عدد رقم 1 لسنة 2006
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
يعقوب والآلهةالغريبة   من سلسلة: مؤمنون في أماكن خاطئه

(تك 1:35- 4)

كانت نفس يعقوب تقطر مرارة، وكان قلبه مكسورًا وهو يواجه الموقف في شكيم، بعد حادثة دينة، شاعرًا بيد الرب التي ثقلت عليه.  «وكل تأديب في الحاضر لا يُرى أنه للفرح بل للحزن».  كان يحصد نتائج استحسانه الطبيعي وقراره الخاطئ عندما اختار شكيم مكانًا لسكناه بدلاً من الذهاب إلى بيت إيل.  والآن كان عليه أن يرحل على عجل من هذا المكان الرديء الذي ارتبط بالعار والكدر له ولعائلته.  ولكن إلى أين يهرب؟ هل يعود إلى لابان مرة أخرى؟ أم يذهب إلى عيسو إلى سعير؟ إنه لا يحتمل الحياة مع هذا أو ذاك.  فكل منهما ترك أثرًا نفسيًا مدمرًا في أعماقه.  كما أنه لا يستطيع البقاء في شكيم.  إنه مسكين بالحقيقة وهو يتخبّط في أفكاره «كالعصفور التائه من عشه».  ذلك لأنه ترك المكان الصحيح الذي قصده الرب له وهو بيت إيل.

لقد طالت مدة تيهانه، ولهذا زادت خسائره ومعاناته.  تاقت نفسه إلى الراحة، وحَنَّ للرجوع إلى الرب حيث العش الهادئ والحضن الدفيء، ليختبر قول الكتاب: «ارجعي يا نفسي إلى راحتك، لأن الرب قد أحسن إليك» (مز 7:116).  وأيضًا قول المرنم:

 

اهد نفسي يا يسوع
وإذا ضَلَّت خطاها
علمنها تسرع الخطو

تبق دومًا قربك
عن مسار دربك
رجوعًا نحوك

وكم أمين هو الله الذي يبحث عنا ويفتقدنا.  لقد ظهر ليعقوب وقال له: «قم اصعد إلى بيت إيل وأقم هناك، واصنع هناك مذبحًا لله الذي ظهر لك حين هربت من وجه عيسو أخيك» (تك 1:35).  إن ذات الشيء كان قد حدث قبلاً عندما تعكّر الصفو في بيت لابان.  والرب يعمل بكل وسيلة ليرد نفوسنا.  فمن ناحية سمح بالمنغصات ليعقوب لكي يكره المكان ويرحل عنه.  ومن ناحية أخرى وجَّه نداء المحبة له ليقوم ويصعد إلى بيت إيل.  وهذا ما يفعله الرب معنا دائمًا قائلاً: «اذكر من أين سقطت وتب واعمل الأعمال الأولى» (رؤ 5:2).  إنه يريدنا أن نعود إلى أسمى حالة وصلنا إليها سابقًا. وعندما نعود إلى هذا القياس ونستعيد اتزاننا الروحي وشركتنا مع الرب، فإننا سندرك شر الحالة التي انحدرنا إليها.  وكم من شرور تراكمت على بيت يعقوب لم يلتفت إليها حتى نَبَّه الرب روحه.  فطالما كان في شكيم، لم يشعر بعدم التوافق مع الله القدوس، ولا استاء من وجود الأصنام في بيته.  ذلك لأن الجو في شكيم كان مشبعًا برائحة الفساد.  ولكن عندما سمع صوت الرب يناديه ليصعد إلى بيت إيل، فقد استشعر في الحال شر المكان وسوء الحالة التي وصل إليها.  فحدثت نهضة في ضميره، وصحوة روحية في كيانه.

«فقال يعقوب لبيته ولكل مَنْ كان معه: اعزلوا الآلهة الغريبة التي بينكم وتطهروا وأبدلوا ثيابكم.  ولنقم ونصعد إلى بيت إيل.  فأصنع هناك مذبحًا لله الذي استجاب لي في يوم ضيقتي، وكان معي في الطريق الذي ذهبت فيه» (ع 2، 3).

لقد استعاد ذكريات معاملات الله معه طول السنين، منذ أن هرب من وجه عيسو أخيه وتذكَّر تلك الليلة التي قضاها في خلاء مستوحش خرب، وكيف أحاط به الرب ولاحظه وصانه كحدقة عينه.  تذكَّر المواعيد وكيف أن الرب حققها له.  وتذكَّر العمود والنذر في بيت إيل وكيف أنه لم يلتزم به، ولم يرجع إلى بيت إيل، بل بنى لنفسه بيتًا واهتم بأحواله دون أن يفكر في بيت الله أو يهتم به.

لقد أقام مذبحًا في شكيم وكانت النجاسة حوله والأصنام في بيته.  لهذا لم يكن مقبولاً لدى الله.  فإن العبادة الصحيحة ترتبط بالمكان الصحيح والحالة الروحية الصحيحة.  وعلى الرغم من أن يعقوب شخصيًا لم يتورط في عبادة الأصنام، لكنه ترك أهل بيته، كل واحد يعمل ما يحسن في عينيه، ولم يوجّه كلمة لوم أو توبيخ على هذه الأوضاع الخاطئة طوال هذه السنين.

إنه شيء محزن أن يكون وسط عائلة الإيمان آلهة غريبة.  صحيح أن يعقوب في البداية، يوم خاصم لابان بشدة، لم يكن يعلم أن راحيل قد سرقتها.  لكنه بعد ذلك عرف أنها موجودة وسكت.  إذ كان يراعي خاطر راحيل أكثر من خاطر الرب.  كما نلاحظ الانتشار المخيف لبرص الخطية.  ففي البداية اختفت الأصنام بواسطة راحيل، ولم يكن أحد آخر يعلم بها.  لكن الآن نرى يعقوب يأمر كل بيته وكل مَنْ كان معه أن يعزلوا الآلهة الغريبة التي بينهم.  فالإهمال والتسيب سيؤدي حتمًا إلى تفاقم الشر، وخميرة صغيرة ستخمِّر العجين كله.  وعلينا أن نسهر ونحفظ أنفسنا من الأصنام (1يو 21:5).

ومن الملفت للنظر أن الله لم يذكر شيئًا عن هذه الآلهة ليعقوب ولا طلب منه أن يعزلها، لكنه بمجرد أن سمع صوت الرب وكلمة «بيت إيل» فقد اهتز ضميره في الأعماق واستشعر ما يليق ببيت إيل.  واستشعر أن هذه الآلهة الغريبة كانت سببًا في المتاعب التي لاقاها في شكيم.  وما سكت عليه في شكيم يجب أن يُنزَع وهم صاعدون إلى بيت إيل. لقد تذكَّر رهبة المكان الذي ارتبط بحضور الرب قبل 30 سنة مضت، يوم قال: «ما أرهب هذا المكان .. حقًا إن الرب في هذا المكان وأنا لم أعلم» (تك 28).

عندما أقام مذبحًا في شكيم دعاه: «إيل إله إسرائيل».  فقد أراد أن يعمل شيئًا يكفِّر به عن الشر الموجود في بيته المملوء بالأصنام.  وكم من صور للتقوى يرضى عنها الناس، لكنها ليست مرضية أمام الله.  وكان على يعقوب أن يتعلم درسًا عن الله أنه ليس فقط «إله إسرائيل» بل «إيل بيت إيل».  ولا شيء يقود النفس إلى الطريق الصحيح للانفصال عن الشر سوى إدراك الحق الخاص ببيت الله.  وقد يظن البعض أنه لا يوجد ضرر من الاشتراك مع آخرين في ممارسة عبادة ترتبط بها أشياء عاطلة ليست بحسب الحق، ما دامت قلوبهم هم صادقة ومستقيمة أمام الله.  أو بلغة الرمز الذي أمامنا يتوهمون أنهم يمكنهم أن يعبدوا الله في شكيم وفي وجود الأصنام، حاسبين أن مذبح شكيم لا يفرق عن مذبح بيت إيل.  وهذا خطأ كبير.

كان للآلهة  الغريبة مكان في بيت يعقوب، لكن لا مكان لها في بيت إيل أي في بيت الله.  فهل يليق بنا أن نغير نظام بيت الله وترتيبه، ونقترح أشياء من استحساننا نحن، على اعتبار أن البيئة والمجتمع حولنا يقرّون ذلك؟! نحن لا نقبل تعديلاً في بيوتنا لا يناسبنا، فهل نقبل ذلك في بيت الله؟! الله يرتب بيته بحسب فكره وتذوقه.  وليس لنا أن نُعدِّل فيه شيئًا.  وإذا فعلنا، فلم يعد هذا بيت الله.  وفي تيموثاوس الأولى 3 نرى كيف يجب أن نتصرف في بيت الله الذي هو كنيسة الله الحي.  وفي تيموثاوس الثانية 2 نرى كيف نحفظ أنفسنا كأواني للكرامة بالانفصال عن أواني الهوان وسط جو الخراب الذي دب في البيت الكبير الذي هو دائرة المسيحية ككل.

لقد حدثت نهضة حقيقية في يعقوب وانعكست على كل أهل البيت.  ونراه لأول مرة يمارس سلطانه الأبوي في بيته، مقدرًا اعتبارات قداسة الله.

كانت كلماته قوية التأثير على كل بيته، فالجميع بخوف وارتعاد أمام إله بيت إيل، قالوا مع مَنْ قال: «مالي وللأصنام» (هو 8:14)، ووقفوا في صف الله ضد الشر الذي احتضنوه لسنوات طويلة.  وبلا تردد «أعطوا يعقوب كل الآلهة الغريبة التي في أيديهم والأقراط التي في آذانهم فطمرها يعقوب تحت البطمة التي عند شكيم» (ع 4).  إن الأيدي مخصصة للعمل للرب.  لكن هذه الأيدي كانت مشغولة بالأصنام.  والآذان مخصصة لسماع صوت الرب، وليس للزينة الخارجية.  إن هذه الكلمات التي كُتبت منذ زمن بعيد إنما كُتبت لأجل تعليمنا وإنذارنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور.  إن الأقراط التي كانت تُستخدم للتزين هي التي عُمل منها العجل الذهبي قديمًا، ورقص الشعب حوله وقالوا هذه آلهتك يا إسرائيل (خر 32).  كذلك فإن الحُلي كانت تُستخدم في الشرور المرتبطة بالعبادة الوثنية (هو 13:2).

إن الأصنام هي كل شيء يأتي بيننا وبين الله.  كل ما يدخل إلى بيوتنا وحياتنا ويحتل مكانًا في قلوبنا ونتعلق به، سواء كان شيئًا ماديًا أو معنويًا أو شخصًا صار له مكان أكبر من الرب.  بل إن أخطر إله غريب هو الذات التي قلما نفطن لها.  فنسعى أن نرضيها ونلبي رغباتها ونفعل إرادتها على حساب رغبات الرب وإرادته في حياتنا.
إن عزل أو نزع الآلهة الغريبة ليس سهلاً، ويحتاج إلى إماتة ورفض كل ما لا يتفق مع قداسة الله.  وهذا مؤلم للجسد الذي فينا.
أمر يعقوب أهل بيته أن يتطهروا، فلا مجال للدنس في بيت إيل.  ففي محضر الله نكتشف بشاعة الخطية ونجاستها.  كما أمرهم أن يبدلوا ثيابهم.  والثياب تتكلم عن العادات والتصرفات والسلوكيات الظاهرة.  لقد استشعر أن ثياب شكيم لا تصلح في بيت إيل، وأن المظهر التقوي وليس العالمي، هو ما يليق ببيت إيل.
كل هذا من الناحية السلبية، لكنه أمرهم إيجابيًا أن يصعدوا معه إلى بيت إيل، ويكون لهم ذات الاهتمام، ويكون لهم علاقة بالمذبح الجديد في بيت إيل.

لقد كان له رجاء في الله الذي استجاب له في يوم ضيقه، ونجَّاه من عيسو، وحفظه في الطريق، أنه سيزيل السحابة الكئيبة التي خيمت عليه في شكيم.

موكم هو مُسرٌ أن نرى عمل الله في كل العائلة حيث تجابوا بسرعة فائقة معه.  فأعطوه الآلهة الغريبة التي طلبها وأعطوه الأقراط التي لم يطلبها.  فطمرها يعقوب تحت البطمة التي عند شكيم.  وعندما يأخذ الرب مكانه في القلب، ستأخذ الآلهة الغريبة مكانها في التراب.  ومن هنا نتعلم أن ما استُخدم في الشر وجلب الإهانة والعار والتأديب، لا يصلح أن يُستخدم في عمل الله.  لذلك يجب أن نبغض حتى الثوب المدنس من الجسد.  ويمكننا أن نرى في البطمة رمزًا للصليب الذي هو قوة الله للخلاص والتحرير من كل ما ارتبطنا به في الماضي.  فبه صُلب العالم لنا ونحن له.  تحت البطمة دفنت الأصنام، وعند الصليب يُدفن كل ما كان عزيزًا وغاليًا في حياتنا، ليبقى الرب وحده وليس معه شريك في القلب. (يتبع)

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com