عدد رقم 3 لسنة 2005
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
يعقوب في مخاضة يبوق - 2  

(تك 13:32-24)

بعد أن أنهى يعقوب صلاته، معبرًا عن خوفه من عيسو واحتياجه إلى الرب، مسترجيًا رحمته وخلاصه، نراه يعود إلى نمط حياته السابق ليتصرف بالجسد.  فقد أعد هدية ضخمة لعيسو شملت: «مئتي عنز وعشرين تيسًا، مئتي نعجة وعشرين كبشًا، ثلاثين ناقة مُرضِعَة وأولادها، أربعين بقرة وعشرة ثيران، عشرين أتانًا وعشرة حمير، ودفعها إلى يد عبيده قطيعًا قطيعًا على حدة.  وقال لعبيده: اجتازوا قدامي واجعلوا فُسحة بين قطيعٍ وقطيعٍ.  وأمر الأول قائلاً: إذا صادفك عيسو أخي وسألك قائلاً: لمَنْ أنت؟ وإلى أين تذهب؟ ولمَنْ هذا الذي قدامك؟ تقول: لعبدك يعقوب.  هو هديةٌ مُرسَلَةٌ لسيدي عيسو، وها هو أيضًا وراءنا ... لأنه قال: أستعطف وجهه بالهدية السائرة أمامي ... عسى أن يرفع وجهي» (تك 14:32- 21).  ومن هنا نعلم أنه عندما صلَّى كان مُتكلاً على الرب بنصف قلبه، وعلى الأساليب البشرية والهدية السخية بالنصف الآخر.

ومما يُذكر أننا لا نقرأ أن يعقوب قدَّم للرب العشور التي وعد بها في نذره القديم (تك 22:28).  وطوال إقامته في حاران لم يُقدِّم ذبيحة واحدة للرب من كل ما أعطاه له.  لكنه بسهولة قدَّم هذه الهدية الضخمة لعيسو.  وبالأسف هذا يحدث مع كثير من المؤمنين في الوقت الحاضر.

لقد كان يعقوب مرتجفًا من هذه المقابلة، وغير واثق من حماية الرب له، وكان على استعداد أن يعمل أي شيء لكي يستعطف عيسو ويسترضيه.  وقال عن نفسه خمس مرات: «عبدك يعقوب»، وقال عن عيسو ثماني مرات: «سيدي عيسو».  مع أن إسحاق في بركته له قال: «كن سيدًا لإخوتك».  وبعد كل هذا لم يكن واثقًا من النتيجة، فقال: «عسى أن يرفع وجهي».  ومن هنا نرى أن الاتكال على الجسد والأساليب البشرية لا يمنح النفس السلام.

«لمَنْ أنت؟ وإلى أين أنت؟ ولمَنْ هذا الذي قدامك؟» ليت هذه الأسئلة تفحص أعماقك أيها القارئ العزيز، فتراجع طريقك وتوجهاتك في الحياة.  هل تستطيع أن تقول مع المرنم:

فأنا لست لذاتي         ليس لي شيء هنا
كل ما عندي  لفادي       النفس وهّاب المنى المنى

إن طريق الإيمان والاتكال على الرب وحده ليس دائمًا سهلاً.  ففي الإنسان الميل الطبيعي للاتكال على المنظور.  فهناك مَنْ يتكل على المال والغنى، ومَنْ يتكل على الذكاء والدهاء، ومَنْ يتكل على القوة الجسدية أو قوة الشخصية، ومَنْ يتكل على المركز الاجتماعي، ومَنْ يتكل على مواهبه الروحية أو الطبيعية .. الخ.  والله يعرف كيف يُفرِّغ الإنسان من كل ما يفتخر به جسديًا، وما يجعله مستقلاً عنه ومكتفيًا بذاته.  والهدف أن يصل به إلى شخص مسكين بالروح، ليس له سند يتكل عليه سوى الرب.  وهذا ما حدث مع يعقوب عند «مخاضة يبوق»، كما سنرى.

إننا اليوم نرى الكثير من الخدمات والأنشطة التي تُؤدَّى بقوة وطاقة جسدية، بدون لمسة وتأثير القوة الإلهية.  والنتيجة أن الخطاة لا يُنخَسون والمؤمنين لا يُطعَمون، والغالبية لهم صورة التقوى وهم مُنكرون قُوَّتها.  ومشكلة هؤلاء الذين يخدمون بلا قوة لا تكمن في ضعفهم، بل على العكس في قوتهم الطبيعية التي يعتمدون عليها اعتمادًا أساسيًا.  وهي أكبر مُعطِّل للقوة الإلهية والاستخدام الإلهي الناجح.  فهم يستشعرون الكفاءة والمقدرة على تأدية الخدمات المطلوبة.  لذلك تجدهم مندفعين بحماس جسدي، بدلاً من الشعور بالارتعاد وجسامة المسئولية، وأنه «مَنْ هو كفء لهذه الأمور؟».  هؤلاء يتجاهلون أن قوة الإنسان لا تصلح البتة في خدمة الله وإنجاز مقاصده.  فالرب «لا يرضى بساقي الرَّجُل.  يرضى الرب بأتقيائه، بالراجين رحمته» (مز 10:147، 11).  وفي العهد القديم كان الكهنة واللاويون يلبسون كتانًا وهم يخدمونه في مقدس الرب.  ولا يلبسون الصوف ولا يتنطقون بما يُعرِّق (حز 17:44، 18).  فالعرق الذي يُعبِّر عن مجهود الإنسان لم يكن مسموحًا به في الخدمة.

إن الخادم يجب أن يشعر دائمًا بضعفه فيتكل على الله القدير، ويشعر بجهله فيتكل على الله الحكيم.  وهذا عكس مبادئ العالم التي تُعلِّم الإنسان الشعور بالقيمة والقوة والكفاءة.  والله في حكمته يستخدم الألم في صور متنوعة كوسيلة لإفراغ الشخص من شعوره بالقوة الطبيعية، ولكي يصل به إلى الشعور العميق بالضعف وأنه لا شيء بدون الرب، ولا يعود يستند على الوزنات الطبيعية التي يجب أن توضع على الصليب وتصبح في حكم الموت بالنسبة لصاحبها.  فباقتناعه يعرف عدم نفعها فيتطلع إلى القوة الإلهية. 

بعد 40 سنة قضاها في مصر في قصر فرعون، خرج موسى وكان مقتدرًا في الأقوال والأفعال، ممتلئًا من الشعور بالقيمة والكفاءة، هذا ما أنتجته مدرسة العالم.  فخطر على باله أن يُخلِّص إخوته من أثقالهم.  فذهب مُتكلاً على إمكانياته البشرية بحماس جسدي، وكانت النتيجة الفشل السريع والذريع.

لذلك أخذه الرب إلى وراء البرية لمدة 40 سنة أخرى ليفرغه من كل شعور بالقيمة والذات والقدرات.  فظل هناك في عزلة في الصحراء، راعيًا فقيرًا، مرفوضًا من إخوته، مطلوبًا للقتل من فرعون، متروكًا بلا عمل نافع وكأن الرب قد استغنى عنه.  هذا كان كافيًا أن يحطم كل شعور لديه بالقيمة والأهمية والوزنات الطبيعية من جهة نفسه.  وهذا ما ظهر عندما دعاه الرب وهو شيخ في الثمانين من عمره، وقد فقد الحماس والشعور بالقدرة الذاتية، وعبَّر عن منتهى العجز وهو يستعفي من الإرسالية.  وأخيرًا ذهب ليخلِّص إخوته مستندًا لا على قوته الجسدية بل على الله القدير، ويا لروعة النتائج!

هذا هو الدرس الواضح في حياة يعقوب، وهو ما يحدث بصور متنوعة مع كل أولاد الله المحبوبين حتى يصلوا إلى قناعة تامة أن عمل الله لا تنجزه سوى قوة الله، وأنهم بدون الرب لا يقدرون أن يعملوا شيئًا ذا قيمة حقيقية.
فعند مخاضة يبوق أخذ يعقوب امرأتيه وجارتيه وأولاده وكل ما له، وأجازهم الوادي، وبقي يعقوب وحده.  وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر (تك 22:32- 24).  لقد أتى الرب بنفسه في صورة إنسان ليلتقي بعبده يعقوب.  ليس لكي يشجعه ويطمئنه ويؤكد له المواعيد كما عوَّده، لكنه الآن أتى لكي يصارعه.  وهذا شيء غريب لا نقرأ عنه في كل الكتاب إلا هنا.

كان الرب يريد أن يقود يعقوب إلى الخضوع والتسليم، ويُعلِّمه بُطلان الاتكال على الجسد، ويُفرّغه من ذاته ومما يستند عليه في حياته ومشروعاته ورحلاته. لكي يجد في الرب وحده حكمته وقوته وكفايته.  وقد تم ذلك من خلال مصارعة الرب له طول الليل وحتى طلوع الفجر، حيث لم يستفد من كل الدروس السابقة.

ويجب أن نعرف أن هذه المعاملات كانت محكومة بشيئين:

أولاً: محبة الرب ليعقوب، وهو أمر واضح على صفحات الكتاب، فقد كان يريد أن يصل به إلى سلوك وأخلاق الأمراء.  ويريد أن ينقذه من النتائج الخطيرة لفعل الإرادة الذاتية، ويقلل الخسائر والحصاد المرير بسبب الزرع الخاطئ للجسد.  ولكي يحصد السعادة والفرح والنجاح الحقيقي المرتبط بفعل إرادة الله.

ثانيًا: شخصية يعقوب، أو بلغة الفخاري، طبيعة كتلة الطين التي يريد أن يشكِّلها وعاءً.  ولقد تميزت بالذكاء والدهاء، والعناد والإصرار، وتعقب الرغبات، وانتهاج كافة الأساليب المشروعة وغير المشروعة وصولاً للغاية التي يرجوها.  كما تميزت بسرعة البديهة وتعجل الأمور.  فهو لم يعرف أن ينتظر الرب ويصبر له.  وبصفة عامة كان يثق في نفسه وفي خططه أكثر كثيرًا من ثقته في الله، ولهذا كان يرفض التسليم والخضوع له، ليقود ويرتب حياته وينجز مقاصده من نحوه.

وربما ساهمت رفقة في صنع هذه الشخصية، فقد أحبت يعقوب وبالغت في الاهتمام به، مما أدَّى إلى تدليله، كما أشار الأخ الفاضل ماهر صموئيل.  والتدليل هو عدم تعليم الطفل تأجيل رغباته، وتلبية كل ما يطلبه.  وهذا جعله لا يستطيع أن يضحي برغبة حتى إذا كانت تتعارض مع فكر الله.  وهذا جعل طريق الطاعة والخضوع لله صعبًا للغاية.  ولهذا احتاج إلى الكثير من المعاملات المؤلمة لإعادة تشكيله وليصنع منه وعاءً آخر كما حسن في عيني الفخاري.

إن ما حدث عند مخاضة يبوق في تلك الليلة التاريخية، هو تصوير لمعاملات الله مع يعقوب ومع مؤمنين كثيرين لفترات طويلة من حياتهم.

لقد «صارعه إنسان».  فالرب العظيم القدير ظهر في صورة إنسان، وأراد أن يعلن ليعقوب رفضه لأسلوب حياته الجسدي، وعدم رضاه عن تصرفاته حتى الصغيرة منها.

ونلاحظ أن الله في معاملاته معنا لإخضاعنا لا يستخدم القوة الإلهية من البداية، لكنه يستخدم الظروف والأحداث والأشخاص، ليعلمنا نتائج أفعالنا، وأن الجسد لا يفيد شيئًا.  إنه يتركنا نحصد ما زرعناه، مع أنه كان قادرًا أن يظهر قوته لإخضاعنا وإجبارنا على فعل إرادته من البداية.  إنه فقط يلجأ إلى ذلك في النهاية ليُقصِّر فترة الصراع.
إن الذي وضع النهاية للإنسان في الجسد هو الرب يسوع الذي جاء إنسانًا، وبموته على الصليب أنهى الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور بكل عيوبه وتشوّهاته، لكي يعطينا أن نلبس الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق، وذلك بواسطة امتلاكنا حياة المسيح بالروح القدس. 

 (يتبع)

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com