عدد رقم 3 لسنة 2006
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الحمامة   من سلسلة: من طيور الكتاب المقدس

نواصل تأملاتنا عن الحمامة في سفر النشيد، وسنتوقف عند صفتين أساسيتين هما: الوداعة والبساطة

العين الوديعة: تظهر هذه الصِّفة الرقيقة في الحمام بصورة واضحة جدًّا، فلا نرى على الإطلاق حمامة تؤذي غيرها، حتى لو تعرَّضت هي أو فراخها للأذى.  قد تتعرَّض للضرر، قد تتألَّم وتتوجَّع، لكنَّها قطّ لا تُهاجم أحدًا حتَّى ولو دفاعًا عن نفسها. وأقصى ما يُمكنها أن تفعله هو أن تطير مبتعدة عما يُقلقها ويُزعجها، ساعيَّة وراء الهدوء والسلام. ولقد أدرك داود هذه الخصلة الوديعة في الحمام، فعبَّر بذلك عن نفسه، حينما تعرَّض لظلم الأشرار، قائلاً: «فقلت ليت لي جناحًا كالحمامة، فأطير وأستريح! هأنذا كنت أبعد هاربًا، وأبيت في البريَّة» (مز 55: 6، 7).

وهذا ما ينبغي أن تتَّسم به ليس تصرُّفاتنا فحسب، بل أيضًا نظراتنا.  فما أكثر العيون التي تجرح وتؤذي غيرها، وما أقسى العيون المتعالية المتعجرفة فيما تلحقه من أذى وضرر بالغير، إنَّها من أمورٍ ستَّة يُبغضها الرب (أم6: 17).  ولذلك نجد حكم الرب الصارم لصاحب العين المتعالية غير الوديعة؟ «العين المستهزئة بأبيها، والمحتقرة إطاعة أمها، تقوِّرها غربان الوادي، وتأكلها فراخ النسر» (أم30: 17).

تُرى ما هو الانطباع الذي يمكن أن نتركه في مَنْ ينظرون إلينا؟ هل هي مشاعر الارتياح والغبطة، أم مشاعر الإكتئاب والنفور؟  ليت الرب يُجمِّل عيوننا بتلك الصفة الرائعة.

العين البسيطة:   من أشهر صفات الحمام هي البساطة، بل إنَّها تُعتبر الصفة السَّائدة للحمام، من أجل ذلك نجد الرب يطلب من تلاميذه أن يتحلّوا مثل الحمام بهذه الصفة الرقيقة قائلاً لهم: «كونوا .. بسطاء كالحمام» (مت10: 16).  وإن كان الحمام في حياته لا يعرف المكر أو الغش والخداع، هكذا يرى العريس هنا عيون عروسه.  إذ يرى أنَّ سرّ جمال عيني العروس هو ما تعكسه من بساطة الحمام، ولكي نتعرَّف أكثر على جمال عيني العروس من هذه الوجهة، دعونا  نعرف مفهوم البساطة كما تعلنها كلمة الله:

  1. البساطة هي عدم التمرُّس في الشر:  وهذا ما يطلبه الرسول بولس من مؤمني أهل رومية «أُريد أن تكونوا .. بسطاء للشر» (رو16: 19). على عكس الطَّابع العام لعيون الأشرار إذ: «لهم عيون مملوءة فسقًا، لا تكفُّ عن الخطية» (2بط2: 14). إن العيون "كالكاميرا" تصوِّر كل ما يقع أمامها، ويقوم المخ بتحميض وطبع هذه الصور وتخزينها، وما أبشع النتائج عندما لا تُصوِّر هذه الكاميرات سوى كلّ ما هو عالمي!!

    مَنْ كان يظن أن مُرنِّم إسرائيل الحلو ذو العواطف الرقيقة (1صم20: 41)، والمبادئ الرَّاقية (1صم24: 4-7)، صاحب أشجى وأعذب المزامير ينحدر إلى تلك الهوَّة السحيقة ونراه يرتكب أشنع خطيَّتين، ألا وهما الزنا والقتل؟! كيف وصل به الأمر إلى ذلك؟ كانت البداية أنَّ عينيه فقدتا بساطة الحمام، فإذ كان على السَّطح يتمشَّى رأى امرأة تستحم  (2صم11: 2).  ولأنَّه لم ينتبه لعينيه، وترك لهما العنان، نجده بكل أسف يسقط سقوطًا عظيمًا، ولنا في هذا الصدد أن نستعير ذات كلمات مرثاته لشاول ويوناثان ونقول له بدورنا: «كيف سقط الجبابرة؟».
  2.  البساطة هي أن نُبصر الشر ونتجنَّبه:   وهذا ما يذكره لنا الحكيم في أمثاله: «الذَّكي يُبصر الشرّ فيتوارى» (أم22: 3). وهذا هو عين ما ينصح به الرسول بولس ابنه تيموثاوس: «أمَّا الشهوات الشبابيَّة فاهرب منها» (2تي: 22)، وهذا ما حدث ما يوسف (تك 39).
  3. البساطة هي أن لا تحمل نظراتنا أكثر من معنى:  ما أجمل العيون الصَّافية الرائقة، والتي تعبِّر دوامًا عما بداخلها.  وكم هو أمر بغيض أمام الربّ أن تفقد عيوننا البساطة، ونحاول أن نخدع من يستأمنوننا.

    لقد تظاهر رُسل ملك بابل بسلامة النيَّة وهم ينظرون إلى كل ما أراهم إيَّاه حزقيَّا، لكن كانت عيونهم في واقع الأمر مليئة بالشهوة وحُب الامتلاك، إذ عندما وصلوا إلى مليكهم، وأخبروه عن كل مقتنيات ونفائس الملك حزقيَّا، نقرأ في يوم لاحق أن  جيوش ملك بابل جاءت لتنقل كل ما رأوه إلى بابل.
  4. البساطة هي أنَّ عيوننا لا تبصر سوى غرضًا واحدًا:  يقول الربّ لتلاميذه في الموعظة على الجبل*: «سراج الجسد هو العين، فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كلُّه يكون نيِّرًا» (مت6: 22).  يُعبِّر الرب في حديثه  هنا عن العين  بالنَّافذة التي منها يدخل النور، فعن طريق العين يدخل النور إلى كياننا من الداخل، ولذلك لا يقول الرب إن العين نور الجسد، بل سراج الجسد، فالعين لا تُنشئ النور بل تستقبل النور، إنَّها لا تمثِّل مصدر المعرفة، بل وسيلة المعرفة.

وجدير بالملاحظة أنَّ الربّ يُقارن هنا بين العين الشريرة والعين البسيطة، وليس الصَّالحة كما كنَّا نتوقَّع. فالعين الشريرة لا تستقر في مكانها، بل تنتقل من مشهد لآخر في لهفة ورغبة، فإنَّها كما قال عنها الحكيم: «العين لا تشبع من النظر» (جا1: 8).  فالقلب أكبر من العالم بأسره، ولذلك لا يُشبعه أي شيء مادي، من أجل ذلك يُصرِّح الحكيم بصدد ذلك قائلاً: «جعل (الله) الأبديَّة في قلبهم» (جا3: 11).

أمَّا العين البسيطة، فهي تعرف أن تستقر على هدف وغرض واحد، وهو الرب تبارك اسمه، وبذلك نجد النظرة مستقرَّة وهادئة، وبذلك يُصبح الجسد كلّه نيِّرًا.

ولقد كانت للرسول بولس هذه العين البسيطة، إذ نسمعه يقول:«أفعل شيئًا واحدًا»، وهذا بالمقابلة مع أصحاب العيون الشريرة «الذين يفتكرون في الأرضيَّات (بالجمع)» (في3: 13، 18، 19).  كما كان لداود العين البسيطة الواحدة، بالمقابلة مع الكثيرون الذين يقولون: «مَنْ يُرينا خيرًا؟»، إذ نسمعه يقول: «ارفع علينا نور وجهك يا رب، ثم يستطرد قائلاً: «جعلت سرورًا في قلبي أعظم من سرورهم إذ كثرت حنطتهم وخمرهم» (مز4: 6، 7).

ليتنا نتحلَّى بهذه الخصلة العذراويَّة فتمتلئ عيوننا بمرأى ذاك المجيد المبارك، فتعزف عيوننا عن كل ما عداه، فتصدح ترنيماتنا:
يا رب حوِّل نظري
فكل منظر سواك
عن كل منظر هنا
فيه المرار والعنا

(يتبع)

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com