في جلسة محبة وشركة معه في بيته في أبريل 1998 فتح لي قلبه وفاض بحديث شخصي أجابني فيه عن أسئلة كثيرة، وتمامًا كما كان يتدفق حديثه من على المنبر دون قواطع أو فواصل كان حديثه الحلو معي فكان من الصعب عليَّ أن أدوِّن كل ما قاله، لكني مع هذا استطعت أن أحصل على إجابة عن كثير من الأسئلة التي ذهبت بها إليه، وفرحت بما حصلت عليه واحتفظت بهذه الأوراق عندي ذخرًا وعزاءًا وتعليمًا لي.
والآن أراه مناسبًا أن أشرك إخوتي معي في الفائدة، مقتسمًا معهم بفرح ما كان سبب بركة لنفسي. وسأنقل ما قاله بنفس ألفاظه لتحمل لإخوتي عبير ذكراه الطيبة بالإضافة لما سيسببه مضمونها من بركة وتعزية وتعليم.
تعالوا ننصت لما قاله خادم الرب الراحل الأخ الفاضل/ وديع جندي، فإنه وإن مات يتكلم بعد.
الولادة الجديدة:
كنت طالبًا في القاهرة في "مدرسة الصناعات الميكانيكية الحربية" (وهي مدرسة تابعة للقوات المسلحة في ذلك الوقت، وكان عمري وقتها 18 سنة).
كنت أسمع البشارة كثيرًا من طفولتي وكنت ملمًا بالحقائق الخلاصية، وكنت أحب الترنيم جدًا، لكن دون ولادة ثانية. امتلأت بشعور عميق من الاحتقار لنفسي: كيف وصلت لما أنا فيه من مستوى متدني في الخطية! وفي أحد أيام الجمع في أبريل 1941 وكنتيجة لما استشعره من كره شديد لنفسي صممت أن لا أبارح المعسكر.
وفي ذلك اليوم وصلت بشارة يوحنا إلى يدي من زميل عزيز غير مسيحي! ومن قبيل الانتماء والغيرة أخذتها وبدأت في قراءة قصة الصليب فيها وبعقلية مدربة على التمثيل وحب المسرح تصورت أحداثها فبكيت وقمت وأغلقت الباب على نفسي "وخزان من الدموع انفجر" .. وبدأت أصلي وكنت أحجز صوتي .. استعرضت حياتي في ضوء محبة الله وموت المسيح لأجلي، قمت مغسولاً فعلاً حتى شكل المباني أخذ منظرًا آخر في عيني، كنت أهرب قبل هذا من أي جلسة فيها مناقشات عن المسيح والمسيحيين، لكن من هذا الوقت بدأت أشهد عن عمل نعمة الله فيَّ أمام الجميع. ومن أول خطاب أرسلته إلى أسرتي شعر الأهل بأن هناك شيئًا قد حصل في حياة وديع.
غيرته القوية من البداية:
بعد أن حدث هذا معي مباشرة تعرفت على شابين مسيحيين في المدرسة واتفقنا أن نقرأ الكتاب ثم نتقابل على سطح المدرسة لنعرف إلى أين وصلنا في قراءتنا ونصلي معًا. ابتدأ العدد يتزايد حتى صار تجمع لحوالي سبعين شخصًا نجتمع ونقرأ ونصلي. رجمونا زملاؤنا بالحجارة، فذهبت للقائد وطلبت منه مكانًا للصلاة فأصدر لنا أمرًا بمكان وميعاد للصلاة يوميًا. فكان يجتمع حوالي 300 شخص مسيحي واللي ما بيذهبش إلى الكنائس أبدًا كان يحضر وكنت أشعر أني ملزم بالخدمة بعدما حدث، فكنت أسهر كل يوم أقرأ المجلات المسيحية باحثًا عن موضوع خدمة أقدمه كل مساء.
معرفته بالإخوة:
تعرفت في المدرسة على الأخ جرجس تادرس أحببته بشدة وجذبني إليه معرفته بالكتاب وعرفت منه أنه من الإخوة وأنه يحضر اجتماع جزيرة بدران وكان لي سكن بجوار الاجتماع فذهبت مع الأخ جرجس في أحد أيام الجمع ومن وقتها بدأت أواظب على الحضور يومي الخميس والجمعة.
ولما رأى الإخوة مواظبتنا أنا والأخ جاد عبد الملاك كانوا يزورونا باستمرار من مرتين إلى ثلاث مرات أسبوعيًا وكان يقوم بزيارتنا الإخوة متى بهنام، ناشد حنا، فهمي عبد الله، ورياض فرنسيس. وهذه الزيارات أثرت فيّ جدًا قبل معرفة الحق.
حضور الاجتماعات:
أحببت الاجتماع بشدة وكنت أشعر بمطابقة الخدمة تمامًا لحالتي، كنت أحيانًا أبكي وأحيانًا أضحك من شدة تأثري واندهاشي من كلمة الله المتطابقة مع احتياجي، وكنت أذهب في كل مرة للاجتماع بشوق شديد لأعرف ماذا سيقول الرب لي في هذا الاجتماع.
الاشتراك على مائدة الرب:
كان الإخوة يشجعونني روحيًا كثيرًا ولا سيما الأخ حلمي مسعود والذي تولى رعايتي وقد كان قمة في الرعاية وكان يتابعني باستمرار يوميًا. وكان يأخذني معه في الزيارات.
وكلمني كثير من الإخوة عن مائدة الرب فأخبرتهم أني أشعر بعدم الاستحقاق لكنهم أفهموني المفهوم الصحيح للمائدة فطلبت الاشتراك واشتركت على مائدة الرب في مارس 1943.
بركات الظروف الصعبة:
الجهاد الروحي في دراسة الكتب والصلاة.
قامت الحرب العالمية الثانية وانتقلت وحدتي العسكرية إلى الضبعة بجوار العلمين على طريق الاسكندرية – مطروح. وكانت فرصة لم تعوَّض في تاريخي حتى هذا اليوم. فقد قضيت هناك سنة وستة أشهر. وفي ليلة قلقت ولم أستطع النوم بدأت أقرأ الكتاب فقسمته إلى ستة أقسام: 4 عهد قديم، 2 عهد جديد. نوّرت شمعة وقرأت 5 أصحاحات من كل قسم أي حوالي 30 أصحاح. وتاني يوم شعرت أني طول اليوم الكتاب المقدس في ذهني وأمام عيني ففرحت وقررت أن أستمر على هذا المنوال فأنهيت الكتاب في 40 يوم. وفرحت وقررت أن أستمر بنفس الأسلوب بقية حياتي. فقرأت الكتاب كله 150 مرة "وبعد كده بطّلت العد". وكان الأربعين أصحاح يأخذون في البداية حوالي ساعتين لكن بعد هذا كنت أقرأهم في حوالي ساعة أو أكثر قليلاً. وكنت أثناء النهار أغتنم أي فرصة لقراءة الشروحات.
- كان الوقت متوفرًا، وكانت هناك تبة تبعد عن المعسكر حوالي كيلومتر كنت أذهب إليها مع كل غروب وأقضي وقتاً في الصلاة ولا أنسى أبدًا فضل الرب عليَّ في هذه الفترة من حيث الصلاة والشركة معه ودراسة الكتاب.
- في إحدى الليالي ذهبت للتبة أصلي "وقفلت!.. ومفيش تعزيات!" قلت: مش ماشي! ليّل الليل واستمريت أصلي. من التعب نمت، واستيقظت، وجدت الجبل كله ظلام وملابسي مبتلة من الندى فعدت للمعسكر فورًا وأنا خائف من الحرس .. لكن الرب سلّم.
- كنت في تلك الفترة أقضي ساعات في الصلاة وكانت كتب "ماكينتوش و ف. ب. ماير" من أكثر الكتب التي أثرت فيَّ ولا سيما الكتب التي تتناول دراسة الشخصيات الكتابية.
النمو الروحي:
مشجعات ومعوقات
كانت محبة الإخوة لي وتكرار افتقادهم والمتابعة شبه اليومية هي أعظم وسيلة لحفظي من السقوط. وشجعني على النمو:
- التزامي بالخدمة وسط زملائي في المدرسة، رغم أنها كانت مفروضة عليّ إلا أنها حفظتني وشجعتني.
- مراجعة النفس في نهاية كل يوم ساهمت في نموي الروحي.
- خدمة توزيع النبذ ومحاولتي التشبه بـ "مودي" الذي كان لا يُنهي يومًا دون أن يكون قد كلّم فيه أحدًا عن المسيح. وكنت أفعل هذا عن طريق النبذ إذا لم أجد فرصة شخصية للكلام. وكنت أقضي يوم الجمعة في زيارات وتوزيع النبذ في صناديق البوستة مع بعض الإخوة مثل الأخ الحبيب عجبان (دمنهور)؛ هذا شجعني على النمو كثيرًا. ومن شدة محبتنا لتوزيع النبذ كانت الكمية الموجودة في المطبعة دائمًا تنفذ بسرعة وكان الأخ اسكندر جرجس المسئول عن المطبعة يشير إلينا ويقول: "العفاريت دول خدوهم".
- المواظبة على حضور الاجتماع ومطابقة الخدمة على حالتي الروحية وقوة حضور الرب في الاجتماع كان له أكبر الأثر في نموي في الفترة التي قضيتها في الصحراء بعد اشتراكي مباشرة.
أما عن المعوقات:
- فقد كان الوجود في الخدمة العسكرية متعبًا.
- كذلك من المشاكل الحروب الشبابية، والتي أنقذني منها كم القراءة الهائل في الكتاب إذ كان هذا يشغل فكري باستمرار.
- كذلك تدربت على الصوم بسبب أخطاء فيّ كانت تشعرني بضعفي بصفة دائمة وكان الصوم بركة لحياتي. وفي ذات مرة صمت ثلاثة أيام متصلة بدون طعام لكن نصحني الإخوة بعدم تكرار ذلك.
ملاحظة: أذكر أن الوالد الراحل نعيم عبد الشهيد ذكر لي أنه كان كثير الصيام في شبابه على الأقل مرة أسبوعيًا، وأحيانًا يوميًا، وكان هذا سبب بركة لحياته وخدمته.
خدمة الكلمة:
لم تبدأ خدمة الكلمة وسط الاجتماع، لكن مجبرًا وسط زملائي في المدرسة، كما ذكرت من قبل، ثم بعد هذا كان الأخ حلمي مسعود، هذا الرجل الذي لا أنساه أبدًا، إذ كان يركز على واحد يتبناه حتى يشتد عوده .. واستمر يصحبني معه في الزيارات في البيوت وفي الاجتماعات الأخرى وكان يعطيني فرصة لكي يشجعني على الخدمة.
وأول مرة خدمت في الاجتماع كنت في اجتماع جزيرة بدران وكان حاضرًا الإخوة متى بهنام، وعوض سمعان، وفهمي عبد الله، وناشد حنا، وكان هناك صمت وانتظار وشغلني الرب بآية لا أعرف موضعها وكانت هي: «لا تخف أيها القطيع الصغير» فتكلمت فيها كلمات قليلة وتعزّى الإخوة وشجعوني كثيرًا.
موقف صعب:
المواقف الصعبة كثيرة لكن أذكر في حرب 48 كنا في رفح في خنادق مكشوفة وألقت علينا الطائرات حمولتها ورأيت القنابل تهوي علينا، مات منا 11، وواحد جُنّ، وبقيت أنا و"ربيع" زميل سلاحي فقط. وعندما اكتشف نجاتنا قال: رحنا يا وديع وربنا أنقذنا. وكنت كلمته عن الرب وشجعته على فعل الخير فقد كنا أنا وهو نستبدل السجائر التي يعطوها لنا بفلوس نعطيها للمحتاجين في معسكرات اللاجئين الفلسطينيين فقال ربيع: "اللقم تحوش النقم" (أي أن عمل الخير (اللقم) يمنع النقم (المصائب)".
ويومها كتبت ترنيمة:
قد ظللتني طائرات وفوقي ألقت طوربيدات
من حولي قالوا لا نجاة لكن يسوع رب المعجزات
الزواج:
تزوجت في أبريل 1946 بالأخت فله حنا بشتا، بنت عمي وبنت خالتي. وأعطاني الرب سبعة أولاد هم بالترتيب: إنعام – نرجس – نحميا – ناثان – راعوث – رينا – إرميا. وكلهم في الإيمان ومشتركون على مائدة الرب.
ولا أنسى فضل الرب عليَّ في زوجتي فقد كانت خير معين لي .. كانت شريكة في الصلاة ومتميزة في كتمان الأسرار. وكانت تخدم بنشاط في جزيرة بدران بين الأخوات والشابات.
التفرّغ للخدمة:
في رفح سنة 1948 امتلكني شعور بأني مسئول عن خلاص نفوس هذا الشباب المحيط بي في كل مكان (كان عمري وقتها 25 سنة) وقلت بدموع للرب: .. النجار والحداد بيعملوا حاجة نافعة .. فهل أنت خلقتني أنا علشان أمسك بندقية وأخرّب .. وارتسمت أمامي الآية: «قد اشتريتم بثمن فلا تصيروا عبيدًا للناس» وجاءت فرصة بعدها أن أنتقل من الجيش للتدريس فقلت هذا سيوفر لي فرصة أفضل لخدمة الرب فذهبت لأقدم أوراقي، فتقابلت مع الأخ حلمي مسعود في الأتوبيس دون سابق اتفاق وسألني: إلى أين أنت ذاهب؟ فأخبرته. فقال لي العسكرية أفضل من التدريس وحال المدارس رديء .. ورجعت.
وجاءت فرصة الاستقالة قبل الثورة وقدمت استقالة ورفضوها وقالوا: لا يمكن الاستغناء عنه. وجاءت فرصة أخرى وتعطلت بسبب الثورة (ثورة 1952). وبعد حرب 1956 قدمت استقالتي، وزراني وقتها الأخ ناشد حنا والأخ متى بهنام وسألوني: ماذا ستفعل بعد الاستقالة؟ قلت لهم: أنا استقلت لأتحرَّر من قيود العمل العسكري، وسأبحث بمعونة الرب عن أي عمل نافع وأحاول بجانبه أن أخدم الرب. وإذ بالإخوة يبلغوني براحتهم أن أتفرّغ للخدمة.
إلا أن الورق تعطّل ورفض القائد التوقيع على الاستقالة لأنه علم أن عندي أولاد فضميره منعه، فأخذت الورق منه وذهبت لقائد أعلى فوقع عليه وكان هذا في يوليو 1957. ومنذ تفرغي أحببت خدمة القرية ورائحة القرية تجذبني وتعلمت أن القدرة على تبسيط الأفكار تتولد بالاحتكاك المستمر بالبسطاء.