عدد رقم 3 لسنة 2003
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
يعقوب في الطريق إلى آرام   من سلسلة: مؤمنون في أماكن خاطئه

 يعقوب في الطريق إلى آرام
(تك 10:28-13)

ابينمانرى في إبراهيم الاختيار والدعوة، وفي إسحاق البنوة والميراث.  فإن الدرس البارز في يعقوب هو التأديب والتدريب.  وهذا يرتبط بالبنوة.  فأي ابن لا يؤدبه أبوه؟ والآب الحكيم يؤدبنا للمنفعة لكي نشترك في قداسته.  لهذا يجب أن نخضع لأبي الأرواح فنحيا.  «ولكن كل تأديب في الحاضر لا يُرى أنه للفرح بل للحزن.  وأما أخيراً فيعطي الذين يتدربون به ثمر بر للسلام» (عب 12).

وطالما كان الدرس البارز في يعقوب هو التدريب والتأديب، فإن حياته قد امتلأت بالتقلبات والمتغيرات التي شملت المكان والزمان والظروف المحيطة.  لقد تعرّض لضغوط كثيرة تحت المعاملات الإلهية، ومحصته تجارب الزمن.  دخل في امتحان بعد امتحان وحمل أحزاناً فوق أحزان.  لكن هذه المعاملات والتدريبات قد أثمرت فيه نضوجاً ولمعاناً وإيماناً في آخر حياته أكثر من جميع الآباء.

«خرج يعقوب من بئر سبع وذهب نحو حاران» (تك 10:28).  وكانت هذه هي المرة الأولى التي يترك فيها البيت، وهو الذي كان يحب البيت ويلازمه، وكان هذا قاسياً عليه.  لقد خرج هارباً من بيت أبيه من وجه عيسو أخيه ومن غضب هذا الإنسان الشرس والمفترس الذي حقد عليه وقرر أن يقتله.

وكم هو أمر مؤلم أن ندخل إلى مشاعر يعقوب، ذلك الابن الذي حصل على البركة حديثاً، لكنه لم يستمتع بها، وأن نتتبعه وهو يرحل بعيداً عن البيت ويسير هائماً على وجهه في الصحراء، يواجه الحياة بقسوتها.  وحيداً في أرض قفر وفي خلاء مستوحش خرب.  بلا أب أو أم، بلا زوجة أو أولاد، بلا أخ أو صديق يؤنس الرحلة الطويلة.  كان الخوف والقلق يتملكانه، وكان قلبه يخفق وهو يفتقد الحنان والأمان.  إذا نظر خلفه يتذكر خطيته وكيف خدع أباه.  ويتذكر غضب أخيه ومرارة نفسه.  وإذا نظر للأمام يشعر بصعوبة الرحلة الطويلة التي تبلغ 800 كم حتى يصل إلى حاران.  إنه لا يعلم ما قد يكون في غده ولا كم سيطول العمر به ولا ما تحمله الأيام له.  إنه لم يعبر هذا الطريق من قبل، والمستقبل المجهول يملأ قلبه بالرعب. 

وبعد رحلة اليوم الأول حلَّ المساء، والشمس كانت قد غابت، مما زاد شعوره بالخوف.  وكان الأجدر أن هذه المشاعر تقوده للارتماء على الرب، والتعلق به، والتضرع إليه طالباً رحمته، ومسترجياً وجهه البسّام المرشد الطريق.  ولكنه بالأسف لم يتعلم يعقوب درس الاتكال على الرب ولم يتعود أن يصلي.  لهذا وهو في أشد الأوقات احتياجاً لا نقرأ أنه ركع ليصلي.  لقد عاش كل حياته مستقلاً بذاته معتمداً على ذكائه وفهمه وقدرته الطبيعية.  كان ضميره مثقلاً بسبب ما فعل.  ولا يشعر براحة وثقة وأمان من نحو الله.  لم يفكر فيه ولا كان يشعر بمحبته العطوفة المشفقة ولم يكن يصدق أن الله في صفه وأن في قلبه نعمة كبيرة نحوه رغم رداءته.

لقد «صادف مكاناً وبات هناك لأن الشمس كانت قد غابت، وأخذ من حجارة المكان ووضعه تحت رأسه، فاضطجع في ذلك المكان» (ع 11).  كيف للابن المبارك والمحبوب أن يفترش الرمال ويلتحف بالسماء وتكون وسادته من حجر؟ إن هذا كان بسبب الأسلوب الأعوج والجسدي الذي انتهجه.  فإن «الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً» في وحشة القفر الخرب، ووحشة الليل، ووسط العديد من المخاطر ووحوش البرية، بات ليلته الأولى مستسلماً لليأس، لا يعلم إذا كانت ستشرق شمس الصباح أم لا.

لكن من الجانب الإلهي نرى إله كل نعمة الذي أحب يعقوب وترفق به.  فنقرأ أنه «وجده في أرض قفر، وفي خلاء مستوحش خربٍ.  أحاط به ولاحظه وصانه كحدقة عينه» (تث 10:32).  لقد وجده إذ كان تائهاً وهائماً على وجهه.  ووجده كمن وجد كنزاً ثميناً يعتز به.  فإن «يعقوب حبل نصيبه» (تث 9:32).

وبينما كان يعقوب نائماً في هذا الوضع، لا يملك شيئاً، لا يستحق شيئاً، ولا يستطيع أن يعمل شيئاً، فالنائم كأنه في وضع الموت والعجز الكامل، مسلوب الإرادة والتفكير الواعي.  هناك تقابل الرب معه بنعمة سامية.  وعندما يصل الإنسان إلى نهاية ذاته، وإلى هذه القناعة أنه ميت بالذنوب والخطايا، فإن الله يعمل من نفسه بنفسه، متخذاً من حالة الإنسان الفاشل والعاجز مجالاً لاستعراض محبته وصلاحه وغناه في النعمة.  وهذا ما نراه في أفسس الأصحاح الأول والثاني.  فهناك نرى الإنسان ميتاً في خطاياه (ص 2)، والله يتحرك وحده لكي يبارك ويسعد ويختار ويعيِّن وينعم ويغدق على هذا الإنسان البائس والمسكين (ص 1).

وفي الوقت الذي فيه لم يكن يعقوب يفكر في الله من قريب أو بعيد، كان الله يفكر في يعقوب أفكار صلاح وسلام ونعمة.  وانطبقت عليه الكلمات «أصغيت إلى الذين لم يسألوا.  وُجدت من الذين لم يطلبوني» (إش 1:65).

لقد تقابل الرب معه لأول مرة عندما ظهر له في ذلك الحلم الجميل إذ «رأى حلماً، وإذا سُلَّم منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء، وهوذا ملائكة الله صاعدة ونازلة عليها وهوذا الرب واقف عليها ..  فقال: أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحاق» (ع 12،13).

كان غرض الحلم هو التشجيع والتقويم والتعليم.  لقد رأى في الحلم جيشين من الملائكة، جيشاً صاعداً وجيشاً نازلاً على السلم.  ورأى الرب نفسه على رأس السلم يتكلم معه ويعطيه أغلى المواعيد.  لقد كان يعقوب الفاشل العاثر هو موضوع عناية السماء وخدمة الملائكة والمواعيد الثمينة.  والعجيب أننا لا نقرأ عن إبراهيم أو إسحاق أنهما رأيا ملائكة الله بهذا الشكل، ويا للنعمة التي اتجهت ليعقوب! 

ولكن تبقى الحقيقة المؤلمة، كما قال أحد الأفاضل، إنه ولا ملاك واحد من كل هؤلاء وضع يده تحت رأس يعقوب، بل ظل رأسه على الحجر.  فإن نعمة الله لا تلغي حكومته البارة.  إن المؤمن في الوضع الصحيح وفي الشركة مع الرب يستطيع أن يختبر القول: «شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني» (نش 6:2).

ومن ناحية أخرى ما أجمل الرمز الذي أمامنا في هذا الحلم، كما علّق أحد الأفاضل، حيث نرى السلَّم المنصوبة على الأرض ورأسها في السماء، رمزاً للرب يسوع المسيح الذي أتى من السماء ووصل إلى الأرض بالنعمة.  إنه طريق الله إلى الإنسان وطريق الإنسان إلى الله.  لقد حلّ بيننا (نصب خيمته بيننا).  وعندما جاء إلى الأرض كانت السماء وكل ملائكة الله مشغولة بهذا الحدث الجليل وبهذا الشخص الكريم، حيث نقرأ عن أربعة ظهورات ملائكية ارتبطت بمجيئه في الجسد، وعن ملائكة أتت وصارت تخدمه بعد التجربة.  ولقد قال الرب يسوع لنثنائيل الذي اعترف به كالمسيّا قائلاً: «أنت ابن الله! أنت ملك إسرائيل!» (يو 49:1)، قال له يسوع: «سوف ترى أعظم من هذا! وقال له:  الحق الحق أقول لكم: من الآن ترون السماء مفتوحة، وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان» (يو 51:1) مشيراً إلى مجده العتيد كابن الإنسان الذي سيملك على العالم العتيد كله.  وهذا أعظم من مجده كالمسيّا ملك إسرائيل.

وإن كنا نرى في السلّم الوسيط الوحيد بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح، فإننا نرى في الحجر الذي وضعه يعقوب تحت رأسه رمزاً ثانياً للرب يسوع، الحجر الذي رفضه البناؤون.  كما قال عنه الرسول بطرس: «الذي إذ تأتون إليه، حجراً حياً مرفوضاً من الناس، ولكن مختار من الله كريم» (1بط 4:2).

 لقد قال الرب يسوع عن نفسه: «أما ابن الإنسان فليس له أين يُسند رأسه» (مت 20:8).  كان يذهب ويبيت في الجبل الذي يدعى جبل الزيتون.  ولعله كان يأخذ من حجارة المكان ويضعه تحت رأسه.  ويا للنعمة والاتضاع!!

لكن هذا الشخص المرفوض كان في نفس الوقت هو المريح لكل المتعبين.  كما كان الحجر، في الرمز، هو الوسادة التي استراح يعقوب عليها وأتكأ رأسه ونام.  فعندما رُفِضَتْ خدمة المسيح من مدن كثيرة «أجاب يسوع وقال: أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض، لأنك أخفيت هذه عن الحُكماء والفُهماء وأعلنتها للأطفال.  نعم أيها الآب، لأن هكذا صارت المسرّة أمامك .. تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم» (مت 25:11-28).  وكم من نفوس قد استراحت به وتستطيع أن تتكئ الرأس عليه باطمئنان.  بات يعقوب تلك الليلة على هذا الحجر.

  وهكذا نرى في «الليل» رمزاً لآلام المسيح ورفضه الذي بلغ ذروته في الصليب.  وسنرى في المرة القادمة - بمشيئة الرب - استكمال هذه الصورة الرمزية الجميلة «في الصباح» عندما استيقظ يعقوب من نومه.

أما الآن فنرى الرب الواقف على رأس السُلَّم في أول حديث مع يعقوب وفي أول ظهور له.  والعجيب أننا لا نقرأ كلمة توبيخ واحدة ولا كلمة عتاب ولا أية إشارة لما فعله يعقوب في بيت أبيه للحصول على البركة.  ولا نقرأ عن مصارعة بين الرب ويعقوب في هذه الليلة. 

فهل غض الطرف عن خطيته، وهل كان راضياً ومسروراً بأسلوبه؟ كلا.  وإنما هو الإله الحكيم وحده الذي يعرف كيف يتعامل مع كل فرد بأسلوب خاص في موقف معين وبأسلوب آخر في موقف آخر حسب حكمته السامية.  وهنا تعامل مع يعقوب بلمسات النعمة الرقيقة والحانية.

لقد بدأ حديثه بالقول: «أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحاق».  ولأنه هو الرب «يهوه» الذي لا يتغير ولا يغير ما خرج من شفتيه، فإنه ملتزم بكل ما قال وكل ما وعد به إبراهيم وإسحاق.

  وها هو يؤكد ذات المواعيد ليعقوب، رغم أنه لم يكن كإبراهيم أو إسحاق، وذلك بالنعمة. 

إنه بحق «إله كل نعمة».

(يتبع) 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com