عدد رقم 3 لسنة 2006
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الارتحال عن بيت إيل   من سلسلة: مؤمنون في أماكن خاطئه

كانت الوصية ليعقوب: «قم اصعد إلى بيت إيل وأقم هناك» (تك 1:35).  وقد رأينا كيف حدثت النهضة في حياة يعقوب وبيته، واستشعر ما يليق بقداسة إله بيت إيل، فأمر مَنْ معه أن يعزلوا الآلهة الغريبة ويتطهروا ويبدلوا ثيابهم، وقد طمر الآلهة تحت البطمة التي عند شكيم.  وعندما وصل إلى بيت إيل ماتت دبورة مُرضعة رفقة فدفنها تحت البلوطة. وقد فهمنا أن البطمة والبلوطة هما رمز للصليب، الذي به يتحرَّر المؤمن من سطوة العالم، سواء في شره وفساده، أو في ديانته وفرائضه الناموسية.  وبذلك يصبح المؤمن مُؤهلاً للتمتع ببركات بيت إيل.  وعندئذ أظهر الله ذاته ليعقوب (ع 9).  وبالحق «طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله» (مت 8:5).  والقلب النقي هو القلب المشغول بالمسيح والذي يستشعر كل ما يخالف قداسته.  وهذا امتحان لاجتماع المؤمنين معًا.  هل المسيح هو الغرض الذي نجتمع إليه، والمركز الذي نلتف حوله؟ وهل حالتنا العملية تتوافق معه؟ هذا هو «بيت إيل» بالنسبة لنا.  وهناك يُسَرُّ الرب بأن يُظهِر ذاته لنا.

كانت هذه، من زاوية، نهاية رحلة يعقوب، حيث عاد للمكان الذي ظهر له فيه الرب في البداية، وهناك بنى مذبحًا للرب، وكان المفروض أن يُقيم هناك حسب أمر الرب (ع 1)، لكنه فشل في ذلك، وارتحل عن بيت إيل (ع 16).  وقد يكون من السهل نسبيًا، خاصة في جو النهضات الانتعاشية، أن نقوم ونصعد إلى بيت إيل، ونرمم المذابح المنهدمة، ونعود إلى قوة الشركة والشهادة والخدمة.  لكن الأصعب غالبًا هو أن نظل هناك.  ويجب أن نعرف أن الوصول إلى البركة شيء، والاحتفاظ بها شيء آخر.  وهذا يحتاج أن نبذل كل اجتهاد في إدانة ورفض رغبات الجسد، والحرص الدائم على الشركة مع الرب وأن نكون أمامه دائمًا. 

وظهر الله ليعقوب أيضًا ... وباركه.  وقال له الله: اسمك يعقوب.  لا يُدعَى اسمك فيما بعد يعقوب، بل يكون اسمك إسرائيل.  فدعا اسمه إسرائيل. وقال له الله: أنا الله القدير. أثمر وأكثر» (ع 9- 11).

كان ذلك إعلانًا عن سرور الله به ورضاه عنه عندما وصل إلى بيت إيل.  لقد كان الظهور السابق في فنيئيل صراعًا في الظلام، واختبارًا لحكم الموت وكسر الإرادة الذاتية (تك 32).  أما هنا فالله في نعمته يظهر له ويباركه، بعد رجوعه من البُعد والتيه.  وبدون إشارة إلى أخطائه التي جلبت عليه التأديب، وبدون أن نرى يعقوب يبكي طالبًا البركة، نرى الله يظهر له ويباركه.  وفي الوضع الصحيح أمكنه أن يتمتع بالاسم الجديد «إسرائيل» الذي سبق أن أعطاه له.  ودون أن يسأله يعقوب: «ما اسمك؟»؟ أعلن الله اسمه ليعقوب كالقدير، كما فعل مع إبراهيم وإسحاق.  وقبل ذلك لم يستطع الله أن يعلن اسمه له لأنه لم يكن في المكان الصحيح.  لقد تمتع برعاية الرب وعنايته وحفظه وأمانته في تحقيق مواعيده، لكنه لم يتمتع بالشركة معه وإعلان اسمه إلا في بيت إيل.  ويبقى السؤال: هل تقنع بأعمال العناية التي تسدد أعوازك، أم تتمتع بإظهار الرب ذاته لك وبالشركة معه، ومعرفة اسمه بشكل أعمق؟ هذا يحتاج أن تكون في الوضع الصحيح والمكان الصحيح روحيًا.

وجميل أننا لا نسمع كلمة من يعقوب هنا، بل نسمع الله يتكلم معه.  لم يكرر يعقوب نذره القديم ولم يعده بنذور جديدة.  لقد تعلَّم بطلان الاتكال على الجسد، وكان مُهيًأ لاستقبال فيض النعمة، بعكس الظهور الأول في بيت إيل (تك 28).  وهنا نراه كإسرائيل وليس كيعقوب.

«الأرض التي أعطيت إبراهيم وإسحاق لك أعطيها، ولنسلك من بعدك أُعطي الأرض» (ع 12).  لقد كرَّر نفس ما قاله له قبلاً، وكأنه يُسْقِط السنين التي ضاعت ولم يستفد منها يعقوب.

«ثم صعد الله عنه في المكان الذي تكلم فيه معه.  فنصب يعقوب عمودًا في المكان الذي فيه تكلم معه، عمودًا من حجر، وسكب عليه سكيبًا، وصبَّ عليه زيتًا.  ودعا يعقوب اسم المكان الذي فيه تكلم الله معه بيت إيل» (ع 14، 15).

يوم نصب يعقوب العمود الأول في بيت إيل نذر نذرًا، لكنه فشل في تحقيقه.  أما الآن فقد تعلَّم أن يضع كل ثقته في الله القدير الذي يضمن تحقيق المواعيد بالنعمة.  وهذا العمود الثالث  هنا يشهد عن حياة التسليم والثقة الهادئة في الله، ونزع الثقة من الذات.  كان أمامه «الله القدير» مُظهِرًا ذاته له، ومُتكلمًا إليه، ويعقوب يسمع ويستقبل ويستمتع بالشركة معه دون أن يطلب شيئًا.  وهذا ما يجب أن نفعله نحن عندما ندرك فيض النعمة المتجه إلينا، فنقول مع مَنْ قالت: «هوذا أنا أمة الرب.  ليكن لي كقولك» (لو 38:1).

العمود الأول نجده في تكوين 18:28، والثاني في تكوين 45:31، والثالث هنا في تك 14:35 والعمود الرابع على قبر راحيل في تكوين 20:35.

كان يعقوب في بيت إيل المرة الثانية مُدركًا أن الرب في هذا المكان، دون أن يرتعد بسبب حالته الغير متوافقة مع قداسة الله، كما حدث قبلاً (تك 28).  إنه لأول مرة يستمتع بالشركة مع الله ويعرف اسمه ويدخل إلى أفكاره.  وهذا كان طابع حياة إبراهيم خليل الله.  وهذا هو فكر الله من جهتنا نحن.  لقد أعلن ذاته لنا باعتباره «إله وأبو ربنا يسوع المسيح»، وليس فقط «الله القدير».  لقد سُر بنا «وباركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح» (أف1).  لقد أنعم علينا في المحبوب، وأجزل لنا الحكمة والفطنة وعَرَّفنا بسر مشيئته حسب مسرته التي قصدها في نفسه.  فنحن لسنا عبيدًا بل بنينًا محبوبين.  لأن العبد لا يعلم ما يفعل سيده (يو 15:15).

أقام يعقوب عمودًا وسكب عليه سكيبًا.  وهنا نقرأ لأول مرة عن «السكيب».  ففي المرة الأولى أقام عمودًا وصب زيتًا على رأسه (تك 28).  والسكيب هو مقدار من الخمر، ويعبِّر عن الفرح.  كما أن الزيت يشير إلى الروح القدس.  وكلاهما يرتبطان ببيت الله.  فعندما نكون في محضر الله سنختبر أفراح الروح القدس.  خاصة عندما يرتبط ذلك بنهضة في حياتنا وشهادتنا.  وهذا ما حدث في تاريخ حزقيا وفي أيام عزرا ونحميا، حيث اقترنت النهضة بالفرح بالارتباط ببيت الرب.

والسكيب يُذكر في العهد الجديد في فيبلي 17:2؛ تيموثاوس الثانية 6:4، حيث نرى فرح الرسول بولس وهو يسكب حياته في الخدمة لأجل الرب حتى الموت.

وهذا ما سيحدث مع إسرائيل في المستقبل حيث سيعودون بالفرح إلى بيت الرب (مز 1:122).  وسيملأ أفواههم ضحكًا وألسنتهم ترنمًا (مز 2:126).  سيكون على رؤوسهم فرح أبدي وسيهرب الحزن والتنهد (إش 10:35).  وستترنم صهيون وتهتف (إش 1:54)، وسيفرحون أمام الرب كالفرح في الحصاد، ويُعيّدون عيد المظال (زك 16:14).

وكل هذا ينطبق علينا نحن أيضًا الذين نتمتع بالبركات الروحية السماوية الآن، فإن بيت الله هو بيت الفرح.  هذا الفرح الذي يبدأ هنا ويستمر بطول الأبدية هناك. 

بعد كل هذا كنا نتوقع أن يظل يعقوب في بيت إيل، في المكان الذي ظهر له الرب فيه وتكلم معه، وأعلن اسمه فيه، وأكد له المواعيد والبركات، في المكان الذي بنى فيه مذبحًا للرب، في المكان الذي نصب فيه عمودًا يشهد عن أمانة الله عبر كل السنين، في مكان الفرح لأول مرة في الشركة الحقيقية مع الله.

كانت الوصية ليعقوب: «قم اصعد إلى بيت إيل وأقم هناك».  لكنه بكل أسف لم يظل هناك.  لقد مكث حينًا، وبعد ذلك «رحلوا من بيت إيل» (ع 16).  وهذا هو تاريخ الإنسان المُتكرِّر.

إن الوصول إلى القمة شيء، والاحتفاظ بها شيء آخر.  لقد «وصل داود إلى القمة حيث سجد لله» (2صم 32:15)، لكنه بعد ذلك «عبر قليلاً عن القمة» (2صم 1:16) واختل اتزانه وسمع وشاية صيبا ضد مفيبوشث.  ووصل سليمان إلى القمة يوم دشَّن الهيكل وأصعد آلاف الذبائح، وملأ مجد الرب البيت، ثم رفع صلاته الشهيرة للرب لأجل شعبه إسرائيل (1مل 8؛ 2أخ 5، 6).  لكنه انحدر انحدارًا خطيرًا عندما أحب نساء غريبة كثيرة أملن قلبه عن الرب، حتى أنه عبد البعل وسجد له (1مل 11).  وكذلك وصل إيليا إلى القمة وهو على جبل الكرمل، يحقق مجد يهوه أمام عيون جميع الشعب، ويتحدى الملك المرتد وأنبياء البعل (1مل 18)، لكنه انحدر وخار وأعيا، وجلس تحت الرتمة وطلب الموت لنفسه، ثم اختبأ في المغارة واشتكى الشعب (1مل 19).  ونحن عندما تتحول عيوننا عن الرب ونفقد البساطة التي في المسيح ونسير وراء رغباتنا الطبيعية، فإننا معرضون أن نفقد البركة التي وصلنا إليها، ونترك المكان الصحيح الذي كان الرب يريدنا أن نظل فيه.  فلنتحذر لأنفسنا من الجسد الذي فينا، الذي سريعًا ما يمل ويرغب في التحول عن محضر الله، فنُحرَم من البركة والشركة والفرح والتمتع باسم الرب وإظهار ذاته لنا، حيث نستطيع أن نقدم له السجود، ونشهد الشهادة الناجحة، وهذا ما رأيناه في المذبح والعمود في بيت إيل.

(يتبع)

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com