقرباءه خرجوا ليمسكوه «لأنهم قالوا إنه مختل» (مر3: 21). 

لكن إن كان إخوة يفتاح رفضوا أخاهم لتلك الزلة الأدبية التي لم يكن له فيها يد، فإن إخوة الرب يسوع قد رفضوه رغم أنه القدوس مولدًا وحياة.  وإن قلنا إن هناك ثمة عذر لإخوة يفتاح في رفضهم له، فما عذر اليهود في رفضهم لذلك ”الشريف الجنس“، ذلك القدوس المولود من العذراء بمعجزة، ذلك الذي حُبل به في بطن المطوبة مريم بقوة الروح القدس!

إذًا فيمكن القول إن يفتاح رفض بسبب وضاعة أصله، بينما المسيح رُفض برغم سمو أصله!

ولقد خضع يفتاح للرفض، وترك المكان، وترك الميراث الذي من حقه، وفي وداعة لم يقاوم.  وربما كان ذلك عجزًا منه، إذ لم يكن بوسعه أن يقف أمام كل أهل أبيه، فخضع مضطرًا.  وإن كان ذلك كذلك، فإننا مرة أخرى نجد هنا مباينة، فإن ذاك العظيم، ربنا يسوع المسيح، تنازل عن كل حقوقه بكامل اختياره.  إنه لم يكن مجبرًا قط على الاستسلام، ضعفًا أو عجزًا، ومع ذلك فقد ”قُطع من أرض الأحياء“؛ ”قُطع وليس له“ (إش53: 8؛ دا9: 26).  وهو قَبِلَ ذلك بصبر، منتظرًا كيف يرد له الآب اعتباره.  وإن كان الرب عرف كيف يعيد يفتاح مرفعًا بعد إحراز النصر، فهو حتمًا سيفعل ذلك عن قريب مع ابنه الحبيب.

ثانيًا: نحن نجد مشابهة أخرى بالنسبة لمعنى الاسم. فيفتاح معناه ”يفتح“. والمقصود طبعًا: ”يفتح الشريعة“، التي هي أعظم كنوز الله التي أعطاها لبني البشر، وطلب منا استكشافها وفتحها.  وهو ما نجده واضحًا في حياة يفتاح.  وعن هذا يقول المرنم في المزمور: «فتح كلامك ينير، يُعَقِّل الجهال» (مز119: 130).

ولقد كانت بداية انتصار يفتاح على الأعداء عندما فتح سفر الشريعة ورد عليهم منه، فكان بهذا اسمًا على مسمى.  وهكذا المسيح، كانت بداية انتصاره أن فتح سفر الشريعة، ورد منه على العدو في البرية، فانتصر عليه.
ويقينًا فإن يفتاح قَبْلَ أن يفتح الشريعة للعمونيين كان يفتحه كثيرًا على انفراد.  وإلا فكيف استطاع أن يقتبس الاقتباس المناسب من كلمة الله، ويرد عليهم من المكتوب.  وإن كنا لا نقرأ عن يفتاح أنه فتح الكتاب إلا لكي يشرح للأعداء جزءًا صغيرًا من المكتوب، فإن المسيح فتح الكتاب ليس للأعداء فقط، بل للأحباء أيضًا، وهو شرح لهم كل المكتوب، عندما سار مع تلميذي عمواس، يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب (لو24: 27). 

إن يفتاح ليس أكثر من مجرد رمز لربنا يسوع المسيح، الذي هو أعظم من فتح المكتوب.  وبحسب إنجيل لوقا الذي يحدثنا عن المسيح باعتباره الإنسان الكامل، نجد المسيح يفتح المكتوب من أول حياته لآخرها.  في البداية فعل ذلك وهو صبي صغير في الهيكل في أورشليم، عندما كان جالسًا وسط الشيوخ يسمعهم ويسألهم (لو2: 46)، ثم بمجرد أن خرج للخدمة فقد فتح المكتوب (لو4: 17)، ثم في النهاية فعل ذلك بعد القيامة عندما سار في الطريق يشرح للأحباء كل المكتوب، عندما تحدث عن الأمور المختصة به في جميع الكتب. بل إن المسيح لم يكتف فقط بفتح المكتوب، بل عمل ما لا يقدر سواه أن يفعله عندما فتح ذهن تلاميذه ليفهموا الكتب (لو24: 45)! 

وليس بعد القيامة فقط، بل حتى بعد الصعود، فإننا نقرأ كلام المسيح لملاك كنيسة فيلادلفيا: «هذا يقوله القدوس الحق، الذي له مفتاح داود، الذي يفتح ولا أحد يغلق، ويغلق ولا أحد يفتح» (رؤ3: 7). وما أعظم الكنوز التي فتحها الرب يسوع للأمناء في النهضة الفيلادلفية في أوائل القرن التاسع عشر. وهو ما زال يفعل الشيء ذاته معنا إلى الآن.

وأما ثالثًا: بالنسبة لمستقبل الرفعة والمجد. فيا للعجب أن ذاك الذي كان له ماض وضيع، أصبح بعد النصرة في المعركة في مركز عال ورفيع.  وأولئك الذين لم يعترفوا به في البداية، وطردوه من أن يكون مجرد واحد منهم، رحبوا به ليكون رأسًا عليهم وقائدًا لهم.  وعندما تضايقوا أتوا إلى ذلك الذي ضايقوه، بل الذين أبغضوه وطردوه يطلبون عونه.  لقد أقروا هم له بالرياسة في النهاية.  وهو عين ما سيحدث مع المسيح بصورة أروع، فهو سيظهر على السحاب، وستراه كل عين، والذين طعنوه، (رؤ1: 7)؛ وسيُرفَّع فوق الجميع، وستجثو باسمه كل الركب (رو14: 9؛ في2: 6-11).  وكما لم يأخذ يفتاح الرياسة عنفًا ولا اختلاسًا، بل أخذها بالحق، بعد النصرة في المعركة، هكذا سيحدث مع المسيح الذي سيظهر من السماء راكبًا على فرس أبيض، وبالعدل يحكم ويحارب، وله على فخذه وعلى ثوبه اسم مكتوب ملك الملوك ورب الأرباب (رؤ19: 11-16).

(يتبع)

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com