المزيد من الحماقات
تعرّفنا به في المرة السابقة كوريث عرش سليمان. ورأينا كيف، بسبب حماقته، واختياره للمشورة الأسوأ، انقسمت المملكة، وهكذا خسر الكثير وأصبح في موقف لا يُحسد عليه. فماذا فعل؟! هيا لنرى.
محاولات فاشلة لإصلاح ما أفسده
«ثُمَّ أَرْسَلَ الْمَلِكُ رَحُبْعَامُ أَدُورَامَ (هَدُورَامَ) الَّذِي عَلَى التَّسْخِيرِ (المعنى الحرفي: جمع الضرائب)» ما مغزى هذه الإرسالية؟ واحد من اثنين: إما أنه اعتبر أن شيئًا لم يكُن فأرسل من يجمع الضرائب، أو أنه كان في محاولة يائسة لإجراء مباحثات سياسية مع الشعب لإصلاح ما أفسده بقراره. فإن كان الأول؛ فما أغباه من تصرّف يتجاهل الواقع والحقيقة، وما كان ليثمر إلا عما أثمر: رجم أدورام. أما إن كان الثاني، وهو ما يرجِّحه كثيرون من دارسي كلمة الله، فقد كان اختياره للوسيط، مثله مثل باقي قراراته: أحمق. لقد كان أدورام قائمًا على عملية جمع الضرائب، وهي نقطة الخلاف الأساسية مع الشعب؛ فهل مثل هذا يمكن أن يتوسط لحل خلافات؟ ألا نفعل مثله في بعض الأحيان؟!
حتى الآن رأينا رحبعام وقد اتّبع المشورة الخاطئة، وعالج الامور بطريقة خاطئة، وارسل الشخصية الخاطئة. فهل ما زال عنده بعدُ حماقات؟ نعم.. الحرب!!
لقد فرَّ في مركبته إلى أورشليم، فهل ليتحصن ببيت إلهه طبقًا لصلاة أبيه في 2ملوك6؟ بل نقرأ أنه «جَمَعَ مِنْ بَيْتِ يَهُوذَا وَبِنْيَامِينَ مِئَةً وَثَمَانِينَ أَلْفَ مُخْتَارٍ مُحَارِبٍ لِيُحَارِبَ إِسْرَائِيلَ لِيَرُدَّ الْمُلْكَ إِلَى رَحُبْعَامَ»! لقد قرّر الحرب، في محاولة لقمع التمرد بالقوة؛ مدافعًا عن سلطاته، راغبًا في إعلان قدراته الحربية، انتقامًا لرَجُلِه الذي قُتل، متذرّعًا برغبة أبيه في قتل يربعام (1مل11: 40)، واضعًا في اعتباره كل الاعتبارات إلا واحدًا: هل هذه الحرب هي مشيئة الرب؟
يذكر الكتاب أكثر من 25 شخصًا تسمّوا بهذا الاسم الجميل المعنى (1مل12: 22؛ 1أخ3: 22؛ 4: 37؛ 5: 4؛ 9: 14،16؛ 15: 8،11؛ 24: 6؛ 26: 4-7؛ 2أخ17: 8؛ 29: 14؛ 31: 15؛ 35: 9؛ عز8: 13،16؛ 10: 21،31؛ نح3: 29؛ 6: 10؛ 10: 8؛ 12: 6،7،34،36،35،42؛ إر26: 20؛ 29: 24،31؛ 36: 12). معظمهم كان نبيًا أو كاهنًا أو من اللاويٍين أو أحد من قاموا بأعمال عظيمة. واللافت للنظر أن أغلبهم ظهر في أزمنة صعبة، فيها يحتاج شعب الله لأولئك المسموعين لدى الله، كما وليؤكد الله أنه في كل الأوقات والظروف على استعداد أن يسمع شعبه، بل إنه يرغب في ذلك.
هنا كان لا بد وأن يقول الرب كلمته.
ولنلاحظ من الذي استخدمه الرب ليعلن رأيه. «كَانَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَى شَمَعْيَا رَجُلِ اللَّهِ». شمعيا معنى اسمه ”يسمعه الله“ ، وعنده كلام الله، وهو رجل الله. وكأننا نراه مصلّيًا وصلاته مستجابة (قارن مزمور66: 18، 19)، لاهجًا في كلمة الله وهي عزيزة في مثل أيام رحبعام، يحيا حياة مكرَّسة منفصلاً عن الشرور متأهِّبًا لكل عمل صالح (1تي6: 11؛ 2تي3: 17). وما أحوج شعب الله في كل العصور، إلى رجل الله؛ الذي يعرف، من خلال مكوثه في محضر الله، أن يُخبِر بكلمة الله. ويزداد احتياج شعب الله إلى مثل شمعيا كلما زاد ” الرحبعامات“ فيه!
«قُلْ لِرَحُبْعَامَ بْنِ سُلَيْمَانَ مَلِكِ يَهُوذَا»، ولماذا لا تكلّمه أنت مباشرةً يا رب؟! كان الرب في القديم يكلّم داود شخصيًا، وكذلك سليمان في زمن طاعته للرب؛ لكن رحبعام لم يكن في الحالة الأدبية التي تتناسب وأن يكلّمه الله. لنراجع حالتنا أمام الله، هل تسمح له بالتكلم إلينا مباشرة، أم مِن ضعف الحالة لا يجد بُدًّا من استخدام طريق غير مباشر؟ والنتيجة أننا نُحرَم من القيادة الإلهية، وما أفدح الخسارة!
قول الحسم
بعد أن تسبّب رحبعام في انقسام الشعب، كان على وشك أن يتسبب في حرب أهلية لا يعلم مغبَّتَها إلا الله. حرب كانت على وشك أن تلتهم بسعيرها الشعب، لولا أن أوقفها الرب، إذ نسمع القول القاطع: «هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ» . فماذا قال؟
«لاَ تَصْعَدُوا وَلاَ تُحَارِبُوا إِخْوَتَكُمْ». إن كلام الرب هنا يُبنى على حقيقة أن أولئك اللذين هم في طريقهم لمحاربتهم ليسوا إلا إخوتهم!! وفي الواقع أن الخلافات والنزاعات العائلية لم تفارق هذه الأمة من البداية. فما زلنا نذكر خلافات أبيهم يعقوب مع توأمه من البطن، وحسد أولاده لأخيهم يوسف، وغيرة مريم وهارون من موسى، وقيام الأسباط بعضهم على بعض في سفر القضاة، ومواقف أبناء داود أحدهم من الآخر... في معظم الحالات لم يكُن في طرفي الخلاف حكيمًا أو روحيًا فكانت النتيجة المُرّة. ولكن حين وُجد الطرف الروحي الحكيم كان حل الخلاف بطريقة إبراهيم حين قال للوط «لا تكن مخاصمة بيني وبينك ... لأننا نحن أخَوان» (تك 13: 8)، أو بطريقة جدعون (قض8: 1-3).
«هكذا قال (يقول) الرب» تعبير تكرر حوالي 213 مرة في العهد القديم، منها 45 مرة في أسفار الملوك والأخبار، و149 مرة في أسفار الأنبياء (102 منها في إرميا وحده) ومعظمها كُتبت موجَّهة إلى الملوك اللذين تتحدث عنهم سلستنا أو للشعب عامة في أيامهم. وهكذا نرى دائمًا أن تشويش الإنسان لا يؤثِّر البتة على استخدام الرب لسلطانه الحاسم، فهو صاحب الكلمة النافذة دائمًا.
قد يكون من غير المستغرب حدوث اختلاف بين إخوة، فقد وُلدنا في ظروف مختلفة وبشخصيات متباينة، كما أن الجسد ما زال فينا بأعماله الردية؛ لكن السؤال الذي يجب ألا ننسى أن نسأله لأنفسنا: كيف يجب أن تُحلّ الخلافات؟! ليتنا نستمع لتحذير الرسول بولس «انظروا لئلا تفنوا بعضكم بعضًا»، وليت قول الرب يرنّ دائمًا في آذاننا وقلوبنا «لاَ تُحَارِبُوا إِخْوَتَكُمْ».
«ارْجِعُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى بَيْتِهِ لأَنَّهُ مِنْ قِبَلِي صَارَ هَذَا الأَمْرُ». وفي هذا الفيصل. فوَإن كان الانقسام قد حدث كنتيجة مباشرة لغباء رحبعام وقسوة يربعام؛ فقد كان في المقام الأول إتمامًا لكلام الرب على سليمان (1مل11). وليفعل الإنسان ما يفعل، فهو ما إلا أداة لتتميم مقاصد الرب في النهاية (أع2: 23). وفي كل أمر يجب علينا أن نميّز: من قِبَل مَن هذا الأمر، ومن هنا نعرف كيف نتعامل مع الأمر.
«فَسَمِعُوا لِكَلاَمِ الرَّبِّ». أخيرًا وجدنا ما نحسبه لك يا رحبعام، ويا ليتك أكملت مطيعًا!!
نعم تُحسَب له الطاعة؛ فشعب الله، وعلى رأسه ملكه، يجب أن يقدِّر كلام الله ويعترف بسلطانه. لكن يجب أن تكون الطاعة كاملة وإلى النهاية، وهذا ما لم يحدث هنا - للأسف - فلقد «رَجَعُوا عَنِ الذَّهَابِ ضِدَّ يَرُبْعَامَ» لكن ليس إلى النهاية (انظر 1ملوك15: 6).
سنوات ازدهار
كان من نتيجة طاعة رحبعام والشعب أن أعطاهم الرب زمن ازدهار؛ فنرى نبيًا للرب تُسمع كلمته، وتحصينات في المدن، وكهنة ولاويين، وشدة، وسير في طرق داود.
ولزمن القوة هذا سببٌ آخر نراه في القول «وَالْكَهَنَةُ وَاللاَّوِيُّونَ الَّذِينَ فِي كُلِّ إِسْرَائِيلَ مَثَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ جَمِيعِ تُخُومِهِمْ... وَبَعْدَهُمْ جَاءَ إِلَى أُورُشَلِيمَ مِنْ جَمِيعِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ وَجَّهُوا قُلُوبَهُمْ إِلَى طَلَبِ الرَّبِّ إِلَهِ إِسْرَائِيلَ لِيَذْبَحُوا لِلرَّبِّ إِلَهِ آبَائِهِمْ». ويخبرنا الكتاب عن نتيجة وجودهم «وَشَدَّدُوا مَمْلَكَةَ يَهُوذَا وَقَوُّوا رَحُبْعَامَ بْنَ سُلَيْمَانَ ثَلاَثَ سِنِينَ لأَنَّهُمْ سَارُوا فِي طَرِيقِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ثَلاَثَ سِنِينَ». فوجود من يعرفون كيفية الاقتراب إلى الرب (الكهنة)، والمنفرزين إلى الرب المخصصين له (اللاويون)، والذين وجَّهوا قلوبهم إلى طلبه؛ وجود مثل هؤلاء لا بد وأن يكون سبب بركة. آه يا رب أكثِر لنا من أمثال هؤلاء، واجعلنا دائمًا سبب بركة لا عثرة.
يكرِّر الكتاب القول «ثَلاَثَ سِنِينَ» ليلفت النظر إلى أن البداية الواعدة لم تستمر كثيرًا. ثلاث سنين طاعة من مُلكه الذي طال إلى سبع عشرة سنة. فما أقل ما يمكن أن يطيع الإنسانُ الطبيعي اللهَ بدون عمل إلهي في داخله.
وفي الواقع أن الله لا تبهره البدايات الواعدة، لكن يهمه أن نكمل إلى النهاية. شبّه أحد الأفاضل هذا بـ”طيار أحسن الإقلاع بطائرته فصفّق له الركاب، لكنه هبط بهم في المحيط!“. وقد فعل رحبعام هكذا.
لقد ثبّتَ الرب مملكة رحبعام وشدده، فماذا فعل رحبعام بعد أن تشدد؟!
هذا ما سنراه بنعمة إلهنا، إن شاء وأبقانا هُنا.