«صَعِدْتَ إِلَى الْعَلاَءِ. سَبَيْتَ سَبْياً. قَبِلْتَ عَطَايَا بَيْنَ النَّاسِ»
(مز 68 :18)
«إِذْ صَعِدَ إِلَى الْعَلاَءِ سَبَى سَبْياً وَأَعْطَى النَّاسَ عَطَايَا»
(أف 4 :8)
إن محبة الآب للابن هي محبة أزلية، لا بداية لها، إذ أنه «الابْنُ الوَحِيدُ الذي هو في حِضْنِ الآبِ» (يو 1 :18). والحضن هو مكان المحبة وإظهارها والتمتع بها. وعن هذه المحبة الأزلية يُخاطب الابن المبارك الآب قائلاً: «لأنكَ أَحبَبْتَني (أيها الآب) قَبْل إنْشَاءِ العَالَم» (يو 17 :24).
وهذه المحبة التي كانت في الأزل ولن تتوقف، اتخذت مظهرًا جديدًا عندما صار المسيح إنسانًا. فلقد كان كل يوم من أيامه على الأرض، تمامًا كما كان في الأزل، سبب سرور قلب أبيه (مت3 :17 ؛ 17 :5 ؛ مر 1 :11 ؛ 9 :7 ؛ لو 3 :22 ؛ 9 :35 ؛ 2بط 1 :17). وطوال حياته على الأرض – تبارك اسمه – لم يكن له غرض سوى تمجيد أبيه، على الرغم مما كان يعترض سبيله من آلام ومقاومة. لقد مَجَّدَ أباه، في مسيرة الخضوع والطاعة والتكريس والمحبة، كالابن في الناسوت (يو 17 :4). وكان في حياته المباركة يخص الله وحده دون سواه. وفى كل فكر، بل في كل كلمة وفى كل نظرة، وفى كل عمل صدر منه، كان مصدر سرور للآب. وخلاصة القول قَدَّمَ لله كمال وجمال أعمال طبيعته الإنسانية الكاملة. ولذلك فإن المحبة الأزلية للابن في اللاهوت استقرت على الابن لما صار إنسانًا طوال مسيره هنا على الأرض، كقوله: «الآبُ يُحِبُّ الاِبْنِ» (يو 3 :35 ؛ 5 :20).
لكن عندما أتت ساعة الصليب، فإن ذاك المجيد الفريد، الذي سار كل الطريق في طاعة لأبيه، كانت طاعته عند الصليب، عندما قدَّمَ نفسه لله كالمحرقة، سبب سرور خاص لأبيه. ولقد كانت هذه الطاعة العجيبة الكاملة، إذ وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب، باعثًا إضافيًا جديدًا لمحبة الآب له، وليُغمر بالعواطف الصادرة له من قلب أبيه, وعن هذا الباعث الجديد يقول الرب يسوع «لِهَذَا يُحِبُّنِي الآبُ لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أيْضاً .. هَذِهِ الْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أبِي» (يو 10 :17و18).
وسر تدفق تلك المحبة هو أن ذاك العزيز المجيد الذي مَجَّدَ الآب في كل حياته إذ عاش حياة الطاعة الكاملة والمطلقة لأبيه، لم يكن قط في لحظة أروع مما كان في ساعات الصليب الرهيبة. وبعمله على الصليب، تَمَجَّدَ الله بمجدٍ لم يتمجَّد به من قبل، حتى ولو لم تكن الخطية قد دخلت أساسًا.
إن «المجد» هو «الفضائل المستعلنة». ومجد الله هو تلك الصفات في كمالها المطلق التي ينفرد بها الله وحده أزليًا وأبديًا مُستعرضة في لمعانها الغير المحدود. ومجد الله لم يُستعلن، في كل كمالاته الفائقة، كما أُستعلن في الصليب.
ففي الصليب ثبت بر الله وعدله، وظهرت قداسته، وأُعلن حبه، وتبرهنت رحمته، وتلألأت حكمته، وأُحترم سلطانه، وسطعت نعمته، ولقد سويَّت كل الأمور بما يتفق مع ما يليق بالله (عب 2 :10) «الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ الْتَقَيَا. الْبِرُّ وَالسَّلاَمُ تَلاَثَمَا» (مز 85 :10)
نعم : في الصليب ظهرت كل صفات الله معًا في تجانس وتوائم بديع، وفى ذات الوقت تجلَّت مدى طاعة «ابن الإنسان» في مجد أدبي فائق (فاق حتى مجده الرسمي كالمسيا) ويصف الرب المشهد، في اللَّيْلَةِ التي أُسلِمَ فيها، بالقول :
«الآنَ تَمَجَّدَ ابن الإنسان وتَمَجَّدَ الله فِيهِ (بالصليب) إن كان الله قَد تَمَجَّدَ فِيهِ، فإن الله سَيُمَجِّدُهُ (أي يمجد المسيح) في ذَاتِهِ [في ذات الله أي بوجود المسيح كإنسان في المجد، عن يمين الله (أف 1 :20)، جالسًا في عرش الآب (رؤ 3 :20)]، ويُمجِّدُهُ سَرِيعًا [أي أن الله الآن لن ينتظر وقت الملكوت العتيد لتحقيق ذلك المجد بإجلاس المسيح على عرش داود أبيه باعتباره المسيا الملك، بل بدأ بتمجيده سريعًا، إذ أُقيم بمجد الآب (رو 6 :4)، ورُفع في المجد (1تي 3 :16)، وجلس في عرش الآب (رؤ 3 :21)، رأسًا فوق كل شيء للكنيسة التي هي جسده (أف 1 :23)، منتظرًا حتى تُوضع جميع أعدائه موطئًا لقدميه (عب 1 :13)] (يو 13 :31-32 ؛ 17 :4و5)
وبالنسبة لكونه إنسانًا في المجد الآن، فقد أُعطيَّ الرب يسوع المسيح عطايا من الله، إلهه وأبيه، مكافأة له على إكمال عمل الصليب. ولكون الكنيسة هي جسد المسيح الرأس، وأفراد المؤمنين هم أعضاء هذا الجسد (أف 4 :15،16)، فإن كل العطايا والمكافآت التي قَبِلَها – تبارك اسمه – من إلهه وأبيه، أعطاها لنا نحن المؤمنين باسمه، ليس بمعنى أنه تخلى عن هذه العطايا والمكافآت لنا، لكن بمعنى أنه أدخلنا نحن فيها للتمتع بها معه، وإن كلن طبعًا ليس بذات المنسوب، لأنه لا بد أن يكون – له كل المجد – متقدمًا في كل شيء أكثر من شركاءه (كو 1 :18 ؛ عب 1 :9).
عن هذا الأمر نقرأ في مزمور 68 :18 «صَعِدْتَ إِلَى الْعَلاَءِ. سَبَيْتَ سَبْياً. قَبِلْتَ عَطَايَا بَيْنَ النَّاسِ» (أي كإنسان In Man)، أي باعتباره الإنسان الكامل، المُقام والمُمَجَّد، المُكلَّل بالمجد والكرامة (عب 2 :9)، الجالس في يمين عرش العظمة في السَّماوات (عب 8 :1). وكل العطايا والمكافآت التي قَبِلها من الآب بحسب مزمور 68 :18 قد أعطاها للمؤمنين به، الذين يُسميهم الروح القدس في أفسس 4 :8 ״الناس״، ولذلك يقولُ : «إِذْ صَعِدَ إِلَى الْعَلاَءِ سَبَى سَبْياً وَأَعْطَى النَّاسَ عَطَايَا».
ويا لروعة نعمة «رَبِّي وإِلهِي»! ما تبعه أحد إلى الجلجثة، إلى أرض المعركة، حتى ولا أقاموا عند الأمتعة، بل قد تركه الكل، ولكنه رجع منتصرًا من أعظم صراع، ليقتسم أسلابه وغَنَائِمهِ مع قطعانه الضعيفة (قارن من فضلك عد 31 :27؛ يش 22 :8 ؛ 1صم 30 :24، 25؛ إش 53 :12)، فقد أعطى لكل واحد ولجميع المؤمنين، بسخاء يد المحبة السرمدية، كل العطايا والمكافآت التي حَصَّلَها لنفسه وأُعطيت من إلهه وأبيه. وخلاصة القول : لقد اقتسم معنا غنيمة صراع الجلجثة الرهيب!
أما عن هذه العطايا والمكافآت التي أُعطيت له – تبارك اسمه – فهي :
- الحياة إلى أبد الآبدين (مز 21 :4 ؛ 16 :11)
- الاسم الذي هو فوق كل اسم (في 2 :9)
- موعد الروح القدس (أع 2 :33)
- الملك على الأرض كلها (رؤ 2 :26 ؛ 5 :10 ؛ 20 :4)
- الدينونة (يو 5 :22)
- الكنيسة (يو 17 :2، 6 (مرتين) ، 9، 11، 12، 24)
- الإعلان (رؤ 1 :10)
- الكلام (يو 17 :8، 14)
- المجد (يو 17 :22)
وستكون هذه الأمور المجيدة موضوع تأملنا في الأعداد القادمة، إن شاء الرب وعشنا.